الاثنين ٢٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٥
بقلم موسى حوامده

جمعيّة الثقافة والتعليم الأرثوذكسيّة

المؤتمر الثقافيّ الأوّل

"العرب المسيحيُّون:
الجذور والأدوار والمسار النهضويّ"

كلمة رئيسِ المؤتمر

"كلماتٌ من القلبِ والعقل"

الأستاذ الدّكتور هُمام غَصِيب عضو عامل/ مَجْمَع اللّغة العربيّة الأُردنيّ؛ أُستاذ شرف (في الفيزياء النّظريّة)/الجامعة الأُردنيّة.

المركز الثقافيّ الرياضيّ/الشميساني

((بسْم الله))

ضيُوفَنا الأعزّاء

أخي الدكتور إحسان حمارنة، رئيس الهيئةِ الإداريّةِ للجمعيّة

الحضورُ الأفاضل

السلامُ عليْكم ورحمة الله وبركاتُه

«1»

توطئة

أسعدَ الله مساءَكم جميعًا بكلّ خيْرٍ ونعمةٍ وبركة. واسمحوا لي أوّلاً: أنْ أحيّي ضيُوفَنا الأعزّاء تحيّةً خاصّة؛ راجيًا لهم طِيبَ الإقامةِ في أردنّنا. وثانيًا: أنْ أدْعوَكم للوقوفِ دقيقةَ صمْت إجلالاً لأرواحِ شهدائنا الأبرار في غزّة العزّة ولأهلِنا الصامدين هناك وفي سائرِ فلسطين المكلومة، وفي لبنان الجريح، وسورية المنكوبة، والوطن العربيّ عمومًا. وثالثًا: أنْ أستأذنَكم لأوجّهَ – باسْمكمْ جميعًا – عميقَ الشكر وفائقَ التقدير إلى أُسرةِ جمعيّةِ الثقافةِ والتعليمِ الأرثوذكسيّةِ، فردًا فردًا كلٌّ باسمهِ ولقبِه، على بلورةِ فكرةِ هذا المؤتمرِ المُهمّ ومن ثمّ تجسيدِ الفكرة على هذا النحْو من الألقِ والحركةِ والبَركة. والشكر موْصول لسائرِ الجهاتِ والمؤسّساتِ الشريكة.

«2»

أهمّيّة المؤتمر

ووصًفُ مُؤتمرِنا بالمُهمّ لا أوْردُهُ جُزافًا ولا مُجاملةً. ويَكفي أنْ نتأمّلَ، في دقيقةٍ أو دقيقتيْن، عنوانَ المؤتمر الرئيسيّ وبرنامَجَه كي نستشعرَ هذه الأهمّيّة. فالعنوان "العرب المسيحيّون" [ولا نقول: "المسيحيّون العرب"] عميقُ الدِّلالة: إنّه يَعني أنّ المسيحيّين في دِيارِنا هم عربٌ أُصَلاء، وليسوا دُخَلاء. ولا عجب! فالمسيحيّةُ وُلدتْ هنا. و"العربيّةُ هي اللسان"، كما يُقال؛ أيْ أنّنا عربٌ لأنّنا نتكلّمُ اللغةَ العربيّة [وليس بفضلِ الجغرافيا أو التاريخِ أو حتى الأمّ والأب!]. والبحوثُ الحديثةَ في علوم الدماغ تُشيرُ إلى أنّ اللغةَ الأمّ، التي نرضعُها مع حليبِ أمّهاتِنا، تطبَعُ الدماغَ ببصَماتِها؛ مثلاً من حيث كيفيّةُ استخدامِ نصفيْهِ الأيمن والأيسر! وهذا يَعني أنّ لغتَنا الأمّ هي الهُويّةُ والأصلُ والفصل على نحُوٍ أعمق بكثير ممّا كنّا نظنّ.

وهي "لغة الأمّ"، لأنّ الأمّ "جَموعٌ"، بمعنى أنّها الأكثرُ قُدرةً وسُلطةً معنويّةً على جَمْعِ أبنائها معًا في السرّاءِ والضرّاء؛ وكذا لغتُنا الأمّ. فلا عجبَ أنْ يرتبطَ هذا بمفهوم "الأمّة" التي لا تُقصي عُمومًا أيًّا من أبنائها وأيًّا من مُكوّناتِها؛ وإلّا لا تكونُ أُمّةً! فكلُّ مُواطنيها، من حيث المبدأ، سواسيةٌ في الحقوقِ والواجبات. وأيّ محاولةٍ للتفريقِ بيْن أبناءِ الأمّة الواحدة، سواءٌ من الداخلِ أو الخارج، على أساسِ العِرْقِ أو الدينِ أو المذهب أو غيْرِ ذلك، إنّما هي فتنةٌ يجبُ وأدُها في مَهْدِها. وهذه هي "ثلاثيّة الروح"، كما أُحبُّ أنْ أُسمّيَها: الأمّ، واللغةُ الأمّ، والأمّة.

وما ذكرتُهُ عن "الأمّة" يَنسحِبُ على مفهومَي "الوطن" و "المُجتمع". فلا يكونُ الوطنُ وطنًا، أو المُجتمعُ مُجتمعًا، إلّا إذا كانت جميعُ "المِللِ والنِّحَلِ" فيهِ تلمِسُ قوْلاً وفِعلاً الاحترامَ المُتبادَلَ بيْنَها، وتشعرُ حتى أعمقِ أعماقِها بالانتماءِ إلى إنسانِه وأرضِه وبيئتِه. أقول: "الاحترام المُتبادَل" وليس "التسامُح" ولا "التعايُش". ذلك أنّ كلمةَ "التسامُح"، الشائعةَ جِدًّا في هذا المَقام، تَعني أنّ كلّ طرفٍ "يُسامحُ" الأطرافَ الأخرى، وكأنّها أساءَتْ إليه؛ فيتعثّرُ التلاقي بيْن الأطراف قبلَ أنْ يبدأ! كما أنّ كلمة "التعايش" تفوحُ تكلُّفًا وتصنُّعًا! فبكلّ بساطة: إنّ بيْتَ القصيدِ هنا هو "تعطيمُ الجوامعِ [أي القواسمِ المُشترَكة] واحترامُ الفروق". وهذا قوْلٌ مأثورٌ للإمام الشاطبي سمعتُهُ لأوّل مرّة وتعلّمْتُهُ من سموّ الأميرِ الحسن بن طلال، حفظَه الله ورعاه، الذي يُذكّرُنا به دائمًا. هكذا يكونُ التفاعُلُ بيْن جميعِ فئاتِ المجتمعِ أو الوطنِ أو الأمّة بنّاءً مُثمِرًا.

تعابيرُ أخرى في عنوانِ المؤتمرِ وبرنامَجِه لافتةٌ للنظر، أخصّ منها بالذكرِ "المسارَ النهضويّ" و "النهضة". والنفسُ توّاقةٌ دائمًا إلى "النهوض"؛ لأنّه احتفاءٌ بالحياة، ورنوٌّ إلى الأعلى والأسمى والأفضل. ومؤتمرُنا، بحُكمِ موْضوعِه، يَرمي إلى تسليطِ الضوْءِ على إسهاماتِ العرب المسيحيّين في المشروعات النهضويّة كافّةً التي لمَعَتْ على امتدادِ وطنِنا العربيّ الكبير في الزمانِ والمكان [أو في "الزمكان"، كما يقولُ الفيزيائيّ لأسبابٍ عميقة]. لكنّ الأصلَ، طبعًا، أنْ نحيّيَ المسارَ النهضويّ وروّادَه وصانعيهِ وانتماءَهم للوطن وإخلاصَهم لإنسانِه، دون الاكتراثِ بدياناتِهم وطوائفِهم ومذاهبِهم وحتّى ميُولِهم الفلسفيّةِ والسياسيّة. فهُمْ أبناءُ الوطنِ الواحد: يَبذلون قُصارى جَهْدِهم في بنائهِ ونهضتِه المادّيّةِ والمعنويّة؛ كما يَذودونَ عن حِماهُ إذا تعرّضَ للخطرِ أو أيّ اعتداء، بكلّ ما يَعنيهِ الحِمى من إنسان، وأرض، وعِرْض، وتاريخٍ، وجغرافيا. وهُمْ يُحاربون المعتدي أو المحتلّ بصرْفِ النظرِ عن عقيدتِه؛ لأنّهُ مجرمٌ غاشمٌ آثم. من هنا جاءت وِقفةُ العربِ المسيحيّين مع إخوتِهم العربِ المُسلمين على امتداد التاريخ: من معركتَي مؤتة واليرموك، مرورًا بالحروب الصليبيّة (حروبِ الفرنجة)، وحتى انتفاضةِ الأمّة ضدّ "الغرب المُتوحّش المُتصهين". كذلك، لا فرقَ بيْن عربيّ مُسلمٍ وعربيّ مسيحيّ في النضال الفلسطينيّ الملحميّ منذ أكثرَ من مئةِ عام ضدّ عدوّ شيْطانيّ رجيم زرعَهُ هذا الغربُ في أرضِهم الطهور.

وهل كلّ ذلك بمُستغْرَب؟! طبعًا لا. فمع أنّ العربيّ المسيحيّ يُوْلدُ في بيْتٍ مسيحيّ، وأثرُ الطفولةِ دائمًا طاغٍ؛ إلّا أنّه، فوْرَ ولادتِه، يستظلُّ بخيمةِ الثقافةِ العربيّةِ الإسلاميّة (هكذا، دونَ شرْطةٍ أو مائلةٍ أو واوِ عَطف). وإذا سألتَهُ: إلى أيّ حضارةٍ تنتمي، مِنْ بيْن حضارات صموئيل هنتنغتون Samuel Huntington (1927-2008) الثماني: الغربيّة [الكاثوليكيّة البروتستانتيّة]، والأمريكيّة اللاتينيّة، و[المسيحيّة] الأرثوذكسيّة، واليابانيّة، والهنديّة، والصينيّة، والأفريقيّة، و[العربيّة] الإسلاميّة؟ سيُجيبُ بالضرورة: العربيّة الإسلاميّة. إذًا، هذا أمرٌ مَحسومٌ بحُكْمِ اللغةِ الأمّ والتاريخِ والجغرافيا.
لكنّ هذه الحضاراتِ ليست جُزُرًا مُنعزلة. فهنالك تفاعُلٌ مُستمرٌّ بيْنها، قد يكونُ أحيانًا بنّاءً لصالحِ أتباعِ الحضارات المُتفاعلة؛ وأحيانًا أخرى "صِراعًا" [بتعبير هنتنغتون] هدّامًا يُدمّرُ الإنسانَ والعِمران [بتعبيرِ ابنِ خَلدون] هنا وهناك. والأمثلةُ على كلا الصنفيْن من التفاعُل لا عدّ لها ولا حصْر. ولعلّه من نافلة القوْل أنّنا حين نُشيرُ إلى أيّ حصارةٍ من هذه الحضاراتِ الثماني، فإنّنا نَعني مُحصَّلةَ ثقافاتٍ فَرعيّةٍ مُتعدّدة، بما في ذلك فروعُ الفروع، و"الهُويّاتُ المُتعدّدة"! فحَذارِ من التبسيطِ المُخلّ أو التعميمِ الجامح! مثلاً، قبلَ قليل، أشرْتُ إلى "الغربِ المُتوحّش المُتصهين". إلّا أنّني لا أنسى "الغربَ الآخرَ الأنيس" الذي نهلنا وننهلُ من إنجازاتِه في شتّى المجالات، كما نهلَ هو نفسُه ذاتَ يوْم من إنجازاتِ حضارتِنا العربيّةِ الإسلاميّة. وهو الذي هبّ في الآونةِ الأخيرة لنُصرةِ غزّةَ وفلسطين عمومًا. وهذا مَبعثُ التناقضِ الوجدانيّ الذي يُعانيهِ أبناءُ ثقافتِنا إزاءَ الغرب، كما نرى في كتاباتِ عددٍ من الأدباء العربِ الكبار في القرنِ العشرين، وما قُبيْلَهُ وما بُعيْدَه، أذكرُ منها مثاليْن بارزيْن هما: "موْسمُ الهجرةِ إلى الشمال" للطيّب صالح، و "قِنديلُ أمّ هاشم" ليحيى حقّي.

لكن، اسمحوا لي بالتوقُّفِ قليلاً عند "الغرب المُتوحّش المُتصهين" قبلَ أنْ أختِمَ حديثي.

«3»

نحن والغرب

فأقول: إنّ هذا هو "غربُ" هنتنغتون، الذي كتب الآتي في كتابِه المشهور "صراعُ الحضارات وإعادةُ تشكيل النظام العالميّ" The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order [ترجمتي؛ الفصل 2، ص 51 من كتابه، طبعة 1996]: "لقد تغلّبَ الغربُ على العالَم، ليس بتفوُّقِ أفكارِه أو قِيَمِه أو ديانتِه [ويمكن أنْ أضيفَ هنا: لغاتِه وجيناتِه!] ... وإنّما – بالأحرى – بتفوُّقِه في تطبيقِ العُنف المُنظّم organized violence. وغالبًا ما يَنسى الغربيّون ذلك؛ أمّا غيْرُ الغربيّين، فلا يَنسوْنَ أبدًا." [انتهى الاقتباس.] أي أنّ هيّمنةَ هذا الغرب تحقّقتْ بتطبيقِ الجريمةِ المُنظّمة، أو بتعبيرِ الصحفيّة دوروثي ثومسون Dorothy Thomson (1940): "العُنف البيروقراطيّ bureaucratized violence". أقولُ هنا: "وشهد شاهدٌ من أهلِه"!

إنّ هذا الغربَ المسيحيَّ [مع أنّ معظمَ فئاتِه الحاكمة هي مسيحيّةٌ بالاسْمِ فقط] ما فتىء يَعيثُ في بلادنا فسادًا وتدميرًا وإجرامًا بتخطيطٍ مُمنهج منذ مطلعِ القرنِ التاسعَ عشر. ومنذ البداية، حاول استغلالَ الأقلّيّات، بمَنْ في ذلك العربُ المسيحيُّون. فأصبحوا مُتّهمين ظُلمًا من الأكثريّة وكأنّهم "طابورٌ خامس"، رُغمَ تفاني غالبيّتِهم العُظمى في سبيل وطنِهم وأمّتِهم. وهذا من التحدّياتِ الكبرى التي يُواجِهُها مَسيحيُّو بلادِنا: كيف نجتثُّ هذا الاتهامَ الظالمَ من جذورِه؛ ومنْ ثمّ نقطعُ دابرَ أيّ فتنةٍ يُدبّرُها أعداؤنا أيًّا كانوا؟! فنحن، وأكرّرُ ما قلتُهُ قبل قليل، نُقاومُ المُعتدي والمُحتلّ لأنّه محتلٌّ آثِم؛ وليس لأنّه يَعتنقُ عقيدةً مُعيّنة. وهذه خطوةٌ واحدة في سبيل شحذِ الوعي الجَمْعيّ من جملةِ خَطَوات قد نستشفُّها في المحور الأخير من مؤتمرِنا. وآمُلُ أنْ يَستندَ أسلوبُنا في هذا المسعى إلى ما أسمّيهِ "الصراحةَ المسؤولة"؛ أي أنّه الأسلوبُ الصادقُ النزيهُ المُباشر، لكنْ دون استفزازٍ واستعداءٍ وتهافُت، لا سمحَ الله.

«4»

خاتمة

أختِمُ باقتراحٍ عمليّ، أي قابلٍ للتنفيذ، مفادُهُ: أنْ يُؤسّسَ مركزٌ بحثيّ، لنقُلْ تحت كنَفِ جمعيّتِنا العامرة، تكونُ مهمّاتُهُ الأساسيّةُ على النحو الآتي: (1) تجْميعُ أفضلِ الدراساتِ والبحوثِ والمُراجعاتِ المنشورةِ في موْضوعات ("ثيمات") مؤتمرِنا هذا، وإعادة إصدارِها في حُلّةٍ موحّدة (بعد أخذِ الأذوناتِ اللازمة، طبعًا)، بتعليقاتٍ وإضافاتٍ مُناسبة، إن اقتضى الأمر. (2) تكليف فِرَقٍ بحثيّةٍ مُتعدّدةِ التخصُّصات بإجراء دراساتٍ مُتعمّقةٍ في موْضوعاتِنا، وإصدارِها في سلسلةٍ أخرى. (3) نشْر مُلخّصاتٍ غيْر مُخِلّة لجميع هذه الإصدارات موجّهةٍ للجمهور الواسعِ العريض. (4) تكون إصداراتُ المركزِ كافّة، أكانت ورقيّةً أم إلكترونيّةً أم فوتونيّة، باللغتيْن العربيّةِ والإنجليزيّة. فموْضوعاتُنا "حسّاسة" ومحفوفةٌ بحقولِ ألغام. ولا بُدّ من وضعِ النقاطِ على الحروف، إزاءَ "النظراتِ الغربيّةِ والاستشراقيةِ" السائدة، وتصويبِ المغلوطِ والمُحرّفِ والتشويه، بكلّ نزاهةٍ و"صراحةٍ مسؤولة" [مع المعذرة عن استعمالِ هذا التعبير ثانيةً].

آمُلُ أنْ يَلقى هذا الاقتراحُ قَبولَكم، على الأقلّ من حيث المبدأ، وأنْ يَستقطبَ المركزُ المنشود، إنْ أُسّسَ فعلاً، التمويلَ اللازم من جهاتٍ معروفةٍ بنزاهتِها وموْضوعيّتِها.

أحيّيكم ثانية؛ مع الترحيبِ الحارّ بضيُوفِنا الأعزّاء.

ودُمْتُمْ سالمينَ غانمين، برعايةِ الله وتوْفيقِه،،،


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى