الأربعاء ٢٢ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٥
بقلم صالح سليمان عبد العظيم

مهرجان «الجونة»

مهرجان «الجونة» السينمائي وأزمة القيم في المجتمع المصري المعاصر

أثار مهرجان الجونة السينمائي منذ انطلاقه جدلا واسعا في المجتمع المصري. فبينما يقدمه منظموه وداعموه على أنه احتفاء بالفن والإبداع والتعبير السينمائي، يراه كثيرون حدثا منفصلا عن الواقع المصري وقيمه الاجتماعية، بل رمزا لتدهور الذوق العام وانفصال النخبة عن وجدان الناس. أصبح المهرجان ليس مشروعا فنيا يسعى إلى التنوير أو الارتقاء بالوعي الجمعي، بل عرضا استعراضيا مستوردا، لا يمت بصلة إلى هموم المجتمع أو ثقافته، ويعكس قيما دخيلة لا تتناسب مع خصوصية الحياة المصرية.

يبدو المهرجان، في صورته الحالية، وكأنه وسيلة لفرض أنماط ثقافية وسلوكية غريبة على الوعي العام تحت ستار "الفن الحديث" و"الحرية الإبداعية". فبدلا من أن يكون الفن وسيلة للتعبير عن الواقع المصري وتناقضاته، يتحول إلى أداة للتباهي الطبقي واستعراض الثراء والانتماء إلى عالم منفتح لا يعترف بالضوابط الأخلاقية أو الحدود الاجتماعية. مشاهد السجادة الحمراء وعروض الأزياء المبالغ فيها وتركيز الكاميرات على المظاهر لا على الأفكار، كل ذلك يجعل المهرجان أقرب إلى استعراض للأجساد والملابس الفاخرة منه إلى احتفال بالسينما والفكر والإبداع. وبهذا، يتحول الفن من لغة للتنوير إلى وسيلة لفرض ذوق الأقلية على الأغلبية، وتطبيع أنماط من السلوك لا تعبر عن المزاج الثقافي المصري.

ما يحدث في المهرجان يعكس في جوهره اتساع الفجوة بين فئة من النخبة التي تتبنى النموذج الغربي للحياة وبين عامة الناس الذين ما زالوا متمسكين بتقاليدهم وقيمهم الاجتماعية والدينية. فحين يُقدم المهرجان صورا من التبرج والترف والانفلات، يرى المواطن البسيط في ذلك استخفافا بما يعتنقه من أخلاق ومعايير للسلوك العام. وهذا الشعور بالاغتراب الثقافي يولد بدوره توترا اجتماعيا وشرخا في العلاقة بين ما هو "مصري أصيل" وما يراد له أن يُقدم على أنه "تحضر" و"حرية".

لقد أصبحت بعض وسائل الإعلام شريكا في تعميق هذا التناقض، من خلال تمجيد المهرجان وتجاهل الأصوات الناقدة له، أو وصفها بالتخلف والانغلاق. غير أن هذا الخطاب يُخفي في طياته نوعا من التعالي الطبقي، إذ يجعل من قيم الطبقات المترفة معيارا للحضارة، ومن قيم الشعب العادي دليلا على الرجعية. وهكذا يتحول المهرجان إلى مرآة لعلاقات القوة الاجتماعية، تُستخدم فيها الثقافة كوسيلة للهيمنة لا كجسر للتواصل.

من زاوية أخرى، يُظهر المهرجان فشلا في أداء الدور الثقافي المنشود للفن في المجتمع. فالفن الحقيقي يُفترض أن يعبر عن الناس، ويمنحهم مساحة للتأمل والفهم، ويسهم في ترسيخ قيم الجمال والاحترام والمسؤولية. أما هذا النوع من الفعاليات، فيكتفي ببريقه الإعلامي ويغيب عنه البعد التربوي والثقافي، فلا يقدم فنا يعالج قضايا المجتمع أو يفتح أمام الشباب أفقا للإبداع. بل يبدو وكأنه احتفال مغلق على نخبة محدودة، تعيد إنتاج صورتها الخاصة عن "النجاح" و"التميز"، من دون أي امتداد شعبي حقيقي أو أثر ثقافي ملموس.

وراء الواجهة اللامعة للمهرجان تختبئ رؤية استهلاكية للفن، تحوله إلى سلعة تباع وتشترى، لا إلى رسالة تثري الوجدان الجمعي. يصبح الفنان مجرد أداة للترويج، وتتحول السجادة الحمراء إلى سوق رمزية لتبادل الشهرة والوجاهة. وتختفي خلف الأضواء قضايا السينما المصرية الحقيقية، مثل ضعف التمويل، وغياب فرص الشباب، وتدهور دور الثقافة في التعليم. وفي مقابل هذا الانشغال بالمظهر، تُهمَّش الفئات البسيطة والمبدعون الحقيقيون الذين يعيشون في الظل، ولا مكان لهم في هذه الاحتفالية التي تُقدَّم باسم الفن.

إن خطورة المهرجان لا تكمن فقط في مشاهد بعينها أو في سلوكيات متفرقة، بل في عملية التطبيع البطيئة التي تجعل هذه المظاهر جزءا مقبولا من المشهد العام، فيتراجع الحس الجمعي بالتمييز بين الفن الراقي والاستعراض المبتذل. هذا القبول التدريجي يهدد بتآكل المنظومة الأخلاقية للمجتمع، ويفرض مفهوما سطحيا للحرية يقوم على نزع الحدود، لا على توسيع الوعي أو تعميق المسؤولية.

المجتمع المصري، بتاريخ قيمه الطويل ووعيه الثقافي العميق، لا يرفض الفن أو الانفتاح، بل يرفض أن يُختزل الفن في مظاهر تسيء إلى مكانته، أو أن يُفصل عن جذوره الاجتماعية والإنسانية. فالتقدم الفني الحقيقي لا يأتي من الأضواء البراقة ولا من محاكاة الخارج، بل من تفاعل الفن مع الواقع، ومن التزامه بهموم الناس وأحلامهم. الفن الذي يستحق الاحترام هو ذاك الذي ينير العقل ويرتقي بالوجدان، لا الذي يثير الجدل الأخلاقي ويعمق الانقسام الاجتماعي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى