حبر بين الزمنين
لم يكن في الغرفة سوى الصمت المتراكم، وغصنِ الشجرةِ الطويلِ بانحناءةٍ حول الشباك، وصندوقٍ بنيٍّ قديمٍ مهترئٍ يجلس في زاوية الغرفة، كما لو أنّه حارسٌ لأسرارٍ نائمةٍ منذ قرون.
كنتُ أبحث بين أغراض أبي عن أوراقٍ رسميةٍ تخصّ التقاعد والميراث بعد رحيله بأيام، لكنّ الصندوق شدّني بقوّةٍ غامضة، كأنّ هناك عينًا غير مرئيةٍ تراقبني منه.
كان له قفلٌ صدئٌ لا يفتح بسهولة، وحين انفتح أخيرًا، تنفّس الغبار ككائنٍ يستيقظ من سباته الطويل.
أخرجتُ منه دفترًا مغلّفًا بجلدٍ باهتٍ متشقّق الأطراف، يحمل على غلافه عبارةً باهتةً بخطٍّ عريض:
«دفتر اليوميّات 1991».
شعرتُ وأنا أمسكه أنّني لا أمسك كائنًا جامدًا، بل زمنًا كاملاً انطوى داخله؛ زمنًا لا يشبه زمننا المليءَ بالأزرار، بل زمنًا كان يُكتب فيه الحلمُ بالحبر لا بالكمبيوتر.
فتحتُ الدفتر، ففاحت منه رائحةُ الورقِ القديم: مزيجٌ من رطوبةٍ وعرقٍ وشايٍ مسكوبٍ على عجالة.
كانت الصفحة الأولى تقول:
«لا أحد يعرف ماذا يعني أن تكون شابًّا في زمنٍ لا يعدك بشيءٍ سوى الانتظار.»
توقّفتُ طويلاً عند الجملة. لم أعرف أبي بهذه اللغة من قبل.
عرفتُه موظّفًا صارمًا، قليلَ الكلام، دقيقَ المواعيد، يضع نظّارته على طرف أنفه، وكأنّ العالم مجرّدُ أوراقٍ تحتاج إلى توقيع.
لكن بين تلك الصفحات كان شابًّا آخر: ساخطًا، شاعريًّا، متردّدًا بين الثورة والحبّ.
كتب عن زملائه في الجامعة:
عن ناظمٍ الذي كان يصرخ في وجوه الجنود دون خوف، وعن عادلٍ الذي أُعتقل ليلةً ولم يعد إلا بعد أسبوع، وعن حيدرٍ الذي كان يحلم بأن يفتح مكتبةً في شارع النهر بعد التخرّج.
كانت السطور تضجّ بالحياة والضياع، تصف المظاهرات، الركض بين الأزقّة، الهتافات المبحوحة، ورائحة الغاز المسيل للدموع التي تلتصق بالملابس كندبةٍ لا تزول.
ثمّ ظهرت هي...
فتاةٌ غامضة، لم يذكر اسمها، واكتفى بأن يصفها بـ «التي تترك عطر يدها في فنجان القهوة.»
كتب عنها كما لو أنّها لم تكن مجرّدَ حبّ، بل أملاً يرى فيه شبابه وألمه.
علّق صورتها بين الصفحات؛ صورةً بالأبيض والأسود، نصفُ وجهها مغطّى بشَعرها الكثيف، ونظرتها تحمل وعدًا غامضًا أو وداعًا مؤجّلًا.
وفي الهامش كتب بخطٍّ مضطرب:
«هي قالت لي: سيكسرنا الزمنُ إن لم نسبقه بالكتابة.»
قرأتُ الجملة مرارًا حتى شعرتُ أنّها وُجّهت إليّ أنا، لا إليه، فإنّ من يواصل صلته بالذكريات لا يفلت منها.
من هي؟ ماذا حدث لها؟ ولماذا اختفت من حياته كما اختفى دفءُ صوته من بيتنا؟
تساءلتُ وأنا أستعيد كلّ لحظةٍ صامتةٍ جمعَتنا على مائدة العشاء، وكلّ مساءٍ كان فيه يضع الملعقة ببطءٍ، ثم يحدّق في فراغٍ لا أراه.
تابعتُ القراءة:
عن ليلةٍ هرب فيها هو وزملاؤه من الشرطة، عن لافتةٍ كتبوا عليها «الحرية لا تموت»، عن أغنيةٍ كان يغنّيها بصوتٍ خافتٍ في مقهى الجامعة.
ثمّ عن الفتاة التي غابت فجأة، كما لو أنّها مُحيت من الزمن، فصارت تُذكر في دفاتره فقط كحلمٍ لم يُكمل سطوره.
ثم جاء ذلك المقطع الذي جعل يدي ترتجف:
«أخاف أن أستيقظ يومًا ولا أجد شيئًا يخصّني في هذا العالم؛ لا حلم، لا قصيدة، لا أثر.»
كأنّ الكلمات خرجت من زمنه لتستقرّ في قلبي
أغلقتُ الدفتر وجلستُ طويلًا. كانت الغرفة تضيء بنورٍ خافتٍ من الشباك، والهواء يحمل رائحةً قديمةً تشبه رائحةَ المكتبات المغلقة.
شعرتُ أنّني لستُ وحدي، بل بين زمنين يتبادلان النظر إليّ من خلف ستارٍ رقيقٍ من الغبار.
في الصفحة الأخيرة، بخطٍّ واهنٍ متقطّع، قرأتُ:
«سأكتب يومًا عن ابني الذي لم يُولد بعد، لعلّه يفهمني حين أكبر وأطعن في السنّ.»
لم أتمالك نفسي.
كأنّ أبي كتبني قبل أن أُولد، كأنّني صرتُ الجوابَ المؤجّلَ لسؤالٍ تركه في منتصف السطر.
في تلك اللحظة شعرتُ أنّ الحياة ليست توارثَ الدم فقط، بل توارثَ الحبر أيضًا.
ذهبتُ صباحًا إلى المكتبة، اشتريتُ دفترًا جديدًا؛ جلدٌ بنفسجيّ، أثقل من الهواء، وأهدأ من الحزن.
كتبتُ في أول صفحة:
«هذا دفترُ الابن، أنا الذي يحاول أن يتعلّم كيف يكون حاضرًا في زمنٍ يبتلع الذاكرة.»
بدأتُ أكتب عن طفولتي، عن صمته على مائدة الغداء، عن دفتره الذي كان يفتحه أحيانًا ثم يخبّئه بسرعة، عن ناظمٍ وعادلٍ وحيدر الذين لم أرَهم قطّ، وعن تلك الفتاة الغامضة التي ربّما كانت جزءًا من سبب تغيّره.
كتبتُ عن نفسي، عن خوفي من أن أعيش بلا أثر كما خاف هو.
ومع كلّ جملةٍ، كان صوته يتسلّل من بين الحروف، خافتًا، مطمئنًا، كأنّه يقول لي من زمنٍ بعيد:
«أخيرًا... وجدتني.»
مرّت الأيام، وأصبح الدفتران كجسرٍ يمتدّ بين عالمين:
عالمِ الحبر والمظاهرات والقصائد والخيبات،
وعالمي المضاءِ بالشاشات والأخبار السريعة والمحادثات المنسيّة.
وبينهما أنا — هذا الذي يبحث عن صوته — أحاول أن أكتب، أن أبطئ الزمنَ قليلًا،
لعلّي حين أُغلق الدفتر، أجد أبي ينتظرني في السطر الأخير.
