رحيل الأديب الدكتور الفلسطيني بطرس دلة
غادرنا اليوم الدكتور بطرس دلة ورحل معه شيء من طمأنينة هذا العالم
هكذا ببساطة تقال الجملة، لكن صداها لا يشبه بساطتها.
الذين عرفوه يعرفون أن غيابه ليس تفصيلًا عابرًا في يومٍ عادي؛ إنه تحوّل صامت يشبه انطفاء مصباحٍ لم نكن نراه، لكننا كنا نشعر بدفئه كل يوم.
هناك أشخاص حين يغادرون، يرحلون بلا ضجة، لكن الحياة من بعدهم تفقد توازنًا خفيًا لم نكن نعرف أنه يستند إليهم.
الدكتور بطرس دلة كان أحد هؤلاء: عمودًا غير مرئيّ، لكن قوته كانت تُشعر كل من حوله بالأمان.
مسار حياة… لا يشبه المسارات التقليدية
وُلد بطرس دلة في مجتمع يتقاطع فيه البساطة مع الطموح، وفي بيئة تعرف تمامًا معنى أن يكون الإنسان مرآة لما تربّى عليه.
منذ صغره، كانت ملامحه تحمل شيئًا من الوقار المبكّر؛ ذلك الوقار الذي لا علاقة له بالعمر بل بعُمق النظرة.
كان طفلًا يتأمّل قبل أن يجيب، يهتمّ قبل أن يُسأل، ويسأل أسئلة أكبر من عمره.
كبر، وكبر معه شغفه بالمعرفة.
لم يكن العلم بالنسبة له طريقًا للحصول على لقب، بل وسيلة لاكتشاف الإنسان وتخفيف ألم العالم.
سافر ليتعلّم، لكن العودة كانت دائمًا حلمه، لأنه كان يدرك أن الأرض التي أنبتته تحتاج إلى ثمرة جهده.
عاد حاملًا درجة الدكتوراه، ولكنه عاد قبل ذلك حاملًا مسؤولية.
مسؤولية أن يستخدم ما تعلّمه لخلق فرق حقيقي، لا فرق شكلي.
وهو ما فعله… مرارًا وبأشكال لا يمكن حصرها.
أدلّته العلمية… كانت امتدادًا لأخلاقه
كتب الدكتور بطرس أبحاثًا، قدّم أطروحات، شارك في مؤتمرات، وخاض في المسائل التربوية والثقافية بعمق أكاديمي ثابت.
لكن أجمل ما فيه أنّه لم يستخدم العلم سلاحًا للتعالي، بل جسرًا للتواصل.
كان يشرح أدلّته بمنطق واضح، ويستعين بالمنهج، لكنه كان ينحاز للإنسان أولًا.
ولذلك كان طلابه يجدون فيه أستاذًا مختلفًا: لا يخيفهم، لا يثقل عليهم، بل يفتح لهم المساحة ليكونوا أنفسهم.
إن أعظم أدلّة الرجل لم تكن في كتبه فقط، بل في سلوكه اليومي:
في احترامه للوقت،
في دقته،
في قدرته على الإصغاء،
وفي طريقة حديثه التي تجعل الحقيقة تبدو أكثر قربًا وأقل قسوة.
المربّي الذي مارس التربية قبل أن يدرسها
كان الدكتور بطرس دلة مربّيًا بالفطرة.
عندما يدخل صفًا، كان الصمت يختلف… يصير صمت إصغاء لا صمت خوف.
وعندما يشرح فكرة، كانت الكلمات تبدو كأنها تأتي من مكان عميق في داخله، لا من كتاب.
الإنسان عنده كان مركز العملية التربوية، لا الهامش.
كان يرفض أن تُختصر المعرفة في الامتحانات، ويرفض أن تُختصر قيمة الإنسان في معدّل.
كان يعرف أن العقول تُصقل بالصبر، وأن القلوب تُفتح بالاحترام.
أثره المجتمعي… أثر يختبئ في التفاصيل
لم يكن وجوده مقتصرًا على المؤسسة الأكاديمية، بل كان جزءًا من النسيج الاجتماعي.
شارك في الندوات، كتب، ناقش، دافع، وحاور.
لم يكن صوته مرتفعًا، لكن أثره كان عميقًا، لأن الحجة عندما تقترن بالهدوء تصبح أكثر قوة.
كان يحترم التعددية، يحترم الاختلاف، ويرى في الحوار ضرورة لا مظهرًا.
كان ينادي دائمًا بأن الإنسان يستحق فرصة، وبأن المجتمع لا يُبنى على الصدام بل على الفهم.
الرحيل… حين يصبح الامتحان الأخير للذاكرة
رحل الدكتور بطرس دلة، وترك وراءه فراغًا لا يُملأ.
لكنّه ترك أيضًا ذاكرة مُلهِمة لمن عرفه، ودرسًا طويلًا لطلابه، ورسالة لمن بقي:
أن العلم بلا إنسانية عبء،
وأن الإنسان بلا احترام ظلّ هش،
وأن المجتمع لا يقوم على الصوت العالي، بل على الهدوء الذي يعرف ما يقول.
هذا الرحيل يوجع.
لكن وجعه يشبه الدرس الأخير الذي لا ننساه.
سلامٌ لروحه… وللضوء الذي لن ينطفئ
سلام لروحه الطيبة،
لإنسانيته،
لحكمته،
ولذلك النوع من الناس الذي كلما عرفناه أكثر… أدركنا كم نحن بحاجة إليه.
سلامٌ لك يا دكتور بطرس،
لأنك غادرت جسدًا، لكنك تركت أثرًا لا يغيب…
أثرًا سيظلّ يمشي بيننا طويلاً.
