

خارج أجندة النسيان
ماذا فعلتُم بنا؟
أيُّها الراحلونَ من أُتونِ الأرضِ إلى السماءِ،
أغمضتُ عيني،
تلاشى الخوفُ،
تبدّدت العتمةُ،
نحوَ النورِ الأبديِّ
تُحلّق في رأسي الأفكار،
أجدني معكم، ولستُ هناك،
تتعالى أصواتُكم في كلِّ الأرجاءِ،
يتراءى ضوءُ القمرِ من حولِكم،
أتحرّرُ من ضعفي وخوفي،
هواجسي معكم
حاصرتم حقولَ نومي،
أفكاري لا تُقرأ،
دموعي لا تُسمَع،
تحترقُ جدرانُ صمتي
كيف لي أن أطردَ صُوَركم من رأسي؟
كيفَ أمحو بقايا أصواتِكم؟
ألملمُ بقايا الشظايا الفكرية،
أبتسمُ للشمس،
أمسحُ بقايا كلماتي،
لأُطهّرَ روحي من ألمي
على شرفةِ الهروب،
أُجففُ دموعَ حبري،
أدمت قلبي ابتساماتُكم الباهتة
لا بأسَ عليكم،
لا بأسَ علينا
لكم صلواتي ودعائي،
لم يعد الأمانُ رفيقَكم،
لأرى عيونَكم في السماءِ،
أُروّضُ انفعالاتي،
أعتذر منكم،
أعتذر من نفسي
أجعلُ الغيومَ ورودًا،
كالأزهارِ البرية،
أجعلُ المدنَ شلّالًا من نور،
أحبُّ الحياةَ من أجلكم،
أحبُّ الهواءَ المحمَّل بابتسامتكم،
لِتحلو الحياةُ بنبضِكم المنطفئ،
أصواتُكم الناصعةُ في الغياب،
كنتُ أسمعُ هسيسًا بيننا لا يسمعه أحد
تتنفّسُ حروفي،
يهبطُ قلبي،
أمحو دهشتي،
أُهديكم دفءَ الروحِ وقصيدتي،
كما يلتهمُ الظلامُ أوجاعَ الأبرياء
عواصفُ شعوريةٌ تعصفُ بوجداني،
كلَّ ليلةٍ تتدفّقُ ضحكاتُكم البريئةُ كالوميض... وتَرحل
سأهديكم صلاتي كلَّ مساء،
أما في الصباح، سأقطفُ الورود،
أُقبّلُها وأنثرُها حولَ طيفِكم
لكم أن تفعلوا ما يحلو لكم هناك
ستكونون دومًا،
خارجَ أجندةِ النسيان
لموتِ الطفولةِ ألمُها الدائمُ في خاصرةِ الحياة،
هذا ما اقترفهُ قلمي
//////////////////////////
مشاركة منتدى
1 حزيران (يونيو), 07:15, بقلم رانية مرجية
خارج أجندة النسيان... داخل أروقة الألم والرجاء
قراءة نقدية تحليلية موسّعة في نصوص الشاعرة حنان جبيلي عابد
بقلم: رانية مرجية
"خارج أجندة النسيان" ليست مجرد قصيدة واحدة، بل هي ديوانٌ مفتوح على انفعالاتٍ كونيةٍ تجتاح الذات الفردية وتتماهى مع الوجع الجمعي، وهي شهادة وجدانية عميقة على أن الشعر لا يُكتب بالحبر، بل بالدمع والخسارات والحبّ المُعلّق على ضفاف الحياة.
من الذاكرة الشخصية إلى الذاكرة الجمعية
منذ السطر الأول في القسم الأول من القصيدة – "ماذا فعلتم بنا؟" – تضعنا الشاعرة في قلب المأساة، في منطقة رمادية بين الحياة والموت، بين السؤال والذهول، حيث الراحلين لا يرحلون فعلاً، بل يتغلغلون في التفاصيل اليومية، في الأحلام والهواجس، حتى تغدو الفقدانات شريكة حياة.
يبرز في هذا القسم توظيف حنان جبيلي عابد لأدوات رثائية ذات بعد صوفي، حيث يتداخل الفقد مع النور الأبدي، والهواجس مع القداسة، وتصبح الكتابة طقسًا للتطهّر:
"أُهديكم دفءَ الروحِ وقصيدتي، كما يلتهمُ الظلامُ أوجاعَ الأبرياء"
هذا البيت يُلخّص المأساة الشعرية الأخلاقية التي تتعامل معها الكاتبة: كيف نحوّل الغياب إلى صلاة؟ وكيف نجعل من الحبّ لغةً تبقى خارج أجندة النسيان؟
الكتابة كفعل مقاومة
في الجزء الثاني، تتحوّل النبرة من البكاء على الراحلين إلى تأمّل عميق في الذات. في مشهدٍ شديد الوعي والصلابة، تكتب الشاعرة:
"قد أُغادر كلَّ ما قد أحببتُه سابقًا... هذا ما أُسمّيه الحياةَ وسطَ الضجيج، قوّةَ النضجِ في أوصالي، إرادتي وقراري"
هنا، نحن أمام امرأة قرّرت أن تمارس فعل "الاستغناء" كتحرّر، وأن تصوغ معادلة وجودها لا على قواعد الحبّ التقليدية، بل على توازن جديد من الإدراك الذاتي والتقدير للنضج الداخلي. إنها لا تُناشد الآخر بل تعلن القطيعة معه بجرأة دون أن تفقد نبرتها الشعرية.
مناجاة العيد… كائنًا حيًّا
في القصيدة التي تُخاطب العيد ككائن حي، مفعم بالذاكرة والخذلان والرجاء، نجد جماليات مسرحية في البناء اللغوي، إذ تتحوّل المفردات إلى شخصيات لها أدوارها، ويتخذ العيد شكلًا دراميًا بين الهروب والرجاء:
"أيّها العيد، لا تحضر لنا غيومًا تنهَمِر علينا شلّالًا من نجومٍ تتدلّى كأكواز الصنوبر فوق رؤوس الفقراء، تحت أعناق الأغنياء!"
بهذا التصوير البصري الفذّ، تُعيد الشاعرة توزيع أدوار الفرح والوجع، وتُدين صمت العيد المتواطئ مع القهر الطبقي، وتُناشده أن يمنح الفقراء شيئًا من دفء الحياة.
لغة تنبض بالحياة والمفارقة
أحد أبرز ما يميز شعر حنان جبيلي عابد هو هذه العلاقة الشفافة بين اللغة والتجربة. كلماتها تخرج من الجرح مباشرةً، ولكنها تمرّ عبر فلترٍ شعريّ كثيف يجعلها تلامس القلب دون أن تسقط في الميلودراما.
في نص "دع قلبك يحاورني" تكتب:
"لإيقاعِ القلبِ حوارٌ من نوعٍ آخر، كصلاة الاستسقاء، تروي الظمأ، كثمرةٍ محرّمة، تُبلّلُ القلبَ بالمطر"
هذا المقطع يقدّم عيّنة نادرة من التزاوج بين التخييل الديني (صلاة الاستسقاء) والإيروتيكا الخجولة (الثمرة المحرّمة) والتعطش العاطفي، دون أن يُصاب النص بالابتذال أو التصنّع.
الحبّ كحضور ميتافيزيقي
القصيدة الختامية "تحت ستار الليل" هي مناجاة مفعمة بالشجن، تُلامس مفهوم الغياب الميتافيزيقي. فالحبيب هنا هو طيف، والليل هو مسرح للألم، والاقتراب لا يعني اللقاء بقدر ما يشير إلى احتضان الذكرى.
"تنامين في قلبي مثل طيفٍ مسافرٍ، في همساتِ الاشتياقِ يبقى صدى صوتكِ والنجومُ، وظلّ شمعةٍ يَخفُتُ مع نور عينيكِ"
هذا المستوى من التكثيف العاطفي والاشتغال على الصورة يجعل من النصّ لحظة تأمّل عميقة في ماهية الحبّ بعد الموت أو الغياب.
موت الأب… لحظة انكسار كوني
في ختام هذا النص الطويل، تفجّر الشاعرة قمة الحزن الوجودي، حين تعلن: "مات أبي قبل ولادة غصّتي". هنا ليس موت الأب حدثًا فحسب، بل لحظة ميلاد للغصّة، لبداية الشعور بالخذلان الوجودي.
تتبع ذلك بصور قاتمة ترسم كيف ماتت القيم الإنسانية تحت رقصة العالم الوحشية:
"فارقَ العمى المُعلن كلّ القيم الإنسانية، تحتَ مقصلةِ الرقصِ على أشلاءِ الوجع"
وهنا تتجلّى المهارة الشعرية الكبرى لدى الكاتبة: القدرة على تحويل مأساة شخصية إلى سؤال أخلاقي عالمي.
خاتمة: بين الهشاشة والصمود
في ديوانها المفتوح "خارج أجندة النسيان"، تقدّم حنان جبيلي عابد نصًا لا يُقرأ، بل يُعاش. هو نصّ مكتوب بدمع الأرواح، وبضحكة طفلٍ انطفأت قبل أن تكتمل.
قصائدها ليست فقط مرثيات، بل هي صلواتٌ وتمائمُ شعرية تَرفض النسيان كخيار، وتنتصر للذاكرة، للحنين، وللقلب الذي ما زال يقاوم.
في زمن تتكلّس فيه اللغة وتبهت فيه المشاعر، تمنحنا هذه القصائد فرصة لنعيد اكتشاف الدهشة، ونُصغي إلى الصمت بين السطور.
رانية مرجية
كاتبة وناشطة اجتماعية
2025