

نحنُ أُمَّةٌ لا تَشكو أبداً فراغاً معرفياً!
مع كلِّ معلومة نضيفها إلى فهمنا (لشيء ما)، ينشأ تلقائياً جهلٌ آخر (حول ذات الشيء). وهذا الجهل المصاحب أشبه بـ"حيزٍ فارغ" أو "ثقب" تحمله في طياتها المعرفة المُتجددة .
ذلك الفراغ المعرفي الذي أثار حيرتي، فقلت في نفسي: أهو نتاج السؤال نفسه أمْ نتاج الجواب؟ أدعوكم للتفكير العميق معي في هذا الأمر، أي في إجابة هذا التساؤل المحير.
وقد انتهيت إلى الإجابة التالية: الجواب هو الذي يخلق الفراغ المعرفي دائماً (وليس السؤال)، في حين أنَّ السؤال هو وسيلتنا لسد ذلك الفراغ.
كلُّ إجابة تقدمها تحمل في طياتها ثغرةً ما (سواءٌ ظهرت لك أو لغيرك). وهذه الثغرة المعرفية تتطلب سداً سريعاً، لأن الطبيعة تكره الفراغ ،والفراغ لا يقتصر على العالم المادي بلْ يمتد إلى عالم المعرفة والإجابات.
في رحلة المعرفة المتصاعدة التي لا تنتهي، نجد دائماً أنَّ السؤال يقودنا في النهاية إلى إجابة، وهذه الإجابة تفتح أمامنا فراغاً معرفياً، وهذا الفراغ بدوره يولد سؤالاً جديداً، ليصبح هذا السؤال الجديد هو الوسيلة لسد ذلك الفراغ.
هل تعاني الأمة العربية من نقص معرفي؟
بالطبع لا!
وهذا دليل واضح على أنَّها تمتلك معرفة شاملة في كل مجال لا يعتريها أي خلل أو نقص. إنَّها معرفة محكمة لا تشوبها ثغرة، بلْ هي معرفة تامة، كاملة، مطلقة، لا تحتاج إلى إضافة!
فإذا ظن المرء أنَّه يمتلك إجابات لا تشوبها شكوك، فلماذا يطرح الأسئلة أصلاً؟ السؤال وسيلة لسد الفراغ، فإذا انعدم الفراغ، انعدمت الحاجة إلى السؤال!
لقد وصلت المعرفة إلى ذروتها في كلِّ شيء، وانتهى دور التساؤل!
وهذا، في رأيي، هو الشعار الذي ترفعه أمتنا!.
حان الوقت لنترك هذا النمط من التفكير وراء ظهورنا، ونغير نظرتنا إلى الأمور؛ لأنَّ الاستمرار فيه لنْ يؤدي إلّا إلى الدمار الفكري والحضاري. فالأمة التي تعتمد فقط على "الإجابات الجاهزة" كمخزونها الفكري الوحيد، هي أمة بلا روح حتى لو طال عمرها!
لا تَسير الأمم على درب التقدم، بلْ تنحدر إلى الخلف حين تُسيطر عليها نزعتان متطرفتان: نزعة التعظيم المفرط للذات، ونزعة نقد الذات بشكل قاسٍ ومبالغ فيه.
وفي حالات كثيرة، نلاحظ أنَّ بعض الشعوب تجمع بين هاتين النزعتين، فتارةً تُبالغ في تبجيل نفسها، وتارةً أخرى تُبالغ في لومها ، وتتنقل من طرف إلى آخر.
لنتجنب المبالغة في المدح والتمجيد، فهو أشبه بالسقوط في الهاوية، لا ينجذب إليه إلّا الفارغون الذين لا يكتسون سوى رداء الغرورولا يجنح له إلاَّ الصفر الذي لا لبوس يلبسه إلاَّ الغرور. ولنحافظ على النقد الذاتي أو تقويم الذات، فهو بلا شك ضروريٌ لنا، لكن دون مبالغة أو إسراف في لوم النفس، لأنَّ الخطوة الأولى نحو "التقدم" هي إدراك نقاط الضعف والعيوب والانحرافات والتخلف فينا... فالأخطر من كل ذلك هو أنْ تفقد أعيننا وعقولنا القدرة على رؤية واقعنا المتردي، أو ترفض الاعتراف به.
في صميم حديثنا عن واقعنا المرير كعرب، لا بدَّ من الإشارة إلى أمرين بالغي البساطة والأهمية، ومع ذلك لم نتمكن من إتقانهما حتى الآن: أولاً، فن رفض الأشياء بقول "لا" وتطبيق ذلك عمليًاً، فما زلنا أمة تُكثر من "نعم" بمعناها السلبي. وثانياً، فن طرح الأسئلة، إذْ نحن أمة تعشق الإجابات، ولدينا مخزون لا ينضب من "الأجوبة المطلقة الجاهزة" التي نلجأ إليها دائماً.
كم مرة كان ينبغي عليك أنْ تقول "لا"، ومع ذلك لمْ تفعل؟ رغم حاجتك الماسّة إلى قولها، ورغم إدراكك لمصلحتك في النطق بها، ومعرفتك أنَّ الصواب كان يقف إلى جانبك لو أنَْكَ قلتها.
هذا التساؤل يكشف جانباً آخر من أوجه التخلف الحضاري الذي نعيشه، إذا افترضنا أننا نعي بالفعل هذه المعاناة ونشعر بها.
فالسؤال بحد ذاته علم وفن وذكاء وتجربة، يطالبنا بأنْ نرتقي لمستواه، لكننا لم نلبِ هذا التحدي إلّا بما يعكس تمسكنا بأنَّ نكون أمة تكتفي بالأجوبة الجاهزة والمطلقة. لا جديد يظهر في عالم المعرفة والفكر والعلم والاكتشاف إلّا وسارعنا إلى نسبه لأنفسنا، ولو من خلال الادعاء بأنَّ أصله يعود إلينا على شكل بذرة أو نواة أو بداية غامضة!
فأين هو ذلك السؤال الراهن الكبير الذي تعجز معارفنا القديمة وأجوبتنا الجاهزة عن تقديم جواب له؟ تلك المعارف التي لا تقبل سوى الحقائق المطلقة ولا تترك مجالاً للشك أو المراجعة!
ما زلنا، حتى اليوم، نُفسّر كل جديد ذي قيمة في ميادين العلم والمعرفة والاكتشافات الحديثة على أنه مجرد إثبات آخر على سبقنا في الوصول إليه، أو على الأقل في امتلاك البذور الأولى التي أدّت إليه. نتعامل مع ما يقدمه الآخرون من جديد وكأنَّه انعكاس لما كنا نملكه نحن في الماضي، وكأنَّ كل "جديدهم" هو "قديمنا"، وكل "قديمنا" هو أساس "جديدهم".
ولا نعترف بجهلنا، ولا نشعر به، ولا نحاول إدراكه؛ فكيف يمكن لأمة لا تعي جهلها أنْ تُبحر في عوالم العلم والمعرفة وتسبر أغوارها؟
لقد آن الأوان أنْ نودّع الأجوبة الجاهزة والمطلقة وداعاً لا رجعة فيه، وأنْ نتهيأ بجدية لاستيفاء متطلبات تحولنا إلى "أمة تسأل"، تعيش عقولها في ظل "الشك الديكارتي". آن لنا أنْ نتعلّم فنّ السؤال، لأنه ليس مجرد أداة، بلْ علم وفن بحد ذاته، وأنْ نغذّي فينا الخيال، لأنَّ الخيال يفوق المعرفة أهمية. فبينما يقودنا المنطق من نقطة إلى أخرى ضمن حدود مرسومة، فإنَّ الخيال يمكن أنْ يأخذنا إلى آفاق لا حد لها.
عندها فقط، قد يظهر بيننا من يشبه ذلك "الجاهل العظيم" الذي وصل إلى أعلى درجات المعرفة، ليقول بصدق العالم المتواضع: "كل ما أعرفه هو أنني لا أعرف شيئًا"!