الثلاثاء ٢٨ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٥
بقلم رانيا مرجية

تنهيدة حرية: حين تكتب المرأة وجعها بالحبر والمقاومة

في زمنٍ تتكدّس فيه الروايات كما تتكدّس الأخبار على عتبات النسيان، تأتي رواية «تنهيدة حرية» للكاتبة رولا خالد غانم كوثيقة إنسانية مدهشة، تُعيد إلينا الإيمان بأن الأدب ما زال قادرًا على أن يكون مرآة للروح وسلاحًا في وجه المحو.

هذه ليست رواية تُقرأ، بل رواية تُعاش — تُسكنك داخلها حتى تلهث معها، وتخرج منها وقد أصبحت جزءًا من حكايتها.

امرأة تكتب تاريخ النساء من رماد الذاكرة

ليست «تنهيدة حرية» رواية عن فلسطين فحسب، بل عن المرأة الفلسطينية وهي تكتب تاريخها الشخصي خارج المألوف.

الجدّة سُلى، التي نراها في مطلع النص تحيك الذاكرة كما تحيك شالها الصوفيّ، ليست مجرد شخصية؛ إنها صوت جيلٍ كاملٍ من النساء اللواتي حملن الوطن في أرحامهنّ قبل أن تحمله الخرائط.

كل سطرٍ في الرواية ينبض بأنوثةٍ متجذّرة، لا تهادن، ولا تتجمّل.

أنوثةٍ تجرّحت، لكنها لم تنكسر؛ صارت الذاكرة نفسها أنثى، تتنهد لا لتبكي، بل لتُقاوم.

تقول إحدى الجدّات في الرواية:

“ذُقنا الويل قبل أن تفتح الحياة ذراعيها لنا، ومع ذلك، لم نترك الوردة تموت على الشباك.”

بهذه الجملة، تختصر غانم فلسفتها السردية: أن تحيا رغم القهر هو الفعل الأكثر بطولية.

الحكاية كجغرافيا بديلة للوطن

يبدأ النص في بيتٍ صغيرٍ محاطٍ بالياسمين، ثم يتسع تدريجيًا ليشمل الوطن كله.

من غزة إلى رفح، من يافا إلى عمّان، من حكاية الجدّة إلى بنات الجيل الجديد، يتحول البيت إلى وطنٍ مصغّر، والمطبخ إلى جبهة مقاومةٍ يومية، والقهوة إلى طقس انتماء.

تكتب غانم التاريخ من أسفل الذاكرة، لا من فوق المنابر.

تُعيد إلى السرد الفلسطيني ما فقده: الوجدان الإنساني والهمس الأنثوي.

وهي بذلك تضع القارئ أمام حقيقة قاسية: أن الاحتلال لا يسكن الأرض فقط، بل يسكن الجسد واللغة، والعلاقات، وحتى الحنين.

لغة تمشي على جرحٍ وتُزهر

لغة الرواية ليست مجرد وسيلة لنقل الحكاية، بل كائنٌ حيّ يتنفس، يئنّ، ويُصلي.

تكتب رولا غانم بجملٍ تشبه الخيوط الممتدة بين القلب والذاكرة؛ جملٍ ناعمة كنسيم البحر، جارحة كزفرات المكلومات.

تقول في أحد المقاطع:

“كتبت هذه الرواية من ثمار الخراب.”

إنها جملة تُلخّص التجربة كلها — فـ”الخراب” في الرواية ليس نهاية، بل تربة للولادة الجديدة.

و”التنهيدة” ليست انكسارًا، بل شكلًا آخر من أشكال الصراخ الهادئ.

أنثى تكتب ضد المحو

رولا خالد غانم تنتمي إلى جيلٍ من الكاتبات اللواتي لا ينتظرن أن يمنحهنّ التاريخ مقعدًا؛ بل يصنعن مقعدهنّ بالكتابة.

هي لا تروي الحكاية من الخارج، بل من قلب النار.

تمنح نساءها أسماءً ووجوهًا وتفاصيل، ليغدو كل فصلٍ من الرواية اعترافًا أنثويًا ضد الصمت.

في «تنهيدة حرية»، لا تُقدَّم المرأة كضحية بل كناجية.

النجاة هنا ليست فعلًا جسديًا، بل روحيًا — أن تظل قادرة على الحلم، على الحب، على الغناء ولو في المنفى.

الفلسطيني في المرايا الأنثوية

الرواية تُعيد تعريف “الوطن” خارج المفهوم الذكوري التقليدي.

فالوطن في منظورها ليس علَمًا أو حدودًا، بل أمٌّ تعدّ القهوة رغم الحرب، وجدّةٌ تحفظ مفتاح البيت في صدرها، وبنتٌ تكتب لتستعيد ملامح أبيها المفقود.

غانم تُحيل القضية الفلسطينية إلى سؤالٍ وجوديٍّ عن الإنسان، عن معنى البقاء، عن كيف يمكن أن نحمل الذاكرة دون أن نُصاب بالجنون.

وهنا تتجلّى عبقريتها السردية: فالقضية الكبرى تمرّ من تفاصيل الملاعق، وضوء الصباح، وملمس الشال، لا من الشعارات.

تنهيدة الحرية: بين الألم والجمال

في النهاية، هذه الرواية لا تقدّم خلاصًا، بل مرآةً صادقة للخراب الذي يسكننا.

لكنها تُذكّرنا أن بين الحطام دومًا ما يزهر.

أن الحرية ليست نصرًا سياسيًا فحسب، بل حالة وعي، وامتلاك للذات بعد فقدانها.

ولعل أعظم ما فعلته غانم هو أنها أعادت للكتابة الفلسطينية وجهها الإنساني بعد أن أرهقها الخطاب السياسي.

كتبت رواية يمكن لأي إنسانٍ في أي مكانٍ أن يقرأها ويقول:

“هذه ليست حكاية فلسطين فقط، بل حكايتنا جميعًا.”

كلمة أخيرة

«تنهيدة حرية» ليست رواية تقرأها بعينيك فقط، بل برئتيك، لأنها تجعلك تتنفس الألم، وتتنهد الحرية كما لو كانت آخر هواءٍ في هذا العالم الملوث بالخوف.

إنها رواية مكتوبة من لحم الذاكرة ودم اللغة — عمل سيظل، لسنواتٍ قادمة، علامةً فارقة في الأدب الفلسطيني والعربي الحديث


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى