السبت ١٢ نيسان (أبريل) ٢٠٢٥
بقلم ماجد عاطف

على وشك التقاعد

الأستاذ أبو أكرم، منذ اقترابه من التقاعد، واجهته المشاكل.

كان الخلاف حول سنوات عمله الفعلية. فُصل تعسفاً في وقت من الأوقات، وعندما عاد للوظيفة لم يعترفوا بسنوات فصله في سجله. اعتقد أنها مسألة تالية سيعالجها في وقتها. له توجّه مختلف عن المسؤولين الذين لو استطاعوا لأنكروا فصله التعسفي. لكنه يحتفظ بالوثائق واستطاع الاثبات. (متأخراً جداً، شيء غريب سيحدث، حين تتعرّض وثائقه كلها لرطوبة من نوع غريب تأتي على أنواع الحبر المختلفة، في مكتبة بيته).

في وقت عودته للوظيفة، وحتى بعد سنوات تغيّر فيها الذي تغيّر، على كل الناس، لم يهتم. لكنه اقترب من سن التقاعد ويلحّ بشدة على احتساب سنوات الفصل التعسفي لأهميتها في تحديد نسبة التقاعد النهائية والأمور المرتبطة.

فتفتحت عيناه على حكايات المتقاعدين أمثاله، الذين أخذوا فوق سيرتهم ومستحقاتهم وزيادة، لأنهم يشابهون ولهم من أواصر الود والقرار ما يحسن الزلفى.

بعد الكتب الرسمية التي رفعها للاستعلام والتنويه والمتابعة ولم يتلق شيئا كجواب، لاحظ حركات غريبة في المكاتب وعلى وجوه الموظفين وتمتمات سرت إلى صغار الموظفين في الدائرة، الذين لهم "حركات" من خارجها. كان عليه وهو يمضي أمامهم داخلا وخارجا ومحتكاً بهم أن يتفحّص كل شيء يعرفه عن نفسه ليجد سبب التغييرات.

شهور تجاوز فيها سن التقاعد المحدد دون تعميم أخير وأخذت الحركات تطال أقاربه وجيرانه. صاحب الدكانة القديمة، التي تطوّر أثاثها الداخلي بقرض، وصاحب العشرة والتاريخ، يتثاقل منه وكفّ عن السماح له بالاستدانة بحجة أن الرواتب في علم المجهول ولا يستطيع أن يحتمل نفاذ السيولة.

ابنته المتزوجة حين تزوره مع صهره تكثر السؤال عن مستجدات عمله، ضمن الأخبار العادية. زوجها يكون ساكتاً دائماً يستمع بانتباه غير عادي (جعله ينتبه له).

أمها، زوجته، بدأت تكثر الكلام عن مشاكل أناس لم يهتم لهم يوما، وما حدث معهم. حين يفكّر في المناسبة لا يجد إلا أنها تحاول قول شيء له، دون قول، فلا يفهم. سلفته، أختها الكبرى، تطلبه على الهاتف لتسأله عن أحواله متوددة، وهو شيء لم تفعله من قبل، ولطالما كان مستريحاً منها مستكينا لصلة الأختين الجانبية يصله السلام فيرسل التحية.

أناس بعيدون عن وسطه بدأت تصله منهم دعوات اجتماعية، فيستغرب كثيرا، ولا يلبي طبعا، لأن التلبية تعني المشاركة المقابلة –التي تتحوّل اجبارية- في مناسبات يريدها أن تظل ضيّقة، فوق التكاليف اللازمة للتهئنة والمباركة. زوّج ابنته منذ زمن طويل ولم يعد يحتاج لأكثر من التهاني الدينية.

كان شيء يحدث في عمله هو.

استغل تجاوزه لسن التقاعد وطلب مقابلة المسؤول كذريعة للاستفسار عمّا سيحدث.

بعد أن بسط الموضوع بكل تأدب، رد عليه الآخر بأنه لم ينه بعد سنوات الوظيفة.

جن جنونه وسيطر على نفسه. ذكر من الكنباية الثنائية أمام الطاولة القصيرة البنية، فلانا وعلانا وكثيرين كأمثلة على الاحتساب.

 هؤلاء نعرف ظروف فصلهم!

كانت أول رد أو جواب على ما قدّمه.

 ما فهمت سعادتك؟

 بعدين.. بعدين.

لملم الأستاذ أبو أكرم حيرته واضطرابه وخرج بتثاقل من المقابلة التي انتظرها مدة أسابيع. كان فمه جافا. لم يشرب قهوة ليجف لعابه كما يحدث معه عادة، إذا لم يتناول كوباً من الماء البارد قبل الفنجان. ظروف الفصل تعني زمنا سابقا من المفترض أنه انتهى وواضح، لا علاقة لهم هم به.. لا أحد سأله من قبل، بل تلقوا معاملات العودة للعمل بترحاب وسعادة كأنهم كانوا معنيين، والآن توقفوا.

عمله في الدائرة يؤديه بشكل كامل، روتين وانضباط، ولكنه لا يقترب اطلاقاً من الشلل والاتفاقات الجانبية وصراعات الصغائر. النقابة لا يهتم بها ولا يشارك في أي دعوة منها (ولو استطاع لاستعاد ما يجبر على دفعه لها من رسوم). لا تمثل أحداً أصلا، وكل الأنشطة والدعوات والقرارات ليست من أجل الموظفين، بل تأتي بتعليمات جاهزة والكل يعلم..
ثم خطر له أن شيئاً أبعد لربما أنه حصل.

بكتمان يستعين به على قضاء الحاجات، تدبر حجة جانبية لمشواره المقبل ومضى يتمشى إلى المكان القديم، وفي عقله جزء من منزل يعود لشريك درب، كانا يجتمعان فيه، على أمل أن يصادفه ويتحقق دون قول شيء.

قبل أن يصل المكان بثلاثين متراً رأى شاهدا من الرخام عليه صورة محفورة بتقنية ايامهم هذه، وفيها وجه شريكه، كشهيد.

ضربته الصدمة في مفاجأتها. وهو قطع التواصل تجنّب الاجتماعيات ومتابعة الأخبار، شيء مضى في حال سبيله، لا يعلم عنه غيره لا زوجته ولا ابنته. ثبت في تشوش العقل المستطير كزوبعة من ضباب بقدر ما تمكن، وواصل طريقه معه حجته التي جهزها لغيره.

الأسابيع التالية كانت خلخلة من تأمل أشياء ثابتة لم يخطر له أن يفكّر فيها. لم يتأثر أداؤه في العمل لكن تغيّراته النفسية لاحظها الجميع، من ابنته وزوجها إلى الفرّاش وصانع القهوة وصاحب الدكانة الذي بدأ يتجاسر عليه ويستغله عند رفع الأسعار، بوقاحة.

ثم بدأت الاستدعاءات تصله بمعدل مرة كل أسبوعين، للتحقق من نقطة وظيفية هنا وأخرى هناك. لقد راقبوه بالتأكيد. كان يوضّح التفاصيل الروتينية لكنه يُطالب بالأكثر كأنه مكذّب. يجهل كل شيء عن استشهاد شريكه، ويستطيع أن يستفسر من بعضهم، لكنه عندها سيفتح دفاتر قديمة ويلفت النظر.

ابنته تغيّرت وصارت متجاسرة جريئة. حاجباها كأنهما أكثر تنمصا، والشفة في الأعلي ماطة أكثر. إنّها تحوم حول ما يعرفه جيدا، ولكنه يأبى الرد. شيء لا يخصّها، ولا يمكنها أن تحيط، خاصة إذا دفعها أحد لذلك.. زوجها صارت ملامحه بعيدة في الشماتة إلى درحة أنه أخذ يعتذر عن مقابلته متعذرا بالتعب والصداع وقرر عدم السماح له بالقدوم.

زوجته أخذت تلومه في تصرفاته الصغيرة داخل البيت وتؤلب عليه أي اهمال أو انشغال وموقفه من صهره، مستعينة بمعارفها الذين كانت تنقل أخبارهم له وهو لا يهتم، الذين دخلوا حياته عن طريقها وبيته مصطحبين زوجاتهم معهم.
كان يتحرّج ولكن الأمر لا يُحتمل، فكان يرسل لهم ملامح متحجرة مقصودة كيلا يعودوا.

أناس لم يكن بينهم وبينه شيء انتبه لنظرات عدوانية في عيونهم. أما الذي بينه وبينهم ود قديم (لسبب أو آخر)، فقد كان يقرأ تعابير الخوف والتجنّب عليهم متى واجههم في طريقه. بل إنّه أخذ يفكّر في المواجهة نفسها ما اذا كانت عادية أم لا، كأنهم يثبتون براءتهم من شيء ما.

كتم أعصابه وقلقه خلف قناع من الجمود.

وفي وظيفته أحسّ أنهم يريدون احالته للتقاعد فعلا، على أن يبخسوه كل ممكن ومستحق له فيؤجلون شيئاً، لآخر قد يطرأ.

لم يكن له، فعلا وبعيداً عن الناس والمعارف والأٌقارب كل الأقارب، إلا الله، فلاذ إلى الصلاة والمسجد، وقت كل متاح. هناك رأى آخرين يشبهونه في الملامح صابرين، فأخذ يفكّر بما خلفهم.

ولمّا كان، ذات وضوء في الحمام الواسع من مسجده المعتاد، الأكبر من غيره من حيث المساحة والتهوية الآتية من السقف المفتوح، أن أغلق الباب وأمّنه بالمزلاج، ظهروا له بطريقة لا يمكن أن يعقلها أحد.

 الآن إمّا أن تموت في المرحاض، وتعرف معنى هذا جيداً للناس، أو ..

لم يكن الأستاذ أبو أكرم بحاجة لسماع التكملة فقد فهم كل الذي جرى، ولا هم صرّحوا بها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى