السبت ١٣ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٥
بقلم جواد عامر

حينما تكون اللكنة دالا على الهوية الشعرية

امتاز اللسان العربي بالاختلاف اللهجي بين القبائل سواء كان اختلافا معجميا تسيجه ثنائية الدال والمدلول، أو كان اختلافا أصواتيا أفرز تباينا نطقيا بسبب تعدد اللكنات، فتفردت القبائل العربية رغم الاشتراك في السنن النحوي باختلاف واضح في المسميات وهيئة النطق والتصويت، ما منح العربية غناها وثراءها المعجمي حتى تفردت دون غيرها من لغات الأمم بكتب معجمية أحادية الموضوع ككتاب المطر لأبي زيد الأنصاري وكتاب الشاء للأصمعي (123ـ 216 هـ) وغيرها مما جمع فيه أصحابها مسميات الشيء الواحد، كأسماء السيف وأسماء اللبن والسلاح والخيل..، وشكلت اللكنات المتباينة حتى داخل الانتماء القبلي الواحد المختلف جغرافيا دالا سيميائيا على الهوية القبلية مثلما شكلتها المفردات، فكان العربي العارف باللغة يدرك من مخاطبه انتماءه القبلي، فبين قبائل عرفت بالفصاحة كأعلى تميم وسفلى هوازن وبين قبائل قلت فصاحتها وبين أخرى تهمز وأخرى لا تهمز وقبائل يستوي عندها الرفع في التثنية في كل الحالات وأخرى تحرك نون الجمع ليكون علامة الإعراب لا الواو عندها للرفع ولا الياء للجر والنصب وما شابه هذا من الاختلافات التي طالت مناح عدة في أبنية الكلم وأنساق التركيب وطبيعة التصويت، كان أهل اللسن يستطيعون تمييز المتكلم والكشف عن هويته القبلية، ولعل المدونة الشعرية العربية تحفل كمدونة النثر بما يدل على هذا الانتماء خاصة مع يستلزمه الإلقاء الذي ينضاف كدال آخر على الهوية الفردية والقبلية، بما يتيحه من نبر وتنغيم وتلوين صوتي تتضافر جميعها لتتحول إلى وسائل معينة لكشف عن الهوية فكان الشعر العربي خزانا زاخرا لا بتاريخ العرب وأيامها وثقافتها وأفكارها وإنما كان بمثابة الجهاز الإعلامي الناطق بلسانها المميز لها، وهو ما فسر الاستدلال بشواهد الشعر في مسائل الخلاف النحوي، وتبرير إمكانات النطق المتعددة التي تؤكد سلامة اللسان العربي مادام أن قبيلة أو اثنتين تكلمت بذلك السنن أو المعجم أو نطقت ذلك النطق، ولعل لثغة الموصلية في قول القائل:

لقد فتنتني بلثغة موصلية
رمتني في تيار بحر هوى اللثغ
تقول وقد أقبلت واضح ثغرها
وكان الذي أهوى ونلت الذي أبغي
تغفق فشغب الخمغ من كغم غيقتي
يزيدك عند الشغب سكغا على سكغ

لدليل قاطع على قدرة الشعر على نقل الصورة الفونيطيقية للسان العربي كما أنتجته بيئته وشكله التداول، وتعد قصيدة"اليتيمة"لأحد الشعراء التهاميين (نسبة إلى قبيلة تهامة) واحدة من أبرز الدلائل على قدرة الشعر على كشف الهوية القبلية والفردية وقد ذكر الدكتور جبرائيل جبور أن ناظمها شاعر فاطمي وقد نظمها بأمر من ذوي السلطان إلهاء للعامة عن الفضيحة التي شاعت في قصره ويقال إن مناسبة القصيدة أن أميرة من أمراء نجد كانت شاعرة فذة وكانت غاية في الجمال فاشترطت أن يكون المتقدم للزواج بها شاعرا يفوقها براعة في الشعر ما دفع الشعراء للتنافس على بابها لنيل رضاها فلم تعجب بأي قصيدة لهم، وعلم رجل من تهامةـ و كان شاعرا ـ بالخبر فنظم فيها قصيدة، فتوجه نحو نجد يطلبها، فلما كان في طريقه لقيه رجل فسأله عن رحلته فأخبره بغرضه وأسر له بغايته، فما كان منه إلا أن قتله ليظفر بقصيدته التي كانت أعلى جودة من قصيدته وأرفع طبقة، فلما نزل على الأمير أبي دعد نبأه بقصده، فألقى قصيدته على مسمع دعد أمام جمع غفير من الناس وكان مطلعها:

هل بالطلول لســــــــــــــائل ردُّ
أم هل لها بتكلم عـــــــهدُ
درس الجديدُ جديدَ معْهدِها
فكأنَّما هــُو ريطَةٌ جُــــــرْدُ
من طولِ ما يبكي الغــــمامُ على
عرصاتِها ويقهقهُ الرَّعْـــدُ
فوقفْتُ أسْألُها ولـــــــــيْسَ لها
إلا المَهَى ونـــــــقانِقٌ رُبْدُ
فتناثرت دِرَرُ الشُّـــــؤونِ على
خدي كطما يتناثر العـِـــقْدُ
لهْفي على دَعْدٍ وما حَفَلَتْ به
إلا لِطُولِ تَلَــــــــهُّفي دَعْدُ

وبعد هذه الوقفة الطللية وإبداء اللهفة إلى دعد والتعبير عن الشوق والحنين إليها لدرجة البكاء يأخذ في التشبب بدعد ووصف مناحي جمالها فيقول:

بيضاءُ قد لبِسَ الأديمُ أديمَ
الحسن فهو لجِلْدِها جلْدُ
ويَزينُ فُودَيْها إذا حَسَرَتْ
ضافي الغَدائر فاحِمٌ جعْدُ
فالوجهُ مثل الصبح مُبْيَضٌّ
والشعر مثل الليل مسْوَدُّ
ضدان لما اسْتُجْمِعا حَسُنا
والضِّدُّ يُظْهِرُحُسْنَهُ الضِّدُّ
وجَبينُها صَلْطٌ وحاجِبُها
شَخْتُ المِخَطِّ أَزَجُّ مُمْتَدُّ
فكأنها وَسْنَى إذا نَظَرَتْ
أو مُدْنِفٌ لمّا يُفِقْ بَعْدُ
بفتور عَيْنٍ ما بها رمد
وبها تُداوى الأعين الرُّمْدُ
وتريك عِرْنِينا به شَمَمٌ
أقْنى وخدّا لـــــــونُه وَرْدُ
ولها بنانٌ لو أرَدْتَ له
عِقْدا بكفِّكَ أمْكَنَ العِقْدُ
ما شابَها طول ولا قصر
فقيامها وقعودها قصْدُ
قد قلت لما أن كَلِفْتُ بها
واعتادني من حبها الجَهْدُ
إن لم يكن وصْلٌ لديك لنا
يَشْفي الصَّبابةَ فَلْيَكُنْ وَعْدُ
إنْ تَتْهَمي فَتِهَامةُ وَطَنِي
أوْ تَنْجَدِي إنَّ الْهَوى نَجْدُ

فكان هذا البيت الأخي سببا في أمر الأميرة دعد بقتل الرجل لأنها أدركت أنه ليس من تهامة وإنما سرق القصيدة من التهامي فقالت صائحة: اقتلوا قاتل زوجي.

لقد استطاعت دعد أن تدرك من لكنة الرجل أنه ليس بصاحب القصيدة بعدما باح أنه من تهامة وهي العارفة بطريقة النطق والتصويت، فكان البيت الأخير الكشاف الذي فضح هوية الرجل القبلية، وحين نتقصى اللهجة التهامية سيمكننا أن نحدد الملفوظات التي كانت كاشفة لحقيقة الرجل، فكل كلمة فيها سين تفخم سينها صادا وكل همز يرخم والنون تقلب راء في بعض المواضع وقلب ألف التعريف إلى (أَمْ) كأن تنطق العقد هكذا (اَمْعِقْدُ)، ويميز لغة تهامة الكسر القريب من الإمالة بشكل مخفف وتقصير الحركات واختزال النبر كما في قول (كأنها) التي تنطق عندهم (كنها)، واللافت للنظر أن دعدا كانت تمعن في سماع القصيدة التي أخذتها معانيها وجودتها الشعرية العالية لكنها كانت تدرك تمام الإدراك أن ملقيها في حضرتها ليس بمالكها غير أنها آثرت التريث للاستمتاع بكامل النص لما أخذها من سحرالقول وبديع التصوير وإحكام الصنعة مما لم تجده في قصائد قبلها، فكانت تنتظر إلى حدود النهاية لتقيم حجتها على القائل فلا يذهب دمه هدرا، وهي تمعن إمعانا جيدا لكل ملفوظ وكل صوت لتقيم حجتها بما لا يدع في نفسها ذرة للشك في أن الرجل فعلا هو قاتل شاعرها وزوجها.

إن اللكنة العربية ليست مجرد سمات أصواتية و فونيطيقية تسم الملفوظات وتمنحها تميزها واختلافها الذي يشمل مستويات متعددة تنداح دائرته إلى ما هو ثقافي وطبقي ومجتمعي وعرقي، وإنما هي دال سيميائي على الهوية القبلية يستطيع الخطاب الشعري أن يحمله إلى الآخر ويحيله على انتمائه الدقيق، فقط يحتاج إلى سامع شديد الرهافة ومنفتح على الألسنة، ليستطيع أن يميز الخيوط الرفيعة التي تفرق بين اللهجات من حيث طرائق التصويت التي تشمل الترقيق والتفخيم والإمالة والنبر وغيرها من الأشكال الواسمة للنطق العربي، كما كان حال دعد الشاعرة والعارفة بالكلام العربي، إذ مكنتها موسوعيتها الشعرية وملكتها الإبداعية من كشف حقيقة المتكلم لتنزل به العقاب الذي استحقه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى