الاثنين ٢٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٠
بقلم أوس داوود يعقوب

شربل بعيني الملك الأبيض

صدر مؤخراً في العاصمة الاسترالية "سيدني" كتاب للأديب التونسي كمال العيادي بعنوان:( شربل بعيني الملك الأبيض)، وهو عبارة عن عمل توثيقي للتعليقات التي كتبها العيادي تحت مقالات الشاعر اللبناني شربل بعيني المنشورة في موقع «دروب» الالكتروني عام 2006م، لتخرج اليوم إلى النور ضمن كتاب أنيق مؤلف من 112 صفحة من الحجم الوسط، مبشّرة بمدرسة جديدة في ما يمكن أن نطلق عليه اليوم "أدب التعليقات الالكترونية"، وهو إنجاز إبداعي مختلف يستحق التشجيع ، لأنه يؤسس لأدب جديد يواكب العصر، و يشرّع بانفتاح على مرحلة جديدة في الكتابة الإبداعية، ذلك أن بعض هذه التعليقات و الردود الجادة غالباً ما تفتح المجال واسعا لتعميق الرؤية والبحث الدؤوب من أجل الوصول إلى الأفضل، كما أن بعض التعليقات ذات قيمة أدبية غير عادية، يمكن الاستفادة منها في توليد نصوص جديدة…
وقد لخصت مقدمة الكتاب التي جاءت بقلم الدكتور علي بزّي ( رئيس مجلس الجالية اللبنانية في أستراليا )الموضوع ، و كشفت عن تأسيس حقيقي لعملية إبداعية أضافت للأدب شكلاً جميلاً، يقول الدكتور بزّي: "علّمونا في مدارس أيام زمان عن أدب الرحلات، وأدب الرسائل وما شابه، ولم يدر بخلدهم أننا سنصل إلى يوم نعلّم به أطفالنا عن أدب التعليقات.

أجل، أدب التعليقات.. وخير دليل على ذلك هذا الكتاب الغارق حتى نقطه وحركاته بالنثر البديع، والشعر الرفيع.

وها أنا أطلعكم على حبيبات قليلة جمعتها عن بيدر (العيّادي) المتخم بخيراته، علّني أعطيكم ولو لمحة بسيطة عن أدب قد يبدأ ساعة صدور هذا الكتاب، ومن يدري فقد يغيّر شكل التعليقات التي نقرأها، ونشمئز منها، ونشفق على أصحابها لتفاهة معظمها، لدرجة أن العديد من أصحاب المواقع يسارعون إلى التخلص منها كما نتخلّص من نفاياتنا كي لا تزكم الأنفاس أو تنشر الجراثيم. أولئك الذين عناهم العيادي حين أبدع:

كثيراً ما أطرق أبواب نصّك العديدة،
لأستريح من نزق الريح،
وفساد السرد المليء بالغبار،
وبما هو صالح وطالح،
وكنت دائماً مطمئناً إلى أنني واجد
في حدائقك من الأرض
ما يكفي لأرى السماء صافيّة.

فهو، إذن، لا يرى السماء صافية إلا بالسرد الصالح الخالي من الغبار. كيف لا، وهو الذي أبى أن ينزف قلمه، أينما كتب وحيثما كتب، إلا الدرر، فأضحى الرائد في عالم أدب التعليقات:

أنا المكوّر كاللوز الفج
خاتم رسائل حبّه..
آيتي الليل والقمر ورجع الأنين..
أنا الذي يفكّ القيد ويرفع حرج النساء.
أنا خشب الصندل المعطّر بريح السفن القديمة.
هذا الربيع ليس له علامة..
ربما كذبت كل الفراشات
وربّما كذب الخطّاف ثانية..
وحدهم الشعراء لا يموتون
أنا أحييه متعمّداً ألاّ يرى من وجهي إلا نصفه المبتسم.
بربكم، هل هذا كلام تعليقات؟!
اسمعوه إذن حين يمدح:
نبلك يغرقني في لجة من الغبطة والزهو.
حقّ لمثلي أن يتطاول بمثلك.
أو حين يعضد:
غابة حزنك مثمرة أشجارها،
وتغري كل مساء بالتوغل فيها من جديد.
أشدّ بكل حبّ وفهم وقوّة على يديك،
راعياً جديداً،
يقشّر بثُور الزمن بصوت نايه،
ويحدّث العشب عن نزق الأشجار التي تحلم بالرحيل..
وقد تفعل".
تعليقات كنبض القلب..

تنبع أهمية الكتاب الذي يشكل إبداعاً سامياً داخل حركية حركة الإبداع، من امتلاك العيادي قدرة فنية عالية على التحليق في الجمال بتعاليقه المميزة، التي تبدو وكأنها تبتسم لقرائها، وعليه يكون التعليق عنده بناء هندسياً جميلاً لتلك النبضات القلبية والانفعالات التلقائية الناتجة عن علاقته بالنص المقروء دون تكلّف للصناعة وجهد المراوغة والحسابات الذهنية ..فهو بالصدق والإخلاص لبنية النبض القلبي يكتب بسرعة ما يثير الإرباك الجمالي ويحدث الفتنة فيسأل المتابع له في سرّه : كيف أمكن له أن يبدع كما يتكلم ؟ وكم بقي من الوقت ليكتب هذا ؟ هل راجعه ؟ هل أعانه عليه شخص آخر ؟

ولكن سرّ الحكاية تكمن في الواقع في المطابقة ما بين بنية القلب والذهن وبين بنية اللغة..أما الجديد في ذلك فيعود إلى مجال الانترنات الذي كشف هذه المطابقة بما وفر لها من فرص للكشف عنها تحت ضغط الحاجة إلى الاستجابة لمتطلبات الواقع الافتراضي الجديد ورهاناته وتحدياته ..

إن هذا الأدب الجديد أمر على غاية كبرى من الأهمية باعتباره استجابة لمتطلبات الثورة "العنكوبتية" .. وما فعله العيادي بإصداره لهذا الكتاب سيخلط بعض الأوراق ويعيد الاعتبار للجدية في كتابة التعاليق كما يعيد الاعتبار للصدق في التعامل السريع مع المقروء الالكتروني والإخلاص للإبداع بعد أن توهم المفلسون أن الحابل قد اختلط بالنابل…

الشاعر شربل بعيني كتب كلمة الغلاف الخارجي للكتاب وأهداها لصديقه العيادي، وجاء فيها:

ما أصعب أن تكتب عن أديب كتب عنك وأبدع، فلسوف تقف أمامه كالتلميذ أمام معلمه، له الكلمة والطاعة، وما أجمل الطاعة حين يكون الكلام معلماً.

أنا أعرف تماماً أن العيادي كتب هذه التعليقات بسرعة الضوء، لأنها مضيئة كالشمس. كتبها وهو يرشف قهوته الصباحية، أو يتأهب للنوم.. كتبها وهو يسرع إلى قضاء حاجة، أو وهو يدخّن النرجيلة، ولكني ما زلت أجهل كيف تمكن وهو على هذه الحال من ابتكار عبارات أدبية وصور شعرية أقل ما يقال فيها إنها رائعة.

هنا يكمن صدق الكلام، فلو لم يعجب كمال بما قرأ لا يمكن أن يكتب ما كتب، وبالتالي لا يمكن أن أعجب أنا أو أنتم بما كتب. فالأدب عكس المرآة لا يريك نفسك فحسب، بل يسلّط عليك المجهر ليراك الآخرون.

وها هو العيادي تحت المجهر، فاحكموا عليه: هل أبدع؟.. هل كان السبّاق في ابتكار أدب التعليقات؟ هل أعطى درساً قاسياً لكل من علّق على مقال بتفاهة تخجل منها الكلمة؟ وأخيراً، هل سيغيّر هذا الكتاب سير التعليقات المستقبليّة في عالم الإنترنت؟

أجل.. هذا ما سيحدث، وإلى أن يحدث، سأردد على مسامعكم ما رددت في خلوتي: شكراً يا كمال.. شكراً أيّها التونسي الأخضر، من وحي أغنية فريد الأطرش: تونس أيا خضرا.. قد نلتقي، وقد لا نلتقي، قد نتعانق وقد لا نتعانق، ما هم، المهم أننا لن نرحل عن هذه الفانية كباقي الناس، بل سنبقى معاً، وسنعيش معاً إلى أبد الآبدين ضمن جنّة هذا الكتاب.. الملك.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى