حين لا يرتفع أو يرتقي السرد فوق الواقع
في أزمنة يشتد فيها ضغط الحدث، ويعلو فيها ضجيج الحقيقة على كل خيال، نصطدم بنصوص سردية — قصصًا، روايات، أو مسرحيات — تعتقد أنها تحاكي الواقع، لكنها غالبًا لا تفعل سوى تسجيله وتدوينه، وإعادة تنظيم ما نعرفه مسبقًا. كأنّ السارد لا يبتكر، بل يترجم يوميات خاملة، أو يعلق بقلق على واقعة لم تنته بعد، غير قادر على تحويلها إلى تجربة معرفية أو جمالية.
هنا تكمن المفارقة: الواقع في لحظات معينة أكبر من أن يُحدّ، أقسى من أن يُروى، وأسرع من قدرة السرد على اللحاق به. تصبح القصة هامشًا، والرواية ظلًا باهتًا، والمسرحية مرآة تعكس نصف الصورة فقط، بينما الحقيقة تقف بالخارج ممتلئة، متوترة، لا تسمح للخيال أن يحوّلها إلى تجربة فنية.
الأعمال التي تكتفي بالتدوين لا بالتحويل، بالعرض لا بالاكتشاف، غالبًا ما تُترك على الرف، كأنها وثائق بلا نبض، تفتقد الشرارة التي تجعل الأدب يتجاوز دوره الوصفي إلى دوره التأويلي؛ أي يخلق معنى، لا يعيد تنسيق الألم.
ليس جديدًا أن يسبق الواقع مخيّلة الكاتب، لكن الظاهرة اليوم أكثر وضوحًا واتساعًا. فالتحوّلات السياسية والاجتماعية أصبحت حادّة وسريعة لدرجة أن الكاتب إذا حاول الإمساك بها مباشرة، تحوّل إلى ناسخ للخبر، لا مبتكر لرؤيته الخاصة من الحقيقة.
السرد حين ينافس الواقع يخسر، وحين يقلّده يصبح تابعًا. الواقع، بأي شكل كان، كتلة متحرّكة لا تُختصر، لذا فإن العمل الذي يسعى إلى محاكاته حرفيًا لا يمتلك إلا أن يتضاءل.
حين يتحول الأدب إلى مجرد شرح للوقائع، يفقد دوره الحقيقي، دوره الذي لا يطلبه القارئ إلا من التاريخ أو الصحافة أو اليوميات. الأدب يسعى دائمًا لاكتشاف الهيكل العميق للحدث، لا وصف سطحه، لإعادة إعادة تشكيل العالم، لا نسخه، ولتجاوز المأساة إلى فهمها، لا مجرد تدوينها.
عندما يكتب السارد نصًا واقعيًا دون أن يرتقي بالواقعة إلى مستوى الفن، تنشأ فجوة بين ما يحدث فعلًا وما يقوله النص؛ فجوة يشعر القارئ من خلالها بأن النص عاجز عن احتواء حجم الحقيقة.
الحقيقة ليست ما نراه، بل ما نؤول إليه، ومن هنا تنبع الحاجة إلى أن يرتقي السرد فوق المادة الخام للواقع، وأن يُعيد تشكيل الزمن والأحداث والشخصيات وفق رؤية تتجاوز حدود المادة.
النص الذي يكتفي بعرض الواقع يصبح نصًا استهلاكيًا، يفتقر إلى الرؤية، أشبه بصوت يقرأ على مسمع القارئ ما يعرفه أصلًا، دون أن يفتح له نافذة على ما لا يعرفه. الأدب، في جوهره، ليس تكرارًا لما يحدث، بل ابتكار معنى يتجاوز حدود الواقع.
النصوص الخالدة عبر الزمن، حتى تلك المنطلقة من واقع شديد القسوة، تعمل على تحويل الواقع إلى تجربة معرفية؛ فلا يكفي أن يتألم البطل، بل يجب أن يتحول الألم إلى سؤال. كما تخترع لغة تمسك بما لا يقوله الواقع، فاللغة الأدبية ليست زينة، بل أداة لاكتشاف مناطق خفية. فهي تفكك الواقع لتعيد بنائه، لتخلق واقعًا ثانويًا يوازي الأول، لا يكتفي بتسجيله.
النصوص التي تفشل في الارتقاء تفشل لأنها بقيت في دائرة التوثيق، والمُوثَّق بطبيعته يشيخ سريعًا، بينما الفن يتجدد لأنه يشتغل على جوهر الحدث لا على تجلياته العابرة.
بقاء العمل الأدبي على الرف ليس حكمًا قارئًا فحسب، بل حكمًا نصيًا أيضًا؛ فالعمل الذي لا يرتقي فوق العالم يظل أسير العالم، مجرد امتداد لوقائع مؤقتة، عاجز عن خلق أثر أو بناء ذاكرة.
غالبًا ما تبقى النصوص مؤرَّخة لا أدبية لأنها تنشغل بالفاجعة بدل فهمها؛ إذ يظن كثير من الكتّاب أن شدّة الألم كافية لخلق أدب عظيم، بينما الأدب لا يشتغل على الألم بل على تفسيره وإعادة تشكيله. أو لأنها تلاحق الواقعة بدل مطاردة فكرة الواقعة؛ فالأحداث تتغيّر بينما الفكرة تبقى، ما يجعل العمل الذي يلاحق الحدث متأخرًا عنه دائمًا. وأيضًا لأنها تفتقر إلى المسافة بين الكاتب والواقع؛ فالذي يكتب من داخل العاصفة لا يرى شكلها، بينما يحتاج الفن إلى ارتفاع وزاوية لا يمكن للسرد التسجيلي الوصول إليها.
ليست وظيفة الأدب أن ينافس الواقع، بل أن يفسّره، وأن يضيء ما يظل معتمًا في التجربة الإنسانية. وعندما يعجز السرد عن الارتفاع فوق المادة الخام للعالم، يتحول إلى جزء منه، مجرد رقم في الأرشيف، صوت بلا صدى.
الأعمال التي تدّعي الواقعية السردية دون أن تصنع رؤيتها الخاصة ستظلّ أعمالًا مهذّبة، منسقة بعناية لغويًا، وربما متقنة فنيًا، لكنها عاجزة عن فتح جرح أو أفق. لذلك تُترك على الرف، لأنها لم تقدّم ما يقدمه الأدب الحقيقي، وهو إعادة خلق العالم من جديد، لا مجرد إعادة تنظيمه.
