قراءة في «نشوء فكرة الله» لسلامة موسى
ملاحظة: جميع الأفكار المعروضة هنا تعود إلى المؤلف ولا تمثل رأي كاتب المقال.
يستعرض المفكر المصري سلامة موسى في كتابه نشوء فكرة الله المراحل التي مرت بها فكرة الألوهية منذ فجر التاريخ وتسلسلها بدءاً من العقائد الوثنية القديمة وانتهاءً إلى فكرة الإله الواحد في العقيدة الإسلامية.
يبدأ الطرح بالمسيحية، والتي أخذت الكثير من الأديان المصرية القديمة، فالثالوث الأقدس الذي يعرف باندماج الأب والابن والروح القدس في إله واحد هو معتقد الثالوث الإلهي في الأديان المصرية القديمة والمكون من أوزيريس وإيسيس وهوريس. بالإضافة إلى اعتقاد المسيحيين بعذرية أم المسيح وهو امتداد لاعتقاد المصريين القدماء بعذرية إيسيس أم هوريس. وكذلك إذا أمعنا النظر في مراسم المسيحية كالصليب والقبر والكنيسة والهيكل ونظام القربان والكهنوت سنجد أنها مأخوذة من الأديان المصرية القديمة.
يُعرف الدين بأنه قوة خارقة لنواميس الطبيعة يحترمها الإنسان ويعبدها، ويرجع أصل الأديان إلى عبادة الموتى، إذ لم يفرق الإنسان القديم بين روح الميت والخالق، واعتقد بأنهما واحد، وقد كانت قبائل الكومبابه تعبد روح الميت، وإذا كان الميت ذو شأن اعتقدوا أن روحه سكنت جبلاً أو سحابة، وشرعوا بتقديم القرابين لها استجلاباً للأمطار واستنصاراً على الأعداء! وهذا هو أصل الأديان، عبادة الميت وتقديم الصلوات والقرابين له، وإذا اشتهر الميت أصبح إلهاً عاماً. ومع انتشار هذه العبادة، تراكمت حول هؤلاء الموتى الأساطير، وهي مجرد مبالغات عن أفعالهم في الحياة احتفظ بها الكهنة وصارت أساسًا للكتب المقدسة فيما بعد.
لم يدرك الإنسان القديم الفرق بين الموت وحالة الإغماء، فإذا ما غاب أحدهم عن الوعي استرضوا روحه بالصلوات حتى تعود إلى الحياة. وكان الإنسانُ يعتقد أن الروح ستعود إلى جسد صاحبها بعد الموت، وهو ما يفسر أعمال التحنيط التي حفظت الجسد لتسهيل عودة الروح إليه؛ فكما يغمى على المرء ثم يفيق، كذلك تغادر الروح الجسد ثم تعود إليه، وهذا هو أصل فكرة البعث.
ولأن التحنيط قد يفسد بعض ملامح الوجه، ظهرت صناعة التماثيل على صورة الموتى لتكون بديلاً يستقبل الروح إن تعذر عودتها إلى الجسد الحقيقي. ومع مرور الأجيال، نسي الغرض الأول من هذه التماثيل، لكنها ظلّت موضع تقديس، إذ تخيل الناس أن الأرواح ما زالت تسكنها. ومن هنا بدأ التحول من التمثال كوعاءٍ للروح إلى التمثال كرمزٍ للإله، فصار يُنحت بملامح بشرية متقنة ويُكرَّم بالقرابين. وهكذا ارتقت الأصنام من كتلٍ غامضةٍ وبدائيةٍ إلى تماثيل تمثل الميت أو الإله في صورته الكاملة.
ومع مرور الوقت، لاحظ الإنسان أن الأرواح لا تعود، فظنّ أنها تعيش في عالمٍ آخر، ومن هنا ارتقت فكرة البعث إلى خلود الروح. وأثار هذا الاعتقاد خوفًا من أن تؤذي الأرواح الأحياء، فظهرت عادات مثل حرق الجثث أو دفنها بعناية. ومع ذلك، استمر تقديم القرابين والعبادة اعتقادًا في قوتها الخفية.
وكانت القبور تُغطّى بالحجارة لحماية الجثمان، فترسّخ في ذهن الناس أن الروح تسكن تلك الأحجار، فصارت تُقدَّس هي الأخرى. وهكذا نشأت عادة تقديس الأحجار التي تطوّرت فيما بعد إلى عبادة الأصنام. ومن الأمثلة على ذلك عبادة العرب قبل الإسلام للات ومناة والعُزّى، والفينيقيون لبعل، والمصريون للمومياء أو التماثيل الصغيرة، وحتى الحجر الأسود في الكعبة، الذي حافظ على رمزية القداسة القديمة. ولم يقتصر التقديس على الحجارة والأموات فقط، بل تعداه إلى مكونات الطبيعة كالأشجار والآبار والبحيرات، وقد كانت العرب تعبد العزى وهي ثلاث نخلات!
أما اليهود، فقد عبدوا الأصنام قبل أن يعرفوا التوحيد، إذ كان لكل عائلة صنماً صغيراً يمثل صورة فقيد من العائلة يتبركون به ويقدسونه، ثم اكتسبت هذه الأصنام سمة القداسة وانتشرت الأساطير عنها ونسبوا إليها قدرات خارقة كقوة إيجاد النسل للعاقر، ولم يكن "يهوه" إله العبرانيين إلا صنماً من هذه الأصنام وكان اليهود يقدمون له أبنائهم البكر قرباناً ثم استعاضوا عن ذلك بختان الذكور وتقديم الزائدة التي تُقطع بدلاً من إزهاق أرواح أبنائهم.
ومع مرور الوقت وارتقاء الفكر الديني، ظهرت عقيدة التوحيد، حيث امتزجت صفات الآلهة المختلفة وفقدت خصوصياتها، فاندمجت في إله واحد جامع لكل الصفات. وهكذا صار يهوه الإله الواحد، خالق الكون، متجردًا من المادة، غير مرئي ولا يُمثّل.
وقد اعتقدت القبائل البدائية بقوة الأرواح، فكانوا يقتلون الأشخاص لفك أرواحهم والاستنصار بها، فمثلاً، إذا أراد رئيس القبيلة تبليغ رسالة إلى ميت أعطاها لرجل من قبيلته ثم قتله ليوصل الرسالة، وإذا أرادت القبيلة حماية المدينة أو بناء سور فلا تنتظر أن يموت رجل عظيم منها لتتوكل روحه بهذه المهام بل كانوا يقتلون رجلاً عظيماً لتصبح روحه إلهاً يُعبد. ولا تزال هذه العادة شائعة عند بعض قبائل غرب أفريقيا، إذ يقتلون بعض الرجال عند بدء المعركة ليستنصروا بأرواحهم، وكانوا يسفكون دماً بشرياً عند بناء السفن، وهو ما يفعله الإنجليز الآن بشكل رمزي إذ يسكبون النبيذ على السفينة قبل إنزالها إلى البحر، فالنبيذ عند النصارى في الكنائس يرمز إلى الدم.
ولم يعرف الإنسان البدائي أن نثر البذور في التربة تنتج زرعاً، بل اهتدى إلى ذلك عندما كان يدفن الميت ويدفن معه طعاماً له، ثم لاحظ أن النباتات تنبت فوق القبر، فظن أن روح الميت قد رضيت وكافأت أهله بنمو الزرع، ومن هنا نشأت آلهة الزراعة. ولذلك، أصبحت القبائل تذبح شخصاً أو حيواناً عند وقت بذر البذور من كل عام. وكان الاعتقاد سائداً بأن روح الضحية تتجسد في المحاصيل، فكانوا يدفنون جزءاً منها في الأرض ويأكلون جزءاً آخر اعتقاداً بأن أكل جسم الضحية يمنحهم قوة الإله وصفاته ويبارك زرعهم، ثم ارتقى الإنسان من التضحية البشرية إلى التضحية الحيوانية وهو ما نراه في طقوس الذبح عند العرب والعبرانيين إذ يذبحون الحيوانات باسم الله ويريقون دمائها.
اعتقد الإنسان البدائي أن تناول لحم الضحية أو شرب دمها يمده بقدرتها ويجعل محاصيله تنمو، مثلما كان يعتقد أن من أكل قلب الذئب يصبح شجاعاً مثل الذئب، أو من أكل نمرًا يصبح قوياً وشجاعاً. ومن هذه الممارسات تطورت لاحقًا طقوس القربان في الديانات المختلفة، وفي المسيحية، يأخذ المؤمنون الخبز والنبيذ باعتباره جسد ودم المسيح، أي أن روح المسيح تُجسَّد في الطعام والشراب ليمنح القوة الروحية والبركة، وهو استمرار رمزي للاعتقاد القديم بتجسد روح الإله في الضحية.
وللضحية عند الإنسان البدائي اعتباران: أنها تقدم كطعام للروح أو الإله، وأنها تقدم كأنها هي الإله ذاته، وهناك نوع ثالث من الضحايا يقدَّم كفداء عن خطايا القبيلة أو الأمة، كما صُلب المسيح لكي يفدي الناس من خطاياهم. والأصل في هذه الضحية الاعتقاد بإمكان نقل المرض أو الخطيئة من شخص لآخر أو إلى شيء آخر، ومثال ذلك قصة ملك تشوانالاند -بوتسوانا حالياً- الذي مرض مرضاً شديداً فأحضر ثوراً وتلى عليه الرقيات ثم أغرقه في النهر معتقداً بأن ذلك سينقل المرض منه إلى الثور. ومن هذا الاعتقاد نشأ الاعتقاد بإمكانية نقل الخطيئة، فبعض قبائل أفريقيا كانت تقتل شخصين سنوياً ليكفرا عن خطايا القبيلة، كما كان الأثينيون يقدمون ضحية عند حلول وباء في مدينتهم للتخلص منه.
ولا تزال بقايا عبادة الموتى والأرواح قائمة في المسيحية حتى اليوم، إذ كانت الكنائس الأولى تُقام على القبور، وكان مركز القديس يمثل مكانه بين قبيلته، تمامًا كما كان يحدث عند الإنسان البدائي مع رؤساء القبائل والأموات المكرَّسين. وامتد هذا التقليد إلى القرون الوسطى، إذ لا تبنى الكنائس إلا بعد وضع شهيد أو قديس في هياكلها، وقد نقل البندقيون جثة مرقس الرسول من الإسكندرية إلى البندقية ليُدفن في كنيسة باسمه. وفي الإسلام، يظهر أثر هذه العادات في التبرك بالقبور، مثل مشهد قتل الحسين الذي يحاكي البكاء على أدونيس عند السوريين، وهو استمرار لغريزة التدين الأولى التي تميل إلى عبادة الموتى والأرواح.
وإذا صدقنا رواية وجود المسيح كشخص، فإننا نعتقد أنه وُجد وقتل كضحية مؤلَّهة، والدليل على ذلك استمرار طقوس أكل الخبز وشرب النبيذ باعتبارهما جسد ودم المسيح، وهو امتداد رمزي للاعتقاد القديم بتجسد روح الإله في الضحية لتمنح القوة والبركة.
وختامًا، تظهر الطقوس الدينية اليوم، من عبادة القديسين، والتبرك بالخبز والنبيذ والقبور، كامتداد رمزي لغريزة الإنسان القديمة للتواصل مع القوى الخفية والتأمل في الموت والحياة. لقد تطورت هذه الممارسات عبر الزمن لتصبح منظَّمة ودينية، مع الاحتفاظ بجوهرها الأصلي في البحث عن القوة والبركة والحماية من الشرور. وهكذا، تظل الديانات بمختلف أشكالها مرآة للتاريخ البشري، شاهدة على ارتباط الإنسان منذ القدم بالموت وروح التضحية التي شكلت أساس طقوسه ومعتقداته.
