

حين كان الضوء يسير معنا
في المدينة التي تفتحُ ذراعيها للعابرين،
كنا نَمشي…
شارعُ المعزّ كان يحفظُ ضحكتنا،
والأهرامُ تلوّحُ لنا من بعيدٍ
كأنّها تشهدُ على صداقةٍ نادرةٍ في زمنٍ متعب.
في الزوايا كانت رائحةُ الخبزِ السوريّ
تعيدُ إلينا طمأنينةَ البيوت،
جلسنا في مطعمٍ صغيرٍ
يُشبهُ الوطنَ في غربته،
أكلنا، وضحكنا،
وتقاسمنا لقمةً فيها من الحنين أكثر مما فيها من طعام.
كنتَ تُعلّمني كيف أواجهُ اللغة،
كيف لا أخافُ من الورق،
كنتَ تقرأ معي الجملَ كمن يفسّرُ نجوماً،
وتقولُ لي بابتسامتِك الهادئة:
"الفهمُ ليس في الكلمات،
بل في القلبِ الذي يصدقها."
وكنتُ أراكَ في تلك اللحظات
أكبرَ من معلمٍ،
وأقربَ إلى أخٍ يُمسكُ بيدِ أخته قبل الامتحان،
ليقول لها: "أنا هنا… لا تخافي."
وفي قصرِ عابدين
تأملنا المرايا الطويلة،
وقلتَ لي: "كم تُشبهُ الغربةُ الزجاج،
تُريك كلَّ شيءٍ، ولا تلمسُ شيئاً."
فضحكتُ، وقلتُ:
"لكن صداقتك، يا صاحبي،
كانت الشيءَ الذي يُلمسُ ولو من بعيد."
ثمّ افترقنا،
لم يكن وداعاً بل فصلاً جديداً من الذكريات،
بقيتُ أسمعُ صوتك كلما مرّ طيفُ القاهرة،
وكلما فتحتُ كتاباً كنتَ قد شرحتَ لي فيه دروسَ الحياة
قبل دروسِ اللغة.
سنواتٌ تمضي،
ولا زلتُ أراكَ تمشي في الذاكرةِ
بخطوتِك الواثقة،
كما لو أنّ الغيابَ طريقٌ تعرفُه جيداً.
لم أكتب اسمك في الرسائل،
لأنّ الحبرَ يخافُ أن يفضحَ النقاء،
لكنّي أقولها الآن،
بصوتٍ يسمعُه القلبُ قبل الأذن:
ملاذ…
يا صديقي الذي كانَ
أجملَ من الغربةِ،
وأصدقَ من العودة.