السبت ١٢ نيسان (أبريل) ٢٠٢٥
بقلم عارف محمد نجدت شهيد

وهم الحضارة

يهرول الوافدون والمغادرون - على اختلاف مشاربهم - في أرجاء محطة القطار، ويقف على الرصيف عشرات الأشخاص الذين ينتظرون بشوق عظيم أحبابهم ويمنون قلوبهم العطشى بعناق يروي ظمأها.

الشمس تهوي بسياطها على رؤوس الناس في يوم صيفي شديد الحرارة. يطوف الباعة المتجولون حول الوافدين والمغادرين والمنتظرين طمعاً في بيع بضاعتهم الرديئة والحصول على حفنة قروش لا تسد الرمق. يعمل موظفو المحطة بضجر وينتظرون انقضاء هذا النهار الطويل بفارغ الصبر.

توقف القطار بعد صفير طويل، وفُتحت الأبواب. دَلَف حسن إلى المحطة، بوجهه القروي البريء، ينظر إلى المسافرين والوافدين بانبهار، يحاول استكشاف العالم الجديد خارج قريته، ويجول بعينيه العسليتين على مقاعد المحطة حتى وقع نظره على رجل في منتصف العقد الرابع، حليق الذقن وشعره مصفف بعناية، يحتضن حقيبته السوداء ويحرك أصابعه برشاقة على شاشة الجوال.

اقترب حسن بتردد نحو الرجل وألقى التحية ثم قال بأدب: "المعذرة يا سيدي، إنها زيارتي الأولى، كيف أستطيع الذهاب إلى السكن الجامعي؟".

رفع الرجل رأسه ببطء، ثم أطلق زفيراً طويلاً وقطب حاجبيه. فقال حسن بتلعثم: "لم أقصد أن أعكر صفوك يا سيدي" ثم استدار وهمّ بالرحيل، فقال الرجل بهدوء: "في هذه المدينة كل الأسباب التي تعكر صفو المرء، ولن أحملك وزر ما اقترفته هذه المدينة وأهلها، فاجلس".

جلس حسن إلى جانب الرجل وهو ينظر إليه بدهشة. أغلق الرجل هاتفه ودسه في جيبه ثم التفت إلى حسن: "إذا كانت هذه اللحظات هي أول عهدك بهذه المدينة فإنها آخر عهدي بها".

أخرج الرجل لفافتي تبغ ووضع الأولى في فمه وأشعلها وقدم الثانية لحسن ولكنه رفضها بأدب وقال ببراءة: "أشكرك، لا أدخن السجائر".

أطلق الرجل ضحكة طويلة ثم أعاد علبة السجائر إلى جيبه وقال ساخراً: "عندما تشعل سيجارتك الأخيرة في المحطة قبل مغادرة المدينة، تذكر هذا الموقف جيداً".

نفث دخان السيجارة ثم استدار ونظر إلى عيني حسن مباشرة وقال: "أما الطريق إلى السكن الجامعي، فالجميع يعرفه ولن تتيه عنه، ولكنني سأخبرك بما سيخفيه عنك أهل هذه المدينة، فأنصت إلي".

أنا الدكتور هيثم، من قرية الصفصاف، عشت في ربوعها عشرين عاماً، لم ترق لي الحياة القروية، وكنت أحلم بالسفر إلى المدينة لدراسة الطب والاستقرار فيها، تخرجت من الثانوية بتفوق وحصلت على مقعد في كلية الطب، وحملني القطار الذي جاء بك إلى هذه المدينة.

ثم تخرجت من كلية الطب وانغمست في الحياة العملية ولا أذكر كيف مضت هذه السنوات، وكأنني قد وصلت البارحة، والآن، أعود إلى قريتي بخفي حنين.

= وما الذي حملك على العودة إلى قريتك وقد حصلت على شهادة جامعية ووظيفة مرموقة؟

إنه وهم الحضارة الذي أدركته مؤخراً، ذلك الوهم الذي يقض مضاجع أبناء القرى ويحملهم على مغادرتها ومفارقة ذويهم أملاً في حياة أكثر رفاهية؛ الشهادة الجامعية، الوظيفة المرموقة، السيارة الفارهة، خدمات الكهرباء والانترنت، المطاعم الفاخرة، وما يعد ولا يحصى من بهارج المدينة وزخرفها الكاذب.

= ومن يزهد في حياة المدينة ويرغب بحياة الأجداد الذين كانوا يسيرون أميالاً للحصول على حاجتهم من الماء الذي يتدفق من صنبور منزلك؟ يعيش أفقر رجل في المدينة رفاهيةً تفوق رفاهية الملوك والأمراء في القرون الماضية. إن القطار الذي تنتظره لن يسافر بك عبر المكان ولكنه سيسافر بك عبر الزمن أيضاً، فالله الله في نفسك!

لماذا خلقنا الله؟
= لعبادته وإعمار الأرض.
وما جزاء الطائعين؟
= الجنة، وأعظم بها جزاءً!

وهل تشبه المدينة جنة الله؟ أين الأنهار والأشجار والظلال؟ لقد فتكت الحضارة بالطبيعة فقطعت أشجارها وجففت أنهارها وهجّرت حيواناتها، ولم يتبق من أثر الطبيعة إلا النزر اليسير في القرى. فإذا كان السفر من المدينة إلى القرية عودةً إلى زمن غابر، فإن الارتحال عن القرية إلى المدينة طردٌ من الجنة، ولا أظنك بمنزلة إبليس لتستحق هذه العقوبة!
= لو اعتقد أسلافنا ما قلت به لما وصلت الحضارة إلى حالها اليوم.

ليتهم اعتقدوا ذلك وما وصلت هذه الحضارة الزائفة إلى ما وصلت إليه!

توقف عن النظر إليّ بانبهار! ولا يغرنك مظهري، لقد جئت إلى هذه المدينة منذ خمس عشرة سنة بجلباب متواضع.
هز حسن رأسه وكأنه تلقى صفعة ثم قال بخجل: "أعتذر عن إزعاجك بإطالة النظر".

أخرج هيثم لفافة تبغ ثانية، ثم أشعلها ونفث الدخان وأشار بيده اليسرى إلى عمارات شاهقة وقال بحنق: "هل تعلم أن هذه العمارات الشاهقة قامت على أنقاض أجمل جنة على الأرض؟ مساحات خضراء على مد النظر، اقتحمتها الحضارة فأفسدتها، لقد قطع أهل المدينة كل أشجارها لبناء هذه العمارات".

ثم أشار إلى الجبل الكبير وقال بسخرية: "شعر أهل المدينة الحمقى بفداحة الكارثة، فمدينتهم الجميلة لا أشجار فيها، فكروا ملياً ثم قرروا تشجير هذا الجبل العجوز!".

تنهد هيثم ثم نظر إلى حسن بإشفاق وقال: "عد من حيث أتيت أيها الشاب، فلن تقدر على دفع تكاليف ما أقدمت عليه، ستلتهمك هذه المدينة!".

"ابنة عمك التي يرغب والداك بتزويجها لك لأبر بك وأحن عليك من فتيات هذه المدينة، وإخوانك الذين فارقتهم لأصفى لك ممن ستصحبهم في هذه الرحلة البائسة، وجارك الفضولي الذي يتتبع أخبارك في القرية لأوفى ممن ستجاورهم هنا، فحق الجار في هذه المدينة هو رد السلام فقط".

صمت هيثم للحظات ثم واصل حديثه بصوت خافت: "لقد تسربت أيامي كما يتسرب الماء المتدفق من بين أصابع اليد، ودفعت حياتي الاجتماعية القديمة ثمناً لحياة زائفة، وها أنا ذا أعود إلى القرية وقد تبددت أحلامي القديمة على الرغم من تحققها، وأعظم أمنياتي أن أستلقي في بستان أبي ليلاً وأحصي نجوم السماء حتى تتمكن نسمات الليل العليلة مني فأغفو دون الحاجة إلى تناول المهدئات، وبلا خوف من غد قريب يطردني فيه رئيسي في العمل، أو غد بعيد أجد نفسي فيه وحيداً في دار العجزة".

ساد الصمت برهة ثم استجمع حسن قواه وقال بحزم: "هب أن الحضارة لعنة أصابت هذا العالم ودمرت كل شيء جميل فيه، هل تعتقد أنك ستجد القرية التي خلفتها ورائك منذ خمس عشرة سنة على حالها؟ إن الزمن لأشد بطشاً من الحضارة، ولو عدت إلى قريتك الآن ستجدها مثخنة من ضربات الزمن الموجعة".

اتسعت حدقتا هيثم ونظر بدهشة إلى حسن، وهمّ بالرد ولكن صافرة القطار سبقته. التفت الاثنان إلى القطار الذي وصل للتو، ثم وقف هيثم بهدوء وأخرج من جيبه بعض المال ووضعه في يد حسن ثم قال: "استعن بهذا المال على الذهاب إلى المدينة الجامعية".

ثم سار بخطوات هادئة نحو القطار والتفت إلى حسن وقال مبتسماً: "أو على العودة إلى قريتك"، ورفع يده بالتحية، ثم دَلَف إلى القطار الذي أغلق أبوابه وغادر المحطة!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى