

مراثي مذبحة دير ياسين..
يصادف يوم التاسع من نيسان (أبريل) من كل عام، ذكرى مذبحة «دير ياسين»، التي كانت فاتحةً للنكبة الفلسطينية، ومدماك الأساس الأول في إقامة «الدولة العبرية».
وتشير المصادر التاريخية إلى أن تاريخ الإرهاب الصهيوني في فلسطين المحتلة، يبدأ مع الاستعداد اليهودي للهجرة الاستيطانية الأولى، نهايات القرن التاسع عشر، وذلك بسبب مشروعهم الإبادي الإحلالي الاستيطاني، الذي يرمي إلى اغتصاب الأرض وطرد أصحابها.
ولقد حرصت الكتابات التاريخية الصهيونية على تصوير العمليات الإرهابية الصهيونية في النصف الأول من القرن الماضي، باعتبارها نضالاً يهودياً سعى إلى التحرر القومي!
وأذكر أنني قرأت ذات يوم خبراً، في صحيفة «هآرتس العبرية»، تحت عنوان: «لنكتب.. كي لا ننسى: حتى لو لم يكن هناك من يقرأ..؟» مفاده: «أن مؤسسة «يد فشيم» اليهودية في القدس تتلقى وتصدر سنوياً مائتي كتاب مذكرات شخصية ليهود عايشوا – على حد زعمهم- المحرقة/ الكارثة اليهودية»..؟!
والغاية من هذه الكتب بالنسبة لعدونا الصهيوني، توثيق تفاصيل المحرقة المزعومة ومعاناة اليهود...؟!!
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا من يوثق ولمن؟ وماذا يوثق؟
أيوثق الجلاد وهو الذي تقترف يداه أبشع جرائم الإبادة وأعنف الجرائم ضد الإنسانية؟!!
أم توثق الضحية كل ما تتعرض له من إرهاب وتنكيل وقتل واستهداف فردي وذبح جماعي؟
الجواب لا يحتاج إلى كثير من التمحيص والتدقيق، لأنه واضح وضوح الشمس.
فالتوثيق بالكلمة والصورة حقٌ لأبناء شعبنا الفلسطيني، الذي تعرض إلى أبشع العمليات الإرهابية الصهيونية خلال عامي 1947م و1948م، حيث كثَّف الصهاينة جهودهم في هذين العامين لاقتلاع الفلسطينيين، الأمر الذي أدَّى إلى تشريد حوالي 900 ألف فلسطيني إلى خارج أراضيهم ووطنهم. ففي هذه الفترة غلب أسلوب مهاجمة القرى والمدن العربية وارتكاب المذابح الجماعية دون تمييز بين طفل وامرأة وكهل ورجل، أو بين أولئك العُزل وبين من يحملون السلاح دفاعاً عن حقوقهم.
دير ياسين.. القرية والمذبحة
تقع قرية «دير ياسين» على جبل يرتفع عن مستوى سطح البحر (700) متر، وتبعد عن مدينة القدس حوالي ستة كيلو مترات، ويحيط بها كل من مدينة القدس وقرى عين كارم ولفتا وكالونيا. كان عدد سكان القرية في ذلك الوقت (9/4/1948م) لا يتجاوز الستمائة نسمة. وقد شكلت شهادة القائد الشهيد عبد القادر الحسيني في معركة القسطل حافزاً رئيسياً للعصابات الصهيونية لمهاجمة واحتلال القرية وارتكاب المذبحة، فقد أصيب العديد من شباب القرية في معركة القسطل وكان العديد منهم في المستشفيات وعدد آخر في القدس للمشاركة في جنازة عبد القادر الحسيني، مما شكل فرصة لمباغتة الحماية القليلة في القرية ذات التجهيز والعتاد المحدود.
وقد هدفت العصابات الصهيونية من وراء ارتكاب تلك المذبحة إلى إثارة حالة من الفزع والرعب بين الفلسطينيين في القرى والمدن الأخرى في فلسطين حتى يتم لهم احتلالها بلا قتال، حتى أن أحد زعماء الإرهاب الصهيوني قال: « لولا مذبحة دير ياسين لما قامت دولة) إسرائيل)».
وتفاصيل المذبحة كما وردت في أكثر من مصدر، بدأت بمحاصرة القرية من قبل عصابات الإرهاب الصهيوني («إيتسل، و«الأرجون»، و«ليحي»، و«الهاغناة») من ثلاث نواحي (الشرق والشمال والجنوب)، تحت جنح الظلام ليلة التاسع من نيسان (أبريل) عام1948م، قادمين من المغتصبات الصهيونية («منتفيوري»، و«جفعات» و«شاؤول»، و«بيت هكيرم»)، وبدأوا بقتل الناس في البيوت بالسلاح الأبيض وهم نيام بلا تمييز بين الرجال والنساء والكهول والأطفال. وقد شكلت مذبحة «دير ياسين » بداية انطلاقة التطهير العرقي الذي كان سبيل الصهاينة في إقامة كيانهم الغاصب.
ولقد كانت هذه المذبحة أشهر المذابح التي خلَّفها تاريخ تلك المرحلة، وتبعتها سلسلة مذابح لا تقل أهمية عنها. بينها على سبيل المثال مذابح قرى «حساس»، و«يازور»، و«سعسع»، و«الرملة»، و«بلدة الشيخ». وهي مذابح راح ضحيتها الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني.
وتذهب بعض التقديرات إلى أن تلك المذابح قد تسببت في تهجير السكان الفلسطينيين خلال حرب 1948م لحوالي 350 قرية ومدينة بشكل كلي أو جزئي من بين 450 سيطرت عليها العصابات الصهيونية.
ومذبحة «دير ياسين» لم تكن الأكثر بشاعة قياساً بمذبحة «الطنطورة»، حيث دفن مواطنوها أحياء، ولا كان ضحاياها الأكثر عددا قياساً بمذبحة «الدوايمة» التي جاوز شهداؤها 500، إلا أنها تفردت بين المجازر المائة خلال حرب الـ(48) بكونها الأشد تأثيراً كارثياً في الروح المعنوية للشعب العربي الفلسطيني، للزمان والمكان اللذين اقتُرفت فيهما، ولغلبة الانفعال على الموضوعية في الإعلان عنها وترويجه. كما في الدروس المستفادة منها في حاضر ومستقبل الصراع التاريخي المتواصل مع الاستعمار الاستيطاني العنصري الصهيوني ورعاته، الأمر الذي يستدعي التذكير بأمّ المجازر في ذكراها الثالثة والستين.
وفي مقالنا هذا نحاول التذكير وتوثيق هذه الذكرى في عامنا هذا شعرياً، مسلطين الأضواء على ما وقع تحت يديَّ من قصائد نظمها شعراء فلسطينيون وعرباً، هزتهم وحشية العدو الصهيوني، وأرادوا أن يوثقوا الوجع الفلسطيني بكلمات يطل من خلالها ألم كامن في الحروف.. وجعٌ فلسطينيٌ حمله الشعراء معهم في حلهم وترحالهم، بعد أن توالت النكبات وتعمّق الألم والجرح في النفوس بعدما طالت سنين الصراع، وطالت الغربة، وأخذ الألم في ازديادٍ مع كل مذبحة ونكبة ونكسة جديدة؟
توثيق شعري للدم المسفوح:
لعب شعراء فلسطين الأوائل أمثال إبراهيم طوقان وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، وبرهان الدين العبوشي، وعبد الرحيم محمود.. دوراً وطنياً هاماً ضد سلطات الاحتلال البريطاني، ونبهوا إلى مخاطر الحركة الصهيونية ومشروعها الاحلالي الاستيطاني فوق أرض فلسطين.
ويعد الشاعر محمد العدناني (1903م-1981م) من هؤلاء الشعراء الذين ظهروا في العقد الرابع من القرن الماضي. والعدناني شاعر فذ، أكثر شعره في القضية الفلسطينية ومأساة شعبها، وتعد قصيدته « دير ياسين »، من أوائل القصائد الفلسطينية التي وثقت شعرياً للمذبحة، يقول العدناني:
وما ديرُ ياسينِ سوى قِبلَة المُنى | وجامعَةِ الأحقاد في خافقِ العُربِ |
سَنُرجِعُها بالحَربِ تصهَرُ نارُها | أساطيلَ أمريكا، ومن ضَلَّ في الغربِ |
ونجعل إسرائيلَ تصْلى جحيمنا | وتَعرفُ أنّا سادَةُ الطَّعنِ والضَّربِ |
فمنْ شاءَ يوماَ أنْ يرى الجِنَّ والرَّدى | فإن عليهِ أن يَرى العُربّ في الحَربِ |
(من ديوان «فلسطين»، 27/4/1948م).
ونقرأ للشاعر لطفي الياسيني، ابن قرية دير ياسين، والذي استشهد سبعون من أفراد عائلته على أيدي العصابات الصهيونية، قصيدة بعنوان: « بكائية على قرية دير ياسين »، يقول فيها:
يا دير ياسين يا جرحاً غدا فينارغم المعاناة … مازلنا براكينااليوم ذكراك… ذاكرتي لتسعفنيمازلت اذكر …. والأعوام تقصيناستون عاما مضى والشوق يحملنيلقريتي الأم….اشتاق الطواحيناتلك المشاهد مازالت تعاودنيرغما عن الجرح يا أحياء ماضينافيها ترعرعت أيام الشباب ومانسيت يوما حواكيري ….طوابينااشتاق للخبز… للأعراس… أذكرهاتلك النواميس رغماً عن تجافيناأتوق للبيدر الغالي …. لحارتناوبئر قريتنا….. موتى أهاليناأتوق للعشب …. للأزهار … قريتنامفتاح منزلنا …. تلك الكواشيناأتوق للدار …. والأسوار تمنعنيوحارس الدار عند الباب ناسيناأكاد أوشك أن اطوي الحياة هناوالعين ترنو لسفح التل تبكينامازلت في القدس كم اشتاق رؤيتهاوالجرح في القلب ما اقسي تجافينايا رب هل لي قبيل الموت الثمهاأضمها نحو صدري لحظة…..حينااقبل الأرض والأحجار امسكهاواقطف الورد … اشتم الرياحيناعاركت أطوار أعوامي بلا أبتوآلام شيعتها واليتم يضنيناإني وحيد بهذا الكون وا… أسفيأصارع الداء … أغلقت الشراييناوالأهل والناس والأحباب تهجرنيفي هدأة الليل لا همس يسليناماذا جنيت لكي أحيا بلا أملأوشكت أغلق صفحات الدواويناواسلم الروح للمولى ….لبارئهاواهجر الأهل ….لبينا مناديناما نحن إلا ضيوف في منازلناحان الرحيل فما احلى تلاقينامني إليك سلام الله ما بقيتروحي احبك إيه…. دير ياسينا
وتوثيقاً لهذه المجزرة أيضاً نظم الشاعر الفلسطيني الراحل ذياب ربيع (1922م – 2010م) قصيدة عنوانها: « دير ياسين »، قال فيها:
نامت على صدر الجبل تشكو إليه المحتملأن ينثني الأعداء قصفا بالقنابل…..فافتعلوترجرجت هضباته واشتد ساعده عضلوهوت صخور من أعاليه تنبّه من غفلأوحت لها عبر العصور معارك الصيد الأولفتوزعت في كل منحـدر تـسـّد المدّ خلوأحسّت العجلات والخطوات تدنو في عجلوتهيبت لما رأت جيش العداة المكتمللكنّها صمدت وما لانت وعاودها الأملواستبشرت بالفجر يفضحهم لأحداق الأجلأين البنادق صو ّبت سقط المعرض وانقتللا تخطئن رصاصة هدفا تحـرّك وانتقلفتراجع الباغون ليلا بالضحايا والفشلواستجمعوا الجمع الكبير وفاجئوها بالحيل!!فالراية البيضاء لم ترفع آماناً للدجلوالنصر لا يجنيه منتصر برأي مرتجل فتصايحت أرواحهم والمستغاث به جفل غمر الممات عـيـونـه بيديه،خزياً وخجــلوارتج يأنف من رداءته وينكر ما فعلوحنا على الأشلاء، يمنحها وترفضه القبلخنقته رائحة الحياة تسيل في دمع الأزلفشهيد هذا العصر من بقروه طفلا في الحبليا "دير ياسين" التي ضربوك بالغدر المثلما زلت فينا لذ ّة الأحقاد ثــأرا مشتعلودماك يا أخت العلى قدسية لا تغتسلفغدا يفجـّرها بـراكينا وينتقم الجبللا يلدغن الطود ثانية ويؤخذ بالغيل
ونتوقف أيضاً عند قصيدة للشاعر الفلسطيني عبد الرازق البرغوثي وهي بعنوان: « اليوم ذكرى العرس الأحمر في دير ياسين »، جاء فيها:
قلبي تفطَر والتاريخ يسرد ليعن قرية أقفرت من أهلها العربِوإن سألت بياناً حول موقعهافإنها عن عيون ( القدس ) لم تغبِفيها اليهود أقاموا شر مذبحةللطفل والشيخ والعذراء، واعجبي!!يقودهم ( بيغن ) السفاح يرضعهمحقدا توارثه من أحلك الكتبِساقوا إليها جنودا لا عديد لهمفحاصروها كمثل العين بالهدبِفواجهتهم وما في نفسها أربإلا بموت لوجه الله محتسبِوما تخلى بنوها عن بنادقهمحتى نفاد عتاد، عُدْنَ كالخشبِفكم شهيد تهاوت بندقيتههب ابنه نحوها للحرب بعد أبحتى قضى الإبن جاءت أمه خببانحو الشهادة لم تجزع ولم تهبِإن قلت: مفخرة، أو قلت: مجزرة،فقولك الصدق لم تمدح ولم تعبِ(فدير ياسين) للأهلين مفخرةإذ جالدوا البغي أُسْدا دونما رهبِأما الغزاة ففيها الحق قد وشموابوصمة العار لن تمحى مدى الحقبفقل لمن ينكر الإرهاب مدعيابالعدل، يكفي الذي تذروه من كذبلو كان مرتكبوها من بني عربلطوردوا الدهرَ في الصحراء والسحب
وكما خلد شعراء فلسطين الكبار ممن عايشوا النكبة والأحداث الجسام التي مرت بها القضية الفلسطينية، نظم شباب فلسطين من النين أبت ذاكرتهم النسيان، فنقرأ للشاعر الفلسطيني الشاب محمد سيان العرب، قصيدة نظمها في (الذكرى الستين للمذبحة)، بعنوان: « آه يا دير ياسين.. و هل ذهبت دماءكم هدراً.. »، قال فيها:
آه لأنين الألملدمعة طفل ترتسمبدمائه تكتب بوطنو والده يرتقي للعلىوالدته تغتصبمشانقنا تنتصبو أخوته بصبر تبتلىذكرى آهات الزمنلقبوركم بقلبي حنينفيافا تبكيو القدس بحرقة تشكيدماء دير ياسينفألف آه يا فلسطينما أغلى الثمنو نبكي فرقة الأوطانلضعاف نفس الإنسانو غزة تسكنها الأشباحو بالضفة يغتال الكفاحففي الذكرى الستينأخبروني ماذا بعدضاعت بالشتات فلسطينو سقطت أكاليل الوردضمائرنا ما زالت تمتهنآه لقسوتك يا زمن
وتستوقفنا قصيدة للحاج محمد محمود أسعد رضوان،"أبو محمود" الياسيني (82 سنة)، أحد أبناء قرية « دير ياسين » الناجين من المذبحة، كان قد كتبها في الذكرى الخمسين للمذبحة، والحاج رضوان ليس شاعراً، وإنما جادت قريحته بهذه الكلمات المعبرة، التي توثق مدى عمق الألم الفلسطيني، ومرارة تلك الأيام التي عايشها، جاء في قصيدة الحاج محمد:
حل الغزاة بأرضنا وبلاديونعى العروبة ناعيها والحادِذكراك دير ياسين تهز جوارحيلبيك ولبى نداك فـؤادِفتعالت صرخاتك مدويةصداها هزّ الجبل والوادِدير ياسين العزيزة والجميلة أينهادير ياسين حبها بقلبي يزدادِرحلنا عنك وفي نفوسنا حزناًراح العجوز منا والطفل ينادِرحلنا عنك والجريح يخوض بدمهفوق الثرى متألما وينادِالله أكبر راح الشهيد منا غدراًبرصاصٍ حاقدٍ ماكرٍ صيّادِالله أكبر قد تهدم بنياناً عالياًشامخاً يطل على كل وادِالله أكبر يوم التاسع من نيسانسجله يا تاريخ عندك يوم سوادِسجل يا تاريخ أنها لمجزرةلم يشهد التاريخ مثلها في البلادِدير ياسين الباسلة بجحافلهاتصدت بشجاعة للغزاة الأوغادِدير ياسين بقممها الشمـاءمحاطة من كل جانب وادِخاضت جحافلها معركة شرسةشيب الجنين منها قبل الميلادِأسفي على شعب تمزق شملهغدا غريباً عن الأوطان شرادِيا شعب مالك حائر مستسلمالجو بارد والغمام سوادِدير ياسين صبراً إذا ما عدناك يوماًغداً ستعودي على أيادي الأحفادِفلسطين بقدسها وأقصاها تناديأين صلاح الدين لهم بالمرصادِربنا انصرنا على أعدائناكرامةً لنبيك المصطفى الهادِحتى نعيدها من الغزاة قهراًويوم النصر عندنا أعيادِاختم قصيدي هذا بالصلاة علىمحمدٍ وموسى وعيسى أهل الرشـادِ
صوت من الجزائر:
لم تكن مذبحة « دير ياسين » جرحاً فلسطينياً فقط، وإنما هي جرح عربي وعالمي وإنساني نازف، لذلك كتب الكثير من شعراء أمتنا العربية، وشعراء عالميون من مختلف الجنسيات والأقوام والأعراق والأديان، الكثير من القصائد حول فلسطين أرضاً وشعباً وقضية وجراحاً وآلام.
وقد خص الشاعر الجزائري عبد الرحمن الزناقي، مذبحة « دير ياسين »
بقصيدة عنوانها: « دير ياسين بعد المذبحة »، قال فيها:
وعبرنا كلَّ أسلاكٍ رهيبةوزحفنا فوق ربْوات حبيبةفرأينا أرضنا تلبس فستان العذوبة.ومشينا فوق أنظار الوحوش التترية.وبعثنا للسهول الشاعريةنفح قُبلات بها ألفُ تحيه.ووضعنا ألف كف عربيهولمسنا التربه السمراء بالأيدي القويةفشعرنا أنها روح إله الخير في أرض زكية.قد أتينا من بعيد في العشية،علَّنا ندفن موتانا ونرمي بالزنود اليعرُبيةمن غدوا في أرضنا السمراء مليون بلية.قد حملنا معنا الأكفان والماء الطهوراونعوشاً لونها يطلق نوراكل من فروا من القرية لما لبست ألفَ ضحيةأخبرونا أن جُند الغدر في تلك العشيةبتروا الأعضاء للناس بفن ورويهعذبوهم.. قطعوا أشلاءهمثم رَمَوْهُم بين أظفار المنيةبعد جهد قد وصلنافوجدنا شهداء القرية السمراء يبنون دياراً من فَخَارْودخلنا بغتةً أجمل دارفإذا فيها الأواني من نضار،والوسادات البهية،والكراسي الشاعرية،والستور المخملية،والزرابي فوقها تبدو رسوم فارسيةثم من بعدُ خرجنا.فوجدنا دير ياسين بها أبهى مُصلى وكنيسه.قد حضرنا حفلة فيها عريس باسم وهْو يرى خزراً عروسه.قد رأينا عمنا أحمد يسقي حقله الكائن في أقصى الشمال.حذوَه قطته البيضاء تمشي باختيال.قد دخلنا السوق والأعين فيها كل أطياف انبهار.فوجدناه مليئاً باخضرار واحمرار واصفراروازدحام نحو حُوتٍ صاده الصياد في نفس النهارفهمسنا إنهم يمشون في غير القيامةإنهم أحياء في أرض بها تعلو الكرامةثم سلّمنا عليهمفأتت كل الجموع.وتنادت أقبلوا مثل سنونو في الربيعقد أتوا من حيث لا ندري،وليلاً أوقدوا في القرية السمراء آلاف الشموع.ثم قالوا:أين كنتم؟قد بحثنا عنكمُ يا قوم في كل الربوعمنذ أن غبتم ونار الحزن تسري في الضلوع.أخبرونا عن جمال ووليد،عن زياد عن ثريا عن سعيد،عن أبي حسان ذي الرأي السديد،عن أبي غسان ذي الرأي العنودإننا في الحُلم لا نشهد إلا ظلَّكم يمشي على درب الرجوع.بعد عام.. بعد قرن سوف نجثو حذوكمنشرب شَرْبات الرجوع.ففرحنا وأكلنا التمر في صحن بديعوانطلقنا.ثم إنا قد حرقنا ألف نعش.ثم سرنانخبر الثوار في كل البرية،إننا في دير ياسين وجدناشعبنا الثائر من أجل القضيةيرقب الرجعة في كل صباح وعشيه.