الأحد ٢٦ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٥
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

كيف نفهم النَّصَّ الأدبي؟

إنَّ مِن شَرْح الشِّعر في تراثنا ما يبدو إفسادًا للنصِّ، وإسفافًا في فهم معناه، وتقييدًا بليدًا لآفاق دلالاته الشِّعريَّة. خُذ مثالًا نموذجيًّا من شرح الشُّرَّاح بيت (أبي تمَّام)(1):

إِنَّ الإِخــاءَ وِلادَةٌ وأَنـا امـرُؤٌ
مِمَّن أُواخي حَيثُ مِلْتُ فأُنجِبُ

فماذا تفهم من هذا البيت؟ هكذا تساءل (ذو القروح) في المساق السابق. فسألته:

ـ أنت ماذا تفهم؟

ـ أمَّا أنا فأفهم- ربما بنزوعٍ (ما بعد حداثيٍّ)، يرى في التأويلات المفرطة إفسادًا للنصوص وإسفافًا بالعقول- أنَّ الشاعر يقول: «إِنَّ الإِخاءَ وِلادَةٌ»، كما قال هو حرفيًّا. أي أنَّ علاقتك الأخويَّة الصادقة بإنسانٍ هي بمثابة ولادةٍ جديدة لك. ثمَّ قال: «وأَنـا امرُؤٌ مِمَّنْ أُواخي حَيثُ مِلْتُ فأُنجِبُ». وهذا كذلك ما قصدَه حرفيًّا. أي: أنَّه ممَّن حيث ذهبَ في أُخوَّته مع الناس، أنجبَ نفسه مولودًا جديدًا منهم، وأنجبهم من نفسه مواليد جُدُدًا كذلك. فظاهر النصِّ أبلغ وأشعر من ذلك الباطن الذي تكلَّفه بعض الشُّرَّاح، محاولين التماسه، لاستنزال النصَّ من تحليق سماواته الشِّعريَّة، إلى سوقيَّته وابتذاله العامِّي، الذي لا يُدرِك الشارحُ أرفع منه، حيث تقرأ:

«قال الخارزنجي: يقول: إخاء المتآخين كأُخوَّة الإخوة. وأنا رجلٌ مستقصٍ في اعتقاد الإخوان، فإذا اتَّخذت أخًا استكرمته. أي اتَّخذته كريمًا، فأنجب، من نجبت عن الشجرة اللِّحاء، وبلغت إلى خالص الشيء. وهو مَثَلٌ ضربَه. أي: أنا بالغٌ في المودَّة. هذا على رواية، فأَنجب بفتح الهمزة. وروَى الباقون بضمِّ الهمزة: أواخي النُّجَباء.»(2)

هكذا توصَّل الأخ (الخارزنجي)، بعد طول تفكيرٍ وتأمُّلٍ وعناء!

ـ وعند الصباح، سكتَ الشُّراح، عن الكلام المباح!

ـ نعم، فلم يضيفوا على كلام (الخارزنجي) حرفًا! ولكن بعد أن نَجَبُوا معه عن شجرة الشِّعر اللِّحاء! فالشاعر لم يَعْدُ أنْ كرَّر المقولة الشَّعبيَّة الدارجة: «رُبَّ أخٍ لكَ لم تلده أُمُّك!» وهذا المستوى من التلقِّي والشرح ينطبق عليه قول (أبي تمَّام) نفسه:

أَيُّ مَرعَــى عيــنٍ وَوادِي نَسِـيبِ
لَحَبَتْــهُ [الشُّرَّاحُ] فــي مَلْحُـوْبِ

بعد أن تستبدل بكلمة «الأيَّام» في البيت «الشُّرَّاح».

ـ على أنَّ من تتبَّع آراء (الخارزنجي)- بصفة خاصَّة- في شرح الشِّعر تأكَّد له أنَّ الرَّجُل لا يفقه لغة الشِّعر.

ـ ولذا تجده يقرأها على وجه الحقيقة المطلقة، وكأنها إخبار. انظر مثلًا كيف فهم قول (أبي تمَّام) أيضًا:

ولا غَـروَ أَنْ وَطَّـأتَ أَكنـافَ مَرتَعـي
لِـمُهمَـلِ أَخفاضِــي ورَفَّهـتَ مَشـرَبي

إذ يقول للممدوح: لا عجبَ أن جعلتَ مرتعي موطَّأ الأكناف لصغار إبلي (أخفاضي) التي كانت مهمَلة، وجعلت مشربي رِفْهًا.
ـ فكيف فَهِمَ (البشتي الخارزنجي، ـ348هـ) البيتَ؟

ـ قال، لا فُضَّ فوه، إنْ لم يكن قد فُضَّ، بعد تلك القرون: «يقول: أرحتَني عن الحِلِّ والارتحال، فأهملتُ أخفاضي، فلم أحتج مع رفدك إلى استعمالها وركوبها للانتجاع.»(3) فهو- كما ترى- يفهم كلام الشاعر على أنه مجرَّد «نشرة أخبار» عن حقائق الأشياء والوقائع، لا على أنه كلامٌ مجازيٌّ تخييلي. ولو كان يفهم الشِّعر ولغته لوعَى أنْ ليس من إبلٍ هنالك ولا مرعى، وإنَّما هي استعارة مركَّبة تعبيرًا عمَّا ناله من خير الممدوح.

ـ إنَّ اللُّغة الأدبيَّة عمومًا هي لغة متشابهة، وليست بمحكمة غالبًا.

ـ صحيح. وقد أشارت الآية إلى هٰذا المعنىٰ في «القرآن»: «مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ، هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ، وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ.» ذلك لأنَّ «القرآن» جاء بلسانٍ عربيٍّ أدبيٍّ مبين. واللُّغة المتشابهة هي اللُّغة الأدبيَّة عمومًا، وهي لهذا خاضعة للتأويل، لا للشرح؛ فالشرح مجاله اللُّغة العِلميَّة المحكَمة. ولذا ذهب مَن ذَهب إلى أنَّ الآيات المحكَمة هي آيات الأحكام الشرعيَّة، لا غير(4)؛ لأنَّ هذه آياتٌ عِلميَّة قانونيَّة، «هُنَّ أُمُّ الكِتَاب»، وعليها مدار العمل أو عدمه. ولذا استُخدِم ضمير العاقل، «هُنَّ»، لا «هي أُمُّ الكِتَاب». «فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ؛ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ، وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ.» إذ يُعجِب هؤلاء المتشابهُ؛ لأنَّه يتيح لهم أن يشطحوا، بلا قيود ولا حدود. وهذا ما يبغون؛ لأنهم أهل زيغٍ عن الحقِّ لا أهل حق.

ـ مع أنَّ التأويل أيضًا مقيَّدٌ بضوابط اللُّغة، والسياقات، وقبل ذلك وبعده بالرسوخ في العِلم، وليس مطلَقًا.

ـ «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ، يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنَا، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ.» والراسخون في العِلم يعلمون تأويله بالضرورة، وإلَّا ما جدوَى نزوله؟! ولئن كان القائلون بهذا هم القليل من المفسِّرين؛ فإنَّ أهل الحقِّ قِلَّة دائمًا في كلِّ مجال. ومنهم (مجاهد) و(ابن عبَّاس)؛ حتى إنَّ هذا الأخير كان يقول: «أنا ممَّن يعلم تأويله».

ـ فالواو على هذا للعطف لا للاستئناف.

ـ أجل. لكنَّ الراسخين في العِلم هؤلاء يجمعون بين العِلم والإيمان، ولا يتَّبعون بعض الكتاب دون بعض، كما يفعل أهل الزيغ. لأنه، في النهاية، «مَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ».

ـ أي: «أولو العقول».

ـ لم يقل «أولو العقول»؛ لأنَّ (الألباب) تشمل العقول والقلوب. كما أن التأويل ليس حكرًا على طائفة من البَشر، وإلَّا أمسينا أمام أسوار كنسيَّة، كتلك التي كانت قائمة دون العقل في (أوربا) خلال القرون الوسطى؛ إذ كانت السُّلطة الدِّينيَّة هي المتحكِّمة الوحيدة في فهم النص؛ وعلينا- نحن خارج تلك السُّلطة (بضم السين)- قفل العقول والأفواه وأبواب الاجتهاد؛ لأنَّ ثمَّة معصومًا من الخطأ: سوف يفسِّر لنا ويفهم ويفتي!

ـ وعندئذٍ لم تَعُد من قيمةٍ للنصِّ نفسه أصلًا!

ـ ولا للإنسان المخاطَب به! والنصُّ الأدبي لا تتأتَّى قراءته بالعقل وحده، ولا بالقلب أو بالنفس وحدها، بل بهما معًا، أي: بـ(الألباب).

ـ إنَّ تلك الآية تبدو هكذا آيةً في منهجيَّة قراءة النصوص أصلًا.

ـ وإذا كان هذا حال النصِّ ذي الصبغة الأدبيَّة، فما حال النصِّ الأدبي المحض؟

ـ بل ما حال النصِّ الشِّعري تحديدًا؟

ـ إنَّه نصٌّ متشابهٌ بامتياز. غير أنَّ الذين في عقولهم زَيْغٌ من الشُّرَّاح والنقَّاد فرقتان، في تعاملهم مع الشِّعر: فرقة تغالي في اتِّباع ما تَشَابَهَ منه؛ ابتغاء تأويله بما ليس فيه، كما رأينا في بيت (أبي تمَّام) النموذج؛ وفرقة تقرأ النصَّ على ظاهره السطحي؛ لأنَّها لا تطيق التأويل؛ فتجرِّد النصَّ من أدبيَّته وشِعريَّته. والفرقة «الناجية» هم (أولو الألباب)، الذين يؤوِّلون ما يحتمل التأويل، ويُمِرُّون ما خلاه على ظاهر معناه، بلا تكلُّف تأويل. كما قال (عُمَر بن الخطَّاب): وقد «قَرَأَ عَلَى المِنْبَرِ ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّا﴾، فَقَالَ: هَذِهِ الفَاكِهَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا، فَمَا الأَبُّ؟ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَـهُوَ التَّكَلُّفُ، يَا عُمَرُ!»(5)

ـ وقد فَهِمَ بعض الحمقَى من المعاصرين أنَّ (عُمَر) وصفَ هنا «القرآن» بالتكلُّف!(6)

ـ وما أكثرهم! والنصُّ الشِّعري الجيِّد هو- في النهاية- الذي لا يستدعي الفرقة الأُولَى؛ لأنَّ تأويله منه وفيه؛ من حيث هو نصٌّ تخييليٌّ تأويليٌّ بالأصالة، لا بوساطة مؤوِّل؛ بما أنَّه شِعر، لا نصٌّ غيبي، أو دِيني، ولا نصٌّ أدبيٌّ عام. كما أنَّ النصَّ الشِّعري يربأ بشِعريَّته عن سطحيَّة الفِرقة الأخرى؛ فإنْ هي قاربته تطفُّلًا فضحَها في العالمين!

(1) (1987)، ديوان أبي تمَّام بشرح الخطيب التبريزي، تحقيق: محمَّد عبده عَزَّام، (القاهرة: دار المعارف)، 1: 133/ 15.
(2) يُنظَر: (1989)، النِّظام في شرح شِعر المتنبِّي وأبي تمَّام، دراسة وتحقيق: خلف رشيد نعمان، (بغداد: وزارة الثقافة والإعلام)، 2: 178.
(3) يُنظَر: م.ن، 2، 217- 218.
(4) يُنظَر: السيوطي، (1426هـ)، الإتقان في علوم القرآن، تحقيق: مركز الدراسات القرآنيَّة، (المدينة المنوَّرة: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف)، 4: 1335- 000.
(5) م.ن، 3: 731. وفيه «الكَلَف». وذكر محقِّقه في حاشيته أنَّ «في مصادر التخريج: «التكلف»، وهي أنسب للسياق.»
(6) يُنظَر مثلًا: الأخضر، العفيف، (2014)، من محمَّد الإيمان إلى محمَّد التاريخ، (كولونيا- بغداد: منشورات الجمل)، 200.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى