الخميس ٢٩ أيار (مايو) ٢٠٢٥
اللاجؤون السوريون والعراقيون
بقلم زهير ياسين شليبة

أموات في متحف الأحياء

كما نلاحظ، إننا قرأنا طرقَ السرد، وبنيةَ هذه الرواية وشخصياتها، ووصف المكان والزمان فيها، فضلاً عن النوستالجيا. ونتابع هنا في القسمين الأخيرين من دراستنا الحالية، حالات اللجوء من خلال تصوير مصائر سورية وعراقية من المبدعين المهمّين في بلدانهم، لهم مكانة في ثقافتهم، لكنهم مهمّشون منفيّون، يصوّر الكاتب معاناتهم الإنسانية.

القسم الخامس: اللاجؤون السوريون:

يبدأ الراوي بالحديث عن اللاجئين وحياتهم وتجاربهم القاسية وصعوبة طرق التهريب ومشقاتها للوصول إلى دول أوروبا الغربية، ويحكي عن الشخصيات، مكرّساً لكل واحدة منها حيزا معينا، لكنه لم يحدده بفصل ثابت، فبدأ مثلا بالحديث عن الموسيقي سامي (سام) الأب ص 26 وزوجته لميس وفارق العمر بينهما، وعن أختها نبال، التي من الواضح أنها مرت بصعوبة الحياة وقساوة الطرق، تدخن كثيرا، ويبدو أنها مريضة. ص 27

الراوي والعائلة السورية الهاربة من العنف:

يصور لنا الراوي العائلة السورية وبالذات الأب سام وزوجته لميس وأختها نبال وأطفالهما في فصل "مدن وراء البحار" فيكون سرده المتدفق ببنيةٍ سرديةٍ رائعةٍ.

يحمل التعرف على مصائر العائلة السورية مغزى فنياً متمّماً لطباع الرواية الآخرين، لا سيّما أنه بدأ سرديته بهم ص 7. إنها مشكلة تجسد العلاقة بين المثقف والسلطة أيّاً كانت! نصير، مرتضى، والراوي نفسه، فهو ليس مجرد تقارب اجتماعي جديد بأشخاصٍ عاديين وإنما رمز لخلفيته الثقافية وارتباطهم الروحي مع تنويرية بلاد الشام التي سيطر إرهابيون متخلفون عليها! محنة هزت العرب كلّهم! إن ما جعل الراوي يتقرب إلى هذه العائلة السورية اللاجئة هو الانتماء والتضامن والشعور بالهموم نفسها، فضلا عن عامل اللغة والثقافة، وكون الراوي نفسه لاجئاً، بدأ يتذكر تجربته القاسية من خلال حكاياتهم عن اللجوء والغربة والهرب وطريقة الدخول إلى البلدان الأوروبية لكي يُعترف بهم كطالبي لجوء أملاً في قبول لجوؤهم فيما بعد ويتخلصوا من شظف العيش في الدول الشرق أوسطية! إنها مأساة، بل كارثة القرن! هذا هو بالضبط ما يصوره الروائي عن مصائر مثل نبال وأختها لميس اللتين تتركان سوريا مع أطفالهما إلى لبنان ومنه إلى مصر ومنها إلى تركيا، وعذابات الموسيقي سام، وكانوا يفكرون في القدوم إلى بلاد الخلاص، جنة الله على الأرض بلجيكا العلمانية بأي ثمن.

من خلال أحاديثهم يصفون حالة الهروب من سوريا بحثاً عن الأمان في "بلدان اللجوء" وهكذا فهذه الأمور كلها تقريبا مرّ بها أيضاً "صديقهم" الجديد الراوي، ولهذا أضحت العلاقة بينهم روحيةً، كما يبدو من خلال التعامل معهم والاختلاط بهم وأحاديثهم وحكاياتهم التي تعكس همومهم وصدماتهم النفسية.

وبدأ يتعرف أيضا على مفهوم الثقافة الأعم من خلال الأكل وطريقة التعامل والحديث، مثلا سام كان موسيقيا محترماً معروفا في بلده والآن يجب أن يعزف الموسيقى في الشارع وهذا الأمر لم يكن من ضمن ثقافتهم سابقا، كذلك انطباعات لميس عن مصر التي باحت بها، فضلاً عن الفرق بين دمشق والقاهرة، حيث هناك اختلاف بين العادات الاجتماعية. ص 59
يصف الراوي ثقافة نبال في المطبخ، "تؤمن مع نفسها معتمدة على مبدأ شائع لدى ذواقة الطعام هو أن الفم ليس العضو الوحيد الذي يتمتع بالطعام بل هناك العين والأنف أيضا". ص 60 أو "الأكل نفس"! كما يقال.

نبال، أيضاً تصف حياتَها في مصر، تتكلم عنها، وما كان يزعجها أكثر عدم شعورها بالأمان حين تنزل إلى الشارع المصري فهو "ذكوري بامتياز، وراح شعور الاغتراب يتسلل إلى روحها يوما بعد يوم". ص 61

سامي:

يطرح الكاتب موضوع العنصرية على لسان سامي، الذي تغيّر اسمه مجرد (سام)، الذي يقول "نادرا ما وجدت شعبا يحب شعبا آخر خاصة إذا تعلق الأمر بمنافسة على المعيشة". ص 118

"لم يكن الهدف هو النقود فقط، مع أننا كنا بأمس الحاجة للنقود باعتبارنا غرباء على تركيا ‏نبحث عن فرصة لعبور البحر، وهذا يتطلب مالاً كبيراً". ص 119 ويستطرد سام الموسيقي متحدثاً عن معاناته النفسية كلاجئ في إسطنبول "بعض الاتراك لا يرغبون لهذه الصورة المعبّرة في الظهور لدى المواطنين البسطاء، لذلك كانوا يسمحون للشحاذين والمشردين والعاهرات بالعمل في الشارع، لكنهم يطاردوننا نحن الجادين، الفنانين الباحثين عن حياة كريمة ويمنعونا من العمل". ص 119 - 120

سام: السرد عند سام:

نعود إلى السرد، يكرس الروائي لسام مجاله الخاص به ليعبّر عن نفسه من خلال "مونولوجه الطويل" عن تجربته في إسطنبول وكأنه يريد الخلاص من ثقل داخلي ضاغط. ص 125 يتحدث سام عن نفسه، فيقول "أهم ما فعلته للعائلة إني اشتريت غيتارا لهانيبال ليتعلم عليه العزف وبيانو لنور". إنهما يمثلان الجيل الجديد من المغتربين، يريدهما أن يتعلما الموسيقى رغم أنه يعتبرها "مهنةً بائرة في الشرق الأوسط". ص 126

وتحدّث سام المحبط عن وجهة نظره كمبدع مثقف هنا عن واقع الشرق الأوسط المزرى، يقول: "السوريون كثروا، والعمليات العسكرية في الوطن تصاعدت". ص 126

يقول " كنا نعزف بشفافية إحدى أغاني فيروز، وأطلق أحدهم النار نحو فيروز...وأصيب شخص... واكتشفنا أن حياتنا مهددة،...بسبب كوننا فرقةً موسيقية سورية مؤيدة للثورة وتسعى إلى الجمال". ص 127

بدأ سام يحكي قصة حياته وكيف تعرف على زوجته لميس، وقرر الهروب واتفق مع أحد المهربين ويتحدث عن مآسي اللجوء. وتحدث بحزن بأنه يجب أن يبحر رغم أنه لا يجيد السباحة! ص 128-130

ويصف سام هروب اللاجئين والقارب: "كنا ستين شخصاً، والقارب بطول ستة أمتار فقط" وهذا خطر. ص 131 حتى نزلوا إلى الجزيرة اليونانية، الكاتب يعرف تفصيلات كاملة عن التهريب والسفر والقوارب وحياة طالبي اللجوء في اليونان وتركيا وكل قصصهم وأحاديثهم، يقدمها على لسان سام في هذه المرّة فيصير راوياً آخرَ، الذي يقول: "وكان الأغلبية سوريين، وهناك عراقيون من الموصل والرمادي وتكريت وكركوك المناطق التي احتلتها داعش". ص 132 يقول الراوي: "أزحت هذه الأفكار جانبا وعدت أتأمل في ضجيج الأولاد من الغرفة المجاورة للمطبخ". 134 ويقول "كيف شاء لهم الظرف الغريب العيش ببيت واحد، برغم أنهم يعتبرون عائلتين لا عائلة واحدة". نبال تمضي إلى المطبخ تنسل بحجمها الصغير في الممر المعتم،... نظرتها تشبه "زرازير البراري... لا تستقر طويلاً على شيء...". ص 135

مرتضى يعد لهم بعض الأشياء، وكانت لميس تصف حياتها في مصر وتقول نعمل ".. حفلات جنونية خاصة حين يشربن بعض الخمور سراً، أو حين يقمن حفلة مشاوي في حديقة البيت أمام شقة جارتها سناء كل أسبوع، ويتقاسمن فيها التكاليف. البيئة الشعبية أصبحت متحفظة جدا في مصر". ص 136

مشكلة المبدع والمثقف في بلدان اللجوء والغربة:

أخذت حجمها الطبيعي في هذه الرواية حيث يصف الكاتب معاناة الغربة من خلال سامي، الموسيقي المحترم في بلاده ويمارس الفن في العاصمة السورية، لكن أحواله تغيرت وأصبح نكرة بالنسبة للآخرين، "لا يمكنني العمل حمّالا لدى متجر أو غسل صحون في مطعم أو حارس لأحد المتاجر كما يفعل السوريون في إسطنبول". ص 30

ونلاحظ الراوي يقترب بالتدريج من لميس من خلال الحديث معها ليصف حياتها، كانت تدرس الموسيقى عنده وتعرّف عليها بشكل جيد وتزوجها رغم فارق السن، ويبيّن كيف هربت لميس إلى أوروبا للخلاص من العنف والفقر في سوريا. ص 32
كذلك يتحدث عن مشكلة اندماج اللاجئين السوريين والعرب في وضعهم الجديد خارج بلدانهم، يقول سام "بعضَ ما نفعله تسوّل بطريقة حضارية"، حيث كان يسخر من عزف الموسيقى في الشارع لكسب قوته منها، لكنه بمرور الزمن تقبلها وصارت جزءًا منه.

اندماج المبدعين اللاجئين في المجتمعات الجديدة:

موضوعة مهمة أخرى شغلت الصحفيين والسياسيين في الغرب كنوع من الضغط على المسلمين بالذات، فالفنان المغترب مرتضى مندمج في بلجيكيا، لكنه غير متماهٍ معها أو منسلخ عن وطنه رغم تذمّره منه أو إنكاره له أحياناً، سيبقى غريباً محبطاً مهما كان انتماؤه عميقاً لمدينة لوفان التي جاء إليها من مدينته بابل التي ستبقى تحتضن جذوره. ولهذا حاول العودة إلى دمشق ليعوّض عن غربته ويحلم ببلاده لولا قتل رفيق دربه نصير.

وكذلك يصفه الراوي من خلال صور "ستتحول إلى ... كلمات تحمل مثل غيوم ناعمة أحاسيسَ تلك اللحظات التي عشتها مفتوناً بالأمكنة...قصة العائلة لا تختلف عن التجربة التي مررتُ بها أنا... ". ص 41

ولا يختلف الكاتب كثيراً عن الراوي ولا حتى عن الفنان.

ويكرر حديثه عن تمثال المعرفة التي أضحى رمزاً أليغورياً في الرواية: إنسان "يمسك الكتاب والماء ينزل في رأسه، أجل، مصادفة أن التقي ذلك التمثال واسمع حوارات العائلة"، مشيراً إلى موضوعة الحنين. ص 43 والعرب، أو غيرهم من الناس الذين تجمعهم ثقافة وأحاسيس واحدة يلتقون في الخارج بسهولة وبسرعة كونهم يشتاقون لبعضهم بعضا يحبون أن يلتقوا ليعبّروا عن معاناتهم الكثيرة متذكرين أمجاد أمتهم العريقة، فالفنان سام مثلا يتحدث عن الموسيقى، يقول إنه موسيقي ناجح في بلده، سافر إلى مصر والتحقت به زوجته لميس وعائلتهما، لكنهم مع ذلك لم يستطيعوا البقاء هناك، فاضطر إلى البحث عن (وطنٍ آخر) مأوى مستقر، تحمّل الأب الستيني مشاق السفر إلى بلجيكا. أما الدول العربية فلا ضمان فيها ولهذا فضلوا الرحيل إلى الغرب، على قاعدة " أنت غريب أينما حللت وليس لك غير التواصل عبر الإنترنت". ص 44-43
كل الرايات تَتّجه نحونا! كما يقول شاعرُ روسيا الكبير ألكسندر بوشكين.

استقبلهم مرتضى المغترب المخضرم القديم في هذا البلد، ومع ذلك فهو لا يزال غير متماهٍ معه، محبط، يائس، وكان في أجواء جميلة جداً ومزاج رائق، لوجود ضيوف سيتكلمون معه بالعربية، رغم أنه كان مبتعداً عن العرب القادمين الجدد في لوفان، استقبلهم بترحاب وكانت أمسية جميلة. هذا هو مرتضى الحقيقي "لم يستطع التخلص من بقايا تلك القرية المتربة الحاضنة للنخيل التي عاش فيها طفولته"! إنها الحلة! ص 177

مرتضى نفسه بالذات يعاني من الحنين ويرسم لوحاته تعبيراً عن هموم النوستالجيا، "لديّ طفل عمره عشرون سنة يعيش مع أمه في بلد مجاور، ثم صمتَ منهياً أيّ بادرةٍ تنم عن متعته في استعادة الماضي، ... وكان متزوجا من امرأة عراقية لكنه وبعد مجيء الطفل حصل الطلاق بينهما". ص 178

الفصل السادس: اللجوء وتفكّك العائلة رمز لخراب الوطن وتناسق مع بنية الرواية:

يقول الراوي واصفاً الأجواء العائلية التي تجسد الحنين والنوستالجيا "لاحظت زوال الحواجز داخل البيت أمام المرأتين، وراحتا تتحركان بخفة الفراشات. جلبت نبال ولميس التبولة والكبة" ص 187، وصارت رائحة الطعام وثقافته تختلط مع الرموز الأوروبية: النبيذ الأحمر والكنيسة التي يمعن الراوي في النظر إليها والإعجاب بها من البالكون، بينما يحدثهم مرتضى عنها ويقول الراوي " تتقاطع المصائر كما فكرت وأنا أحدق بتصاميم الكنيسة بصورة غريبةٍ، مثلما جرى لي خلال هذه الأيام السبعة من زيارة لوفان عبر تمثال يصب الماء، أو نظرة خاطفة، أو حوار عابر، أو جلسة غير مخطط لها في مقهى". ص 187
ثم اقترحت لميس على مرتضى أن يرسم لها بورتريه وفعلَ ذلك.

"على تلك الطاولة اللونية وقف مرتضى بين ألوانه فيما جلست لميس على كرسي يقع تحت لوحة بو زايدون". ص 191
رسم لكل واحد منهم لوحة: لوحة لميس سماها التمرد ولوحة نبال: الموت، ولوحة سامي: الحنين " انقطعتُ عن صديقي مرتضى ثلاث سنوات، سافرت إلى العراق وسألت عن العائلة. ص 191

".. الأخت الكبرى توفيت.. أما سام فقد عاد إلى شارع الاستقلال في إسطنبول بعد أن انفصل عن زوجته. في حين احتضنت لميس ابن أختها ميّار لتضمه إلى العائلة، وهم ما زالوا يعيشون في البيت ذاته القريب من محطة القطارات وعدتُ مرتضى بزيارةٍ قادمةٍ... الحنين إلى أمكنة غامضة ليست لها أسماء". ص 194

..........

نورد هنا بعض الإشارات:

* لوفان مدينة بلجيكية تُلفظ بالفرنسية: لُوفيَن، وبالهولندية: لووفِن Louvain ) بالفرنسية و Luven بالهولندية)!

** الكاتب الراحل كامل شياع اضطر للرحيل من العراق عام 1979 ودرس في بلجيكا في الثمانينات، عاد إلى بغداد عام 2003 للعمل كمستشار لوزير الثقافة بعد سقوط النظام، وقُتل فيها على أيدي الإرهابيين عام 2008، هو النموذج الأولي – بروتوتايب لشخصية نصير الأدبية الواقعية التي تمثل المثقفين العراقيين "المغتربين"، لكن هناك اختلافات في تسلسل الأحداث بينهما.

أما الفنان العراقي المقيم في إيطاليا (جبر علوان) المتميّز بلوحاته الخاصة به بحيث لا يخطئ من يعرفه شخصياً، أنه هو النموذج الأولي لشخصية مرتضى علوان.

من الجدير بالذكر أن الروائي العربي الراحل عبد الرحمن منيف كرّسَ كتاباً مهمّاً للفنان جبر علوان.

*** ألبرتو جياكوميتي نحّات سويسري


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى