الثلاثاء ٢٧ أيار (مايو) ٢٠٢٥
بقلم زهير ياسين شليبة

النوستالجيا في رواية «أموات في متحف الأحياء»

ولا بدّ لنا من الحديث هنا عن النوستالجيا في رواية "أموات في متحف الأحياء" بعد أن توقفنا بالتفصيل عن السرد والبنية والشخصيات والمكان والزمان كموضوعات مهمة في هذا العمل وكمقوّمات فنية.

بعد ثوان يلتقي الراوي بعائلة سورية، "رجل كهل شائب الشعر بعض الشيء وامرأتيّن شابّتين يحيط بهم صبيّان مراهقان وطفل ناعم الملامح". ص 16

يبدأ الراوي بوصف النوستالجيا والعائلة الهاربة من العنف السوري إلى بلجيكا، وتنشأ بينهما علاقة إنسانية، كذلك يصف امرأتين متشابهتين، كلما يتحدث عن المغتربين يقول "من خلال تجربتي فالغرباء عادة ما يفتقدون للثقة بالنفس، والتماسك الداخلي حتى وإن حاولوا الظهور عكس ذلك". ص 17

‏الرجل السوري يسأله عن مغزى التمثال، "الحقيقة أننا لم نفهم كثيرا علاقة الماء المنصب في الرأس مع الكتاب الذي يقرأ فيه الرجل، رغم أننا رأينا التمثال عشرات المرات". ص 18 ويأخذ التمثال حيزا في عدة صفحات 19-20 شرح لهم الراوي فكرة التمثال فالماء هو المعرفة المنسكبه في جمجمة الإنسان! ولم تخطر هذه الفكرة ببال هؤلاء البسطاء فهم لا يفهمون عمق التفكير كما الشخص الذي صنع التمثال، أو الراوي الذي اتضح أنه روائي.

يتحدث الراوي عنهم والمودّة التي يتميزون بها بحيث يذكرون أموراً ساخرةً تعبر عن مزاج اللاجئين العرب عندما يلتقون مع أقرانهم في الغربة، يتكلمون باللغة نفسها، مثل حديثهم عن "ساحة الذبابة"، سألوه ممازحين: "هل رأيت ساحة الذبابة؟ ... نحن من نطلق هذا الاسم عليها، سألني سام ونحن نتوغل في الطرق الجانبية بدون هدف." ص 22 مما يعكس طبيعة الشرقيين والنظرة إلى المدن الغربية وفهمهم البسيط أو العملي للمكان.

نوستالجيا مرتضى!

يصف الروائي لوحات مرتضى بأنها تتميز بالحنين، أما بطلاته فهن أهم ما تتميز بها. هكذا هم بعض المغتربين حتى في غربتهم تجاه أنفسهم وسلوكهم الشخصي أحياناً. هل هو انتقام لغربتهم ومحاولة إثبات الوجود والتأكيد على ولائهم لبلادهم الأصلية وثقافتها وانتمائها الحضاري، أم البحث عن النجاحات والبطولات والتعويض عن كبواتهم وانكساراتهم، وتجاوز "إخفاقاتهم" الحياتية ومعاناتهم النفسية أو لسقوط الضوابط المجتمعية التي تربّوا عليه منذ طفولتهم.

كذلك يقارن الراوي بين لوفان والعراق و"جاءت نقلته هائلة وبالغة الأثر من مجتمع في طور التكوين تشكيلي كالعراق برغم ما يمتلك من حيوية النور والظلال وتدرجات العنوان إلى مجتمع عريق في الفني مدينة لوفان الأوروبية". ص 53
مرتضى: التلاقح والمزاوجة بين الألوان الشرقية والغربية:

"فجّر انتقاله إلى الغرب تلك القدرة على المزاوجة بين اللون الشرقي والغربي،..."، وهنا قد يقول قائل هل يقصد الراوي أن الفرح والحزن والوطن يظهر في الألوان كما يلمح، "... الألوان وطن! جملة عادة ما سمعته يرددها سواء حين التقيته في دمشق أو في نقاشاتنا السابقة". ص 53

ويقول هنا عنصر الحنين والعودة إلى الجذور المتمثلة في الأشكال والكتلة، يصف مرتضى نصير قبل مقتله وبعده ويتألم، وكان "يحب أن يقتني بيتا في بغداد ليحوله إلى محج فني". ص 54

وكان يريد أن يقوم بالنشاطات الفنية رغم كآبته كفنان يعيش في الغرب، وبعد سقوط الدكتاتورية كان يتوقع أنه سيكون له مجال في تنظيم نشاطات تعكس تجربته الغربية في بلجيكا في مزاوجة الألوان وتلاقحها، هنا يقول "امتلك اليوم تجربتين، شرقية وغربية، أصبحت حساسيتي مع الألوان أكبر واغنى". ص 55

وهو حلم طبيعي لأي مغتربٍ، أن يخدم بلده، بالذات لمنتجي الثقافة والفن، لكن الأمر ليس بهذه البساطة عندما يتعلق بقضايا الفكر والنقاشات الحادة عن عدة مفاهيم أولية.

نصير ومرتضى: تجسيد للمبدع المنفي قسراً والمهووس برغبة العودة إلى الوطن:

يتحدث الراوي عن نصير الثوري المؤمن بفكرة التنوير ص 96- 97 ولا ينسى الفنان المهموم المحطم من الداخل، مرتضى الذي يضع لوحة على الجدار يقول إنها تصور فقده لوالدته وحنينه لها. ص 98- 99

ويجد الروائي أن سرديته لا يمكن لها أن تتم بدون وصف والدَي مرتضى من خلال صورتهما المعلقة على الجدار، "يحلّلُها" صديقُه الراوي "أبوه ملتحٍ... بدا على تعابيره طيبة ومسالمة، بينما أمّه منتصبة في جلستها، ... مهيمنة... تبتسم بنعومة، ... قد تكون أمّه هي من يفتقد في حياته...". ص 98

وتحدث الراوي عن نصير ص 100- 101 قبل عودته إلى موطنه العراق حيث ولد وترعرع وانتمى إلى حزب ثوري عريق وعارض حكومته وهرب من ظلمها لئلا يُعتقل أو يُقتل، لكنه يعود إليه فيتم اغتياله بجريمة نكراء يندى لها الجبين. وهكذا ينتقل السرد من شخص إلى آخر حسب تسلسل يبدو تلقائياً، لكنه في حقيقة الأمر محكم ومهندَس قد تكون لخلفية الكاتب كإنسان درس الهندسة تأثير على هذا الأمر.

ويتطرق إلى مقال نصير عن الغربة وعودته إلى الوطن. ص 107 لكن ليس من الصعوبة اكتشاف الإحباط ونبرة اليأس في هذا السرد التي اشرتُ إليها سابقاً. ص 108 ومع ذلك فكّرا هو ومرتضى في الذهاب إلى الجامعة الكاثوليكية لأخذ معلومات عن طالبها السابق رفيقهما الشهيد نصير. ص 109

ويحكي الراوي مرة أخرى عن تمثال المعرفة، يقول "فكرت في الشتاءات وما تحمله من صقيع، والثلوج ساقطة على البنايات". ص 116

موضوعة المغتربين:

الروائي يحب الكتابة عن المغتربين، يقول إذا أراد الكاتب أن يكتب عنهم فيجب أن يتناول ماضيهم لأنهم يعيشون فيه، هذه السمة غالبة للمغتربين. ص 121

"لوحة إله البحر والعواصف والزلازل والخيول بوزايدون (بو سيدون) المعلقة في صالة مرتضى لم يزل حياً،... هو اليوم يتجسد بأنظمة تبيع السلاح وتجّار يقبضون بالدولار على كل رأس بشري يقفز من قارة إلى قارة وعربة الموت تسير مسرعة منذ آلاف السنين". ص 121

وهنا تلاحظ عنده في هذه الرواية اختلاط "أصوات" المغتربين وسخرياتهم المختلفة عن "ساحة الذبابة". ورغم أن الكاتب يشير إلى الاختلاف بين المغتربين واللاجئين الجدد، لكن مرتضى يمشي مع العائلة ويصبحون أصحاباً بسرعةٍ، يلتقون ويفهمون بعضهم بعضها، بحيث يصورهم بصورة جماعية، "اتجهنا إلى البيت عبر شارع الطلبة مرورا بساحة الذبابة التي كانت فارقة تقريبا". ص 122 - 123

يسيرون معاً في دروب لوفان عند توجههم إلى شقة الفنان مرتضى، وهذا هو الراوي يحدّث مرافقه الفنان الشامي سامي عن مرتضى، مجسداً أفكار الحنين والعودة إلى الجذور، يقول له "يعرض لوحاته في صالات دمشق وبيروت وعمان ودبي وباريس وبروكسل واعتُبر من الفنانين العرب الذين يحوزون على أعلى الأسعار للوحاتهم. واختصرتُ له مشاعر رفقتي له في حارات دمشق القديمة...". ص 123


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى