الأربعاء ٩ نيسان (أبريل) ٢٠٢٥
بقلم ماجد عاطف

بحسب الصحابة

من طريقة تدخينه، وهو يجالس ضيفه على البساط أو الأريكة، ينظر اليه من جانبه، يحتمي بيده على خده، يستمع ويزن الكلام بنظرات حذره، ثم لا يحادثه إلا على قدره في الموضوع الضيق عينه، يحسّ الآخر -قبل أن يفهم- أنه يحتفظ بتجاربه لنفسه.

أتى الابن الشاب متأخّراً كثيرا بعد العِشاء بساعات، فتلقى وابل الغضب في وجهه. أين كنت ولماذا تأخرت، وألا تعرف الذي يحصل. البارحة اعتقلوا اثنين وصدر الحكم على ثالث ونفّذوا رابعا..

الولد ليس بالمتعلّم. أنهى الثانوية بالكاد وقال اقف هنا. وجد عملا بسيطاً يصرف منه والتحق بحلقات المسجد القريب، ثم تكاثر عدد الحلقات والمساجد والمشايخ. مضت عدة سنوات. لم ير ضررا فالدين جيّد، ولكنه عندما عاد ذات يوم وأعلن أنه سيلتزم بزي الصحابة، خرج من العقلانية.

 صحابة مَن يا خوي؟

ماذا ستفرق يا غبي؟ الدشداشة تظل كذلك ولو من قطعتين، والسروال سروالا ولو كان من جينز. المهم السترة.
لم يستطع منعه. ومع الوقت ذاهبا آيبا بالزي الجديد -شيء باكستاني وسترة خفيفة فوق الثوب يطال ركبتيه بسروال أطول مسترسل من قماش- لم يجده بهذا السوء، واعتاد عليه.

كانت عين الوالد، في الحقيقة، على الأبعد. صلاة والتزام وحلقات ومذاكرة وتناصح وتعاهد ووقفة حق فعدم السكوت عن الباطل والساكت شيطان أخرس، ثم ينتهي الأمر به ملتحقاً بجماعة -مضروبة- أعطى البيعة: حيّ على الجهاد! فإذا لم يمت فإن السجن ينتظره، الذي إن خرج منه، فلأسابيع قلائل فقط، قبل أن يعود إليه.

كان يعرف، بمفردات أخرى وتقسيمات وتسميات وهيئات، الاتجاه الذي يسير فيه.

اخذه جانبا في الصالون واغلق الباب. استخرج دفتراً قديما وقلما وبدأ يكتب إليه. كتب:

 هذا بيتي ولا آمن فيه.. شفت كثيرا وصدّقني دائماً هناك باطن مختلف. مهما كانوا صادقين مخلصين يكفي واحد بينهم ليضيّعك. الزمن أصعب وكل نحلة مراقبة.

لم يقبل الابن هذه الطريقة في التواصل التي رآها مبالغا فيها، ولم يعبأ بأن يرد بالصوت:

 زمنك غير زمني.
 اسكت يا ولد!
 لا تفكرني مثل جماعتك العلمانيين. باعوا دينهم وما ظل لديهم ما يبيعونه ليشتريه أحد منهم.

سيورّطه الولد. كتب له بسرعة:

 زمنا زمن الثورة، كان أسهل من الآن وهناك الذي يساندنا ولم نسلم. للفدائيين كان مصير التضييع والتنازلات ثم التكالب على بعضنا نأكل من لحمنا فقط لنعيش، واسأل امّك عن عيشتنا كيف كانت، نرتعب من أن يودي بنا جار أو منافس في الوظيفة. بالتعب تمكنت من التوقف جانباً والاستمرار دون أن ينتهي أمري وأمركم.

 أنتم كنتم تريدون تحررا، مبادئ ناقصة واستراتيجيات وتكتيكات خدعوكم بها ولا يهم ان صرتم بعد ذلك مثلهم، فاسدين. كل الثوارت تتبع محتلها بعد الاستقلال. وخدعوكم جميعاً فخرجتم دون حبّة حمّص أو تفعلوا شيئاً. نحن نريد تطبيق الشرع في كل الظروف ولو طوعاً، فنظل كما نحن على الأقل، ولا بد أن يتغيّر الزمن.

عند هذه النقطة تذكّر الابن أن التطبيق الطوعي للدين في مجتمعات اختيارية مرفوض كذلك. لم يتركوها في شأنها أيضا وهي في الغابات معزولة.

كتب الاب الذي سمع "تطبيق الشرع" فتخيّل السيف والسوط ثم تمالك نفسه، كتب على الصفحة التالية من الدفتر، يرجو إن كان ابنه حاد العقل طائشا سيودي بنفسه، فسينجو هو على الأقل إذا كان هناك من يتصنت عليه. سيقول عنه عندها مجذوب أثّرت فيه الدروشة ويكلّم نفسه:

 هدفكم يا يابا حبيبي اسمع مني أصعب..

وامسك بذقنه مستعطفاً إياه أن يقبل منه ويتوسّل إليه ألا يضطره للشرح أكثر. كتم الكثير وهؤلاء وأبناؤهم من بعدهم ينبشون كل شيء إن سمعوه ولو كان بعد خمسين عاما. لا يتركون شيئاً دون أن يفلفلوه. كل الدول الموجودة وأتباعها غير التجار والأفاكين وغير المسلمين سيلاحقونهم، لأنهم كلّهم مهددون بالدين الذي يريدون تطبيقه. صوّب القلم على سطح ورقة الدفتر، وكتب بقوّة لم يكترث معها لانكسار رأس القلم:

 صلي وصوم وزكي وحج لا أحد يمنعك. ابتعد فقط عن الجماعات.

لم يقبل الشاب الذي يرى نفسه أكثر علماً وأجرأ وأصدق بأن يطالع كتابة والده. عدم الصلاة وتدخين والده، ومن قبله أشياء كثيرة في العائلة والأقارب أثناء المناسبات والاختلاط، لم يكن راضياً عنها. تسلّط على اخوته الصغار واخواته ومعهم أولاد الجيران في النهي والأمر، فأطاعوه. كانوا يتأثرون لمسلكه وفارق العمر فتقبّلوا منه على خوف يوازي الاقتناع. لولا ذلك لتسبب له بمشاكل مع الجيران.

لكنه لم يستطع اقناعه هو بالصلاة وترك التدخين كما طلبوا منه في المسجد، بل انتزع السيكارة منه ومزّقها، فما كان منه إلا أن اسقط صفعة على وجهه "لقلة الاحترام".

التزم عندها بنص الآية فتلاها في وجهه: وإن جاهداك على أن تشرك.. إلى: وصاحبهما في الدنيا.

 أنا اريدك أن تشرك يا كلب؟؟

 بعد إذنك يا والدي، اريد الخروج.

وخرج.

انتزع الوالد الصفحات من الدفتر ومزّقها. ذهب إلى الحمام العربي الذي أوجده ابنه مع مرفق وضوء، وهناك فتفت المزقات ثم تخلّص منها ساكبا سطلين من الماء بعدها. تشاجر معه وقتها يضمر له التالي، لماذا هدم "الكرسي"؟ فردّ عليه أن التقرفص طارد للفضلات صحي أكثر يفعّل كل العضلات الهضمية وفيه أثر للسنة. اقتنع، لكنه سأله:

 وماذا نفعل مع امّك التي تتحرّك بصعوبة؟

 احضرت لها كرسياً من البلاستك مخصصا لها. ربما لو كانت معتادة على الحمام العربي لكانت عضلات ساقيها أقوى.
في ذلك الأمر القمه الرد المقنع بالحجّة فسكت، خاصة أنه هو الذي دفع من جيبه ثمن التغييرات.

بعد شهور متقطّعة وصلت لسنتين، تبع ابنه وأخذ يصلّي في المسجد بحذر حتى من المصلّين، في أوقات متقطّعة. بقي يصلي في البيت. في المسجد سيلتم مشايخه عليه ويتورط في شيء إذا ربطوه بهم. لكنه يظل صغيراً.

فكّر، عليه أن يجد حلاً:

طالما لا يمشي ابنه معه، فسيمشي هو مع ابنه. لقد عزم على أن ينقل له تجربته، جزءاً جزءاً، قدر الحاجة وليقم هو بمواءمتها بحسب الصحابة. سيقدّر المرحلة التي هو فيها ويعطيه نصائح. يأمل فقط ألا يضطر للافصاح عن الأسرار التي يكتمها ويتمنى لو أنه لم يعرفها.

بل لربما هناك أمر أفضل: سيدس أمّه عليه قبل أن تتضخم صحوة في رأسه ويجرّه معه إلى المتاعب، طالما أعطى بيعة، كما يقدّر. سيجعلها تقنعه وسيفعل كما يتفق الجميع، العدو والصديق والمتفرّج والناصح والمتربص معا، أن يزوّجه. هكذا، سيغرقه بالمشاغل وضرورات الدنيا فلا يجد وقتا لشيء، وليتدبر هو حينها أمر الصحابة.

أين يجد زوجة له من طينته ولا يوصلانه -معاً- لكارثة؟!

الأبله!

يحسبه يجلس جانباً بعد تقاعده أخيراً يدخّن ساكتاً ينظر لمتغيّرات الدنيا من بعيد..، لا يخالط الناس إلا للضروري فقط، من قليل!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى