

صاحب القميص الأحمر
القصة الفائزة بالقائمة القصيرة في مسابقة ديوان العرب رقم ١١ دورة الصمود، والمقاومة، ٢٠٢٥
وُلِدتُ في فلسطين، في حيٍّ يعجُّ بالحياة رغم رائحة الموت التي تفرض نفسها على كلِّ شبر منه، أحبُّ كرة القدم، أعشقها كما أعشق أبي وأمي وجدي، وكما أحبُّ أن أركل الكرة بقوة فأسدد هدفًا رائعًا، أودُّ أن أركل الخوف بعيدًا عن قلوب الصغار بحيينا.
اسمي "مالك" يعرفني أبناء الحي كلهم، يلقبونني بالنجم الصغير إلا أنني أحب لقبًا آخر يطلقه عليّ جدي بمناسبة أو دون مناسبة "المقاوم العنيد" ذات مرة عندما سألته عن المعنى حكى لي عن شاب يحب وطنه وأرضه وبيته، فقاوم الصهاينة حتى فقد قدمه اليمنى وساقه ويده، وزج به إلى الأسر تاركًا خلفه زوجة نفساء وابنًا وُلد قبل إسبوعين فقط!
لم يكمل جدي الحكاية تقطع صوته حتى خفت تمامًا، إلا أنني عرفت البقية وحدي عندما نظرت إلى ساقه اليمنى فلم أجدها.. جانبه الأيمن محترق تمامًا يده ووجهه ووعينه، كانت حادثة مريعة حكاها لي أبي مرارًا، لم يغفل تفصيلة واحدة رغم أنه لم يشهدها، حكى لي عن جدي يلقى في الأسر بلا علاج وعن جدتي تعمل بتنظيف المدارس حتى توفر له نقود دراسته.
تموت جدتي بعد ثلاثين عامًا من التشرد والألم والأمل في عودة جدي الغائب طويلًا، وياللقدر العجيب يتم الإفراج عنه بعد وفاتها بأسبوعين!
أتعلقُ بالأرض وأقسم أن أعمل جاهدًا من أجل تحريرها ودرء الظلم عن كل مقهور فيها، سأثأر لجدي صاحب القدم الواحدة ولجدتي التي تمنت أن تلتقي زوجها لكنها رحلت دون أن تلتقيه.
أحب كرة القدم أكثر، أشعر أنني أنفث عن غضبي كلما ركلتها بشكل أقوي، أرتدي قميصي الأحمر الذي يحمل رقم اثنين وعشرين الخاص بلاعبي المفضل ثم أتمنى أن أصافحه ذات يوم يُحرر فيه الوطن.
أذهب إلى المدرسة، أتعلم وأحلم، ثم أركض إلى الساحة الرملية مع أصدقائي. حين تلامس قدمي الكرة، أشعر أنني أطير وأقود الفريق نحو النصر. الجميع يقولون إنني السبب في الفوز دائمًا، لكنني أضحك وأقول: "أنا فقط أحبُّ اللعب لأجل أن يُقال اللاعب الفلسطيني مالك."
أبي يشجعني بحب، يرى فيّ لاعبًا عالميًا سيرفع اسم فلسطين عاليًا، أما جدي فكان ينظر إليَّ بحكمة ويقول: "لاتفرط في الأرض أبدًا حتى لو قُطعت إربًا لأجل الحفاظ عليها" يؤذيني التشبيه العجيب ورغم ذلك أشعر أن كلماته تشبه هدير الجماهير عند تسجيل الهدف.
ذات يوم، بعد المدرسة، كنا نلعب كالعادة. الكرة بين قدمي، أنطلق نحو المرمى، أسمع هتافات زملائي، لكن فجأة... دوى صوتٌ مرعب. صفارات الإنذار! طائرات تحوم فوق رؤوسنا. ركض الجميع إلى بيوتهم، أما أنا فظللت أنظر للكرة التي بقيت وحيدة بالساحة، وكأنها تسألني ألا أتركها وحدها.
لم أستطع الركض بعيدًا والنجاة بروحي دونها، انتظرت قليلًا حتى هدأ القصف، وخلا الشارع من الجنود، سرت ببطء حيث الكرة تهتز يُمنة ويسرة، شعرت أنها تتراقص لأجل وفائي لها فأسرعت الخطى باتجاهها ممنيا نفسي بالتقاطها سريعًا والعودة للبيت وفجأة ارتفعت أصوات القصف مرة أخرى وامتلأ الهواء بالغبار المعبق برائحة البارود والدم.
سقطتُ على الأرض، لم أشعر بالألم فورًا، فقط دوى الانفجار في أذني كأنه زئير وحش جائع، ثم ساد صمت مخيف. لم أفهم ما حدث لكنني شعرت بسائل دافئ يسيل من فخذي.
سمعتُ صرخات، خطوات تركض نحوي، رأيتُ ظلًّا يقترب، أبي، كانت ملامحه مرعوبة، يناديني بصوت مكلوم، مالك! لم أستطع أن أجيب، لكنني رفعتُ يدي قليلًا لأشير للكرة، كنتُ أريدها، أريد أن أسجل الهدف الأخير قبل أن ينتهي وقت المباراة لكن الوقت انتهى بطريقة مرعبة.
حملني أبي، شعرتُ أنني خفيفٌ جدًّا، كأنني الريح التي تراقصني حين أركلها، لم أستطع أن أحرك قدمي، حاولتُ لم أقدر! حاولتُ مرة أخرى، لكن لا شيء، لا شيء على الإطلاق. تجمّدت الدموع بعيني وأنا أرفع بصري إلى أبي، لكنه لم ينظر إليّ، كان وجهه مشدوهًا وهو يركض وسط الشوارع المظلمة.
لم أستطع الصراخ، لم أستطع حتى البكاء، لكنني همستُ: "أبي، قدمي تؤلمني أريد أن ألعب، يجب أن أخوض المباراة النهائية غدًا" لم يرد، فقط شدّني باكيًا إلى صدره بقوة أكبر.
وصلنا المستشفى، ضجيج، صرخات، دماء، كل شيء كان ضبابيًا، لم أفهم لماذا الجميع يركضون، لماذا الأطباء يصرخون، ولماذا يصر أبي على البكاء، ثم، ببطء، خفتت الأصوات وبهتت المرئيات حولي لتحل محلها صورة لاعبي المفضل صاحب القميص الأحمر، كان يربت على كتفي ويحدثني عن الصبر حاولت أن أشرح له مدى سعادتي برؤيته لكنه لم يبتسم، حكيت له عن موهبتي الرائعة في كرة القدم لكن زاد تجهمه أكثر سألته إن كان هناك بأس ما لكنه لم يجب!
استيقظت من الحلم العجيب بعد ساعات، أو ربما أيام، لم أعرف. فتحتُ عينيّ ببطء، نظرتُ حولي، كانت الغرفة بيضاء، ومع ذلك شعرتُ أنها معتمة. رفعتُ رأسي قليلاً، وسمعتُ صوتًا أعرفه، كان جدي، لم أره يبكي من قبل، حتى عندما تحدث عن سجنه وتعذيبه، كان قويًّا، لكن الآن؟ الآن يدفن وجهه في يديه، ويبكي.
أدرتُ رأسي ببطء، سألت أبي عن الكرة هل مازالت عالقة وحدها في الساحة؟ لم يرد فقط نظر باكيًا إلى قدمي، نظرتُ إلى جسدي، ثم توقفتُ، توقف الزمن كله... لم أجد قدمي.
اختفت. لم تكن هناك!
شعرتُ أن شيئًا انتُزع من روحي، ليس فقط ساقي، بل أحلامي كلها، كل مباراة لعبتها، كل هدف سجلته، كل مرة ركضتُ فيها بسرعة الريح، كل مرة حلمتُ فيها أن أكون لاعبًا يرفع علم فلسطين، كل شيء ذهب مع قدمي.
لم أصرخ، لم أبكِ، فقط نظرتُ إلى السقف بصمت، كنتُ أسمع همسات أبي وصوت أمي المرتجف وهي تقول: "ستكون بخير، أليس كذلك؟ ستظل قويًا، ستظل بطلًا" لكنني لم أعد أشعر أنني بطل، كنتُ مجرد طفل فقد قدمه بساحة لم تكن ساحة ملعب، بل كانت ساحة حرب، وسقطتُ فيها ليس لأنني أخطأتُ في تسديدة، بل لأن العالم كله كان يسدد نحونا منذ سنوات.
مرّت الأيام، ببطء، بثقل، كأنها تحمل جبالًا على ظهرها. أراقب الأطفال من نافذتي، يركضون، يضحكون، يتدافعون خلف الكرة، يصرخون فرحًا كلما سجلوا هدفًا، وكنتُ هناك جالسًا وحدي في صمت، أو باكيًا في ألم، تمتد يدي تلقائيًا لساقي المبتورة، أتحسس الفراغ، لكن الفراغ لم يكن بجسدي فقط!
في كل ليلة، أغمض عيني وأرى نفسي أركض بالملعب، أشعر بالهواء يصفع وجهي، أسمع صوت الكرة يرتطم بالأرض، أسمع هتافات الجماهير، أرى من بينهم لاعبي المفضل يصفق لي لكن فجأة، يتلاشى كل شيء، يتوقف الركض، ويعود إليَّ الواقع مثل صفعة باردة.
كنتُ أعتقد أنني مت، أن قصتي انتهت هنا، لكن جدي لم يسمح بذلك. ذات مساء، جلس بجانبي، وضع يده المحترقة فوق يدي وقال بصوته العميق: "الأرض لا تحتاج لأقدام أو أيدٍ قوية يا بُني، يكفيها قوة الإصرار في روحك، الحرب لم تأخذك كلك، فلا تنس هذا أبدًا".
هدأتني كلماته بدت وكأنها تصنع لي قدمًا جديدة من العزيمة.
في اليوم التالي، عندما نظرتُ لساقي، لم أعد أراها كفقدان، بل كوسام، كعلامة على أنني نجوت، على أنني ما زلتُ هنا. أبي اشترى لي ساقًا صناعية، لكنني لم أكن بحاجتها لأقف، كنتُ بحاجة إلى شيء آخر، أن أؤمن أنني لم أسقط بعد.
وقفتُ، لم يكن الأمر سهلًا، كان مؤلمًا، متعبًا، لكنني فعلتها، وقفتُ وحدي، بلا مساعدة، ثم رفعتُ رأسي عاليًا كما كنتُ أفعل عندما أسجل هدفًا.
بعد شهور من العلاج والتأهيل، عدتُ إلى الساحة، لم أركض كما كنتُ أفعل، لم أراوغ كما كنتُ أجيد، لكنني وقفتُ أمام الكرة، نظرتُ إليها طويلًا، ثم رفعتُ قدمي، وسددتُها بكل قوتي لم تكن تسديدة عادية، كانت إعلانًا، كانت وعدًا، كانت صرخة: "أنا هنا ما زلتُ هنا، مازلت قادرًا على اللعب ولو بجودة أقل!"
صرخ أصدقائي باسمي، احتضنني أبي، بكى جدي، لكنني لم أبكِ، لأول مرة منذ شهور، بل ضحكتُ كما لم أفعل منذ زمن.
اليوم، وأنا أحاول، عرفت معنى المقاومة الحقيقي. لم أعد أقاوم فقط لأجل الفوز، بل لأجل كل طفل فقد جزء منه في هذه الحرب أحمل الرقم اثنين وعشرين، ليس فقط على قميصي، بل في قلبي، كرمزٍ لحلمٍ لا يموت، ومقاومةٍ لا تنكسر.
لن أكون لاعبًا عالميًا كما كنتُ أحلم، لكنني سأكون شيئًا آخر، سأكون قصة تُحكى، ورمزًا للأمل وسط عتمة اليأس، سأكون الحلم الذي لن تمحوه قذيفة، ولن يكسره احتلال أو قصف.
في تلك الليلة، نمتُ بعد تعب طويل، بعد يومٍ من المحاولات، من الركل والسقوط والوقوف مجددًا. أغمضتُ عينيّ، لكنني لم أغرق في النوم، رأيتُ نفسي في ملعبٍ ضخم، الأضواء تسطع، الهتافات تهزّ المكان، والكرة عند قدمي.
رفعتُ بصري، فرأيتُه هناك... صاحب القميص الأحمر، يقف على الخط الجانبي، ينظر إليّ بابتسامة، يهتف باسمي كما يهتف الجمهور، يرفع يده مشجعًا، كأنه يعرفني ويحبني.
شعرتُ بطاقة هائلة تجتاحني، كأنني أستعيد قدمي المفقودة، كأنني أركض كما كنتُ أفعل. تقدمتُ نحو المرمى، تسللتُ بين المدافعين، نظرتُ إلى الزاوية، ثم سددتُ الكرة بكل قوتي!
اخترقت الشباك، دوى صوت التصفيق، ارتجّ الملعب بهتافٍ واحد: "مالك! مالك!" نظرتُ إلى المدرجات، فرأيتُه يصفق لي، يرفع إبهامه، يصرخ باسمي، بكيت من الفرح.
لكن فجأة، تلاشى كل شيء، عاد السكون، واستيقظتُ... قلبي ينبض بسرعة، دموعي على وجنتي، يدي لا تزال مرفوعة في الهواء كأنني أحيي الجمهور. ابتسمتُ وسط الظلام، عرفتُ الآن أنني لم أفقد كل شيء، ما زلتُ أملك حلمي، وما زال هناك من يشجعني، ولو في حلمٍ بعيد.
نهضتُ، نظرتُ إلى ساقي الصناعية، ثم إلى قميصي الأحمر المعلق على الجدار وبكيت!
في اليوم التالي، جلست بزاويتي المعتادة، أراقب الكرة عند قدمي، كنتُ أستعد للنوم حين اهتز هاتفي فجأة، لم أتوقع رسالة بهذا الوقت، ففتحتُها بيد مرتجفة، وعيناي تحدقان بالاسم الذي ظهر على الشاشة!
كان رقمًا غريبًا لكن عندما ضغطتُ على التسجيل الصوتي، تجمدتُ في مكاني.
"مالك، السلام عليكم... أنا..." توقفت أنفاسي، كاد الهاتف يسقط من يدي، كان الصوت مألوفًا، قويًا، واضحًا، إنه هو! صاحب القميص الأحمر! لاعبي المفضل. تابع الصوت بحماس: "أعرفُ قصتك، وأتابعك منذ فترة، أنت رمزٌ للصمود والمقاومة، وأريد أن ألتقيك. لقد أخذتُ كل الترتيبات، وسأكون بانتظارك في بيتي، هذه دعوة عاجلة، ولا أقبل الرفض!"
تسارعت دقات قلبي، بكيت في ذهول، هل هذا حقيقي؟ هل أحلم مرة أخرى؟ نظرتُ حولي، ضغطتُ على الرسالة مجددًا لأتأكد، كان الصوت لا يزال هناك، الحقيقة لا تزال تصرخ أمامي: إنه يعرفني! إنه يدعوني!
قفزتُ من مكاني، ركضتُ نحو أبي وجدي، لم أستطع الكلام، أعطيته الهاتف، وضغطتُ على التسجيل، وتركتُهما يسمعان. رأيتُ بعيني أبي دموعًا حاول إخفاءها، أما جدي، فقد ابتسم، تلك الابتسامة التي لم أرها منذ زمن، ثم قال: "أرأيت؟ قلتُ لك... الأرض لا تحتاج لأقدام، تحتاج لقلوب قوية، وها هو العالم كله يراك الآن!"
حينها شعرتُ أنني أطير بلا جناحين أو قدم.. فقط أطير لأنني قررت ألا أنكسر أبدًا.