

إِنّا عَلى العَهْدِ بَاقُون
المشهد الأوّل: ابنة الأرض، في مواجهة الزّمن
كان الفجر ينسلّ خيطًا من الضّوء فوق جبال الجنوب، يُلامس الصّخور الّتي حفظت آثار المقاومين، يمرّ على الوديان الّتي ارتوت بدمائهم، ويُقبّل الأرض الّتي لم تنحنِ يومًا.
في ذلك الصّباح، كانت زينب واقفة أمام منزلها المهدّم، تحمِلُ بين يديْها صورة والدها، الّذي ارتقى شهيدًا في هذه الحرب الأخيرة، حرب الدّفاع عن الأرض، عن المظلومين، عن غزّة الّتي تنزف، وعن الجنوب الّذي لم يعرف الذّل يومًا. تنظر إلى ملامحه الّتي حفظتها عن ظهر قلب، إلى عينيْه اللّتيْن كانتا تُضيئان عتمة الأيّام، إلى ابتسامته الّتي لم تفارق وجهه حتّى في أقسى اللّحظات. شدّت الصّورة إلى صدرها كأنّها تُحاول أن تضمّه للمرّة الأخيرة. مرّرت أصابعها على زُجاج الإطار بحنان، كما لو أنّها تُلامس وجهه الحقيقيّ ثمّ همست بصوتٍ مرتعش:
"أبي... لم يكن دربك إلّا درب الحقّ ضدّ الباطل، درب الإنسانيّة ضدّ الظّلم، درب الّذين باعوا الدّنيا واشتروا وعد الله. كنت تقول لي إنّ الأرض ليست حجارة، بل أمانة، وإنّ الصّمت أمام الظّلم خيانة، وإنّنا حين نحمل السّلاح، لا نحمله للقتل بل للحياة، للحفاظ على ما تبقّى من كرامة في عالم يحترف البيع."
رفعت رأسها نحو السّماء، تلك الّتي احمرّت ذات مساء يوم رحيله، كأنّها بكت الشّمس وهي تودّعه، تابعت بصوت مختلط باليقين:
"أبي، أنتَ لم تغب، أنتَ ارتفعت وارتقيت... أتعلم أنّك حين غادرت، لم تغب؟ أنّ صوتك يملأ المكان، أنّ خطواتك ما تزال تقودني؟"
مدّت يدها، كأنّها تُلامس ظلّه السّاكن في ذاكرتها، ثمّ أغمضت عينيْها للحظة قبل أن تهمس:
"أبي... كنت تقول إنّ الأرض تحفظ أسماء أهلها... وها هو اسمك محفورٌ هنا، في التّراب، في الجدران، في وجوه العابرين. هنيئًا لك هذه الشّهادة في سبيل الله، هنيئًا لك هذا الغياب الّذي صار وطنًا، وهذا الرّحيل الّذي صار عودةً فينا."
زينب... لأنّها ولدت من وهج كربلاء.
لم يكن اسمها مجرّد صدفة، بل كان وعدًا. حين سمّاها والدها زينب، لم يكن يُناديها فقط، بل كان يرسم لها دربًا في الحياة. أراد لها أن تكون شعلةً في العتمة، أن تكون صدى لصوتٍ لم ينكسر يومًا، أن تكون امتدادًا للدّمعة الّتي لم تذلّ، وللكلمة الّتي لم تُهزم.
زينب... لم تخلق لتعيش في الظّلّ. كانت تعرف أنّ النّساء في بيئة المقاومة لا يُربين على الهامش، ولا يُلقّنّ الحزن والانتظار فقط، بل يُربين على الصّمود، على العزّة، على أن تكون الواحدة منهنّ في موقعها مقاوِمة كما الرّجل. لا تحمل البندقيّة، لكن تحمل ما هو أخطر: الكلمة، الوعي، الإرادة الّتي لا تنحني.
لم تكن زينب ابنة شهيد فقط، بل كانت الشّهادة تمشي فيها، تسري في دمها، في كلماتها، في وقفتها. لم تكن تحتاج أن تسأَل لماذا رحل والدها، فقد عرفت الجواب قبل أن يولد السّؤال. كانت تعرف أنّ الأرض لا تُورّث إلّا بالدّم، وأنّ الأوطان لا يحميها إلّا الّذين يبذلون أرواحهم دون خوف أوتردّد.
وحين وقفت في وجه العدوّ الصّهيونيّ، لم تكن تحمِل سلاحًا، لكنّها كانت تحمل ما هو أشدّ فتكًا به: حقيقتها. كانت ابنة الحُسيْن في هذا الزّمن، ابنة الّذين صدحوا بالحقّ في زمن الكذب، الّذين لم يطلبوا الحياة الدّنيا، بل طلبوا حياةً لا تنتهي في رحاب الحقّ، فكانت الشّهادة طريقهم إلى البقاء.
كبرت زينب في بيتٍ يعرف معنى المقاومة، لم يكن والدها رجلًا عاديًّا، كان مجاهدًا نذر حياته لحماية الأرض، حمل السّلاح منذ شبابه، وخاض المعارك في الظّل والعلن، كان اسمه يُهمس به في الاجتماعات السّرّيّة، ووجهه لا يظهر في الصّور، لأنّه كان واحدًا من أولئك الّذين يحملون أرواحهم على أكفّهم ولا ينتظرون شيئًا في المقابل.
كان والدها عبّاس حفيد الشّهداء الّذين دافعوا عن الأرض، وصوتًا لا يصمت في وجه الرّيح. كان يعرف كلّ شبرٍ من أرضه، كما يعرف وجه أمّه الّتي ودّعها قبل سنواتٍ حين ارتقت شهيدةً تحت القصف.
المشهد الثّاني: طفلة في درب الجهاد
في صغرها، كانت تخطو بحذر بين جذوع الزّيتون، تُلاحق ظلّ والدها في الحقول، تستمع إلى صوته العميق ينساب كأنّه جزء من الأرض ذاتها، كأنّ الرّيح تحفظ كلماته وتُعيدها مع كلّ موسم حصاد:
"الأرض يا ابنتي ليست مجرّد تراب، إنّها ذاكرة، هويّة، روح. إذا اقتُلِعنا منها، متنا ونحن على قيد الحياة."
علّقت زينب أنفاسها بين كلماته، وعيناها تتّسعان دهشة، لكنّها لم تكن تُدرك حينها أنّ التّراب ليس مجرّد تُراب، وأنّ المطر ليس مجرّد ماء يهطل على الأرض، بل هو يحمل رائحة الدّم الّذي سال هنا منذ زمن بعيد، دم الأجداد الّذين رووا هذه الحقول بكرامتهم. كانت يدها الصّغيرة تمتدّ لتُلامس التّربة، وكأنّها تكتشف سرّها للمرّة الأولى، فتشعر برجفةٍ خفيّةٍ تسري في كفّها.
"هذا التّراب، يا أبي، ليس عاديًّا..."
ابتسم والدها وأكمل عنها، كأنّه يقرأ ما يدور في ذهنها:
"إنّه ممزوج بالعزّة والكرامة. فلو سُلِبَ منّا، متنا... ونحن على قيد الحياة."
لم تفهم زينب كلّ ما قاله والدها، لكنّها شعرت به، كما يشعر الطّفل بدفء الشّمس دون أن يُدرك معناها. كانت كلماته تتسلّل إلى أعماقها، تتشابك مع أنفاسها، تتّخذ لها مكانًا في وجدانها، تنتظر اللّحظة الّتي ستزهر فيها معنىً ودربًا وقرارًا لا رجوع عنه.
كانت زينب تحفظ كلمات والدها عن الأرض، عن العزّة والكرامة، لكنّها لم تكن تُدرك تمامًا كيف يكون الموت على قيد الحياة، كيف يُمكن للتّراب أن يكون أكثر من مجرّد حفنةٍ من الطّين؟! كانت الكلمات تعيش في صدرها، لكنّها لم تلبسها روحها بعد... حتّى جاء ذلك اليوم.
لم يطل الوقت حتّى أدركت أنّ الكلمات ليست مجرّد أصواتٍ تُقال بل دروب تُعاش حتّى النّهاية. كانت في العاشرة من عمرها حين وقفت أمام والدها وسط دخان القصف وأصوات الطّائرات في حرب تمّوز العام 2006م. نظرت في عينيْه، ثمّ سألته بصوتٍ طفوليّ لكنّه ممتلئ بدهشة الوعي الجديد:
"أبي، لماذا تُقاتل؟ ألست تخاف الموت؟"
نظر إليها والدها حينها كما لو كان يراها لأوّل مرّة، كأنّ شيئًا ما في روحها قد استيقظ، كأنّ جذور تلك الكلمات الّتي قالها لها منذ زمن قد بدأت تخترق الأرض لتشقّ طريقها نحو السّماء... ابتسم، ومسح على رأسها وقال:
"لأنّنا أصحاب الأرض يا ابنتي، ومن كان صاحب الأرض لا يخاف، بل يخاف من أن تضيع منه. الموتُ ليس ما يُخيف يا ابنتي، بل العيش دون كرامة. نحنُ لا نُقاتل لأنّنا نحب الحرب، بل لأنّنا نحبّ الحياة، ونُريدها لنا، لأطفالنا، وللّذين سيأتون بعدنا دون أن يكونوا عبيدًا تحت سماءٍ مستعارة."
لم تفهم زينب كلماته تمامًا حينها، لكنّها شعرت بشيء ثقيل يستقرّ في صدرها، كأنّ صوته ترك أثرًا لم تستطع تفسيره بعد. كانت الرّيح تعبث بحجابها وثيابها الطّويلة الفضفاضة، والدّخان يملأ السّماء، لكنّها لم تستطع أن تُبعِدَ عينيْها عن والدها، عن ملامحه الّتي بدت وكأنّها نقشٌ في صخر الصّمود.
كان في صوته يقينٌ لم تعهده في أصوات الكبار، كأنّه لا يتحدّث عن شيء يُمكن أن يتغيّر أو يُمحى، بل عن حقيقة أزليّة كالشّمس. الموت ليس ما يُخيف، بل العيش دون كرامة. كلماته بقِيَتْ تتردّد في ذهنها، لكنّها لم تكن تعرف أين تضعها، لم تكن تعرف أنّ هذه الكلمات ستظلّ تكبر بداخلها، تتشكّل مع كلّ يوم، مع كلّ شهيد يُزفّ إلى التّراب، مع كلّ بيت يدمّر، ومع كلّ صوت يهتف أنّ الأرض لا تموت إن حملها أبناؤها في قلوبهم. لم تكن تعرف بعد أنّ هذه الكلمات ستصبح مع الزّمن خريطتها لفهم الحياة.
كبرت زينب، كبرت كما تكبر شجرة في أرضٍ سقتها دماء الشّهداء، كما تكبر فكرة في عقلٍ لم يتوقّف عن البحث عن المعنى. لم تعد تلك الطّفلة الّتي تسير خلف والدها في الحقول، صارت تسير في طريقها الخاصّ، محمّلةً بصوتٍ آخر، بجهادٍ آخر بالكلمة الّتي تُعيد رسم الحكايات وتحفظ الذّاكرة.
إلى أن أتت حرب الإسناد لغزّة العام 2024م...
كانت هذه الحرب استكمالًا لحلقةٍ طويلة من الجرائم الّتي لا تنتهي. حين سقطت أولى الصّواريخ على غزّة، امتدّ الصّدى كأطياف وجعٍ ثقيلٍ. كان القصف زلزالًا في القلوب، رجعَ صدى للذّاكرة الّتي لا تنام، للوجوه الّتي لا تُنسى، وللجرح المفتوح منذ عقود.
لم يكن الجنوب اللّبنانيّ متفرّجًا وبعيدًا عن الجرح، بل فتح جبهته ليُخفّف من وطأة العدوان، ليؤكّد أنّ المظلومين ليسوا وحدهم، وأنّ الدّم حين يُسفك هناك، فصداه يهدر هنا. كان الموقف واضحًا منذ اللّحظة الأولى، وكان الأمر خيارًا يحمله من نشأوا على هذه الأرض، على هذه العقيدة، على هذا العهد.
وكما في كلّ مرّة، لم يكن العدوّ الصّهيونيّ ليسمح بامتداد الرّوح، لم يكن ليقبل بأن تنبض هذه الأرض بالحياة رغم كلّ محاولاته لإخمادها. فبعد أشهرٍ من حرب الإسناد، حين ظنّ أنّ بإمكانه إخماد الصّوت مرّةً واحدةً، فتح نيرانه على الجنوب والضّاحية الجنوبيّة لبيروت، عقابًا وانتقامًا من أرضٍ رفضت أن تنحني، من وجوهٍ تعرف العزّة كما تعرف أسماء شهدائها، عاد ليستكمل ما بدأه منذ سنوات، عاد ليختبر من جديد صلابة الأرض وأهلها.
لكنّ الجنوب لم يكن ينتظر اختبارًا، كان ينتظر الفرصة... فرصة ليُعيد كتابة المعادلة، ليُؤكّد مرّةً أخرى أنّ هذه الأرض ليست للمحتلّ، بل لمن ارتوت بدمه، لمن حرسها بعينيه حتّى اللّحظة الأخيرة، لمن آمن أنّ الكرامة ليست شعارًا، بل طريق يُسلك حتّى النّهاية.
المشهد الثّالث: الوداع الّذي لم يكن وداعًا
قبل أيّام من استشهاد والد زينب، كان العدوّ الصّهيونيّ قد نفّذ جريمته، تفجيرات البيجر، تلك الصّدمات المدوّية الّتي لم يكن فيها وقتٌ لاحتضانٍ أخير، ولا حتّى لالتقاط اللّحظة الأخيرة من الحياة.
في تلك اللّحظة، لمعت شاشة البيجر برسالةٍ واردة، اقتربت منه الأعين، وامتدّت تحمله الكفوف، لكنّ الرّسالة لم تكن كلمات، كانت نارًا مزروعة في الضّوء، فخًّا متقنًا، كمينًا باردًا يختبئ خلف شاشته الصّغيرة، ثمّ انفجر... في لحظةٍ واحدة، تحوّل الضّوء إلى نار، وتحوّلت الرّسالة إلى شظايا تناثرت في العيون والأكفّ. في دقيقةٍ واحدة قام العدوّ الصّهيونيّ بتفجير هذه الأجهزة متعمّدًا قتل أربعة آلاف إنسان في مجزرةٍ شيطانيّة لم يتخلّلها حتّى صوت إنذار.
لم تتوقّف جرائم العدوّ عند هذا الحدّ، ففي اللّيلة الّتي سبقت استشهاد عبّاس والد زينب، كان الجنوب يشتعل تحت قصفٍ لم يهدأ وعدوانٍ واسعٍ، كانت الصّواريخ تُمزّق اللّيل، والسّماء تُمطر نارًا. في تلك اللّيلة، حين أُعلن النّفير، جلس عبّاس وعائلته بعد غيابٍ دام أيّامًا، يستمعون إلى خطاب السّيد حسن نصرالله على الشّاشة، وصوته يملأ المكان بثباته المُعتاد:
– فليأخذ هذا العدوّ علمًا، نحن لا نخاف الحرب، ولا نخشاها... وسننتصر بها إن شاء الله.
نظر عبّاس إلى زوجته فاطمة، كانت تحتضن ابنهما الصّغير حسن الّذي نام في حضنها. قال لها بهدوء:
– إنّها معركة طويلة، لكنّنا لسنا وحدنا... الله معنا، ولدينا الأرض الّتي لا تخون أصحابها، يمكن أن أغيب طويلًا هذه المرّة.
كانت زينب تنصت جيّدًا، وهي الّتي قد اعتادت غياب والدها، لكنّها كانت تشعر أنّ هذه اللّيلة مختلفة. جلس أمامها، نظر إليها طويلًا، ثمّ قال بصوتٍ هادئ:
"ستكونين قويّة، أليس كذلك؟"
فتحت عينيها ببطء، نظرت إليه، كأنّها شعرت أنّ شيئًا ما سيأخذ والدها منها. مدّت يدها، أمسكت بيده بقوّة، أومأت برأسها، لكنّ قلبها كان يصرخ: "لا تذهب يا أبي!"
لم تقلها، لكنّها عرفَت أنّ والدها فهمها.
اقترب منها، مسح على رأسها، قبّل جبينها، ضمّها إلى صدره، كأنّه يطمئنها أنّ قلبه لا يزال هنا، لكنّه كان يعلم أنّ هذا القلب قد صار في الميدان. ثمّ قال بصوتٍ يشبه الهمس:
"إنّ الحياة يا ابنتي ليست بعدد السّنوات، بل بما نتركه من أثر، بما نحميه من أرض، بما نصنعه من كرامة. الحرّيّة تحتاج إلى من يُدافع عنها، والنّصر لا يأتي بلا تضحية. تذكّري يا ابنتي، الأرض لا تأخذ أبناءها، الأرض تحتضنهم."
في تلك اللّيلة ودّع عبّاس عائلته، ثمّ حمل حقيبته، وأوصى زوجته وهو يخرج:
"إذا حصل لي شيء، أخبري زينب أنّني ذهبت كما كنت أريد، واقفًا، لا راكعًا. وأخبريها أنّها ستظلّ تكبر في أرضٍ لا تنحني، وفي بيتٍ لم يُغلق بابه في وجه مقاوم."
حين خرج إلى الميدان، كان يعرف الطّريق جيّدًا، كما تعرفه الأقدام الّتي سبقته، ويعرف كيف يتسلّل النّور حتّى في العتمة. لم يكن هذا الدّرب جديدًا عليه، لكنّه هذه المرّة كان يسير دون عودة، كما سار والده من قبله، وكما سيسير ابنه من بعده... يسيرون نحو وعدٍ لا يخلفه الله، نحو مقامٍ تفتح له أبواب السّماء.
حين التقى عبّاس برفاقه، كانت الوجوه مألوفة، لكنّها تحمل ملامح لم يعتدها في الأيّام العاديّة. في العيون بريقٌ يحمل حدّة العزيمة، وكأنّها تشّع من صميم الرّوح بنورٍ صادقٍ يُواجه بثبات، ويحمل في طيّاته حكاية الأرض والكرامة. كان في نظراتهم شيء من الطّهارة والصّدق، شيء أقوى من الكلمات. كانوا يعرفون أنّ هذا اللّقاء قد يكون الأخير، لكنّهم كانوا مطمئنّين، لأنّهم يُقاومون لأجل شيء أكبر من حياتهم، لأجل أمّة ستظلّ تنبض بالحياة مهما حاولوا إخمادها.
– "عبّاس، أنتَ جاهز؟"
سؤال ألقاه أحدهم، فردّ بلا تردّد، بصوتٍ يُشبه الجذور العميقة في الأرض:
– "أنا ابن هذه الأرض، هل يُمكن لأحدٍ أن يكون غير جاهزٍ للدّفاع عن دمه؟"
اللّيل كان أسودًا، لكنّه لم يكن حالكًا، فالسّماء تمطر نارًا، والهواء يشتعل بالصّراخ. حين حاصرهم العدوّ، كانت لحظة القرار، رفع عبّاس سلاحه، صرخ بأعلى صوته:
– يا أبطال الجنوب، إن استشهدنا اليوم، فذلك لأنّنا فتحنا الطّريق للنّصر!"
وانطلقت الصّرخات تشقّ العتمة، كانت وعدًا مزروعًا في الأرض، عهدًا لا ينكسر. بنداء "يا صاحب الزّمان"، "يا فاطمة الزّهراء"، "يا أبا عبدالله"... كانت الصّرخات ترتفع مع الطّلقات، تختلط بصوت الرّيح، كأنّها توقظ الكون كلّه على حقيقةٍ واحدة: نحن هنا، نحمل الأرض في قلوبنا، ونمضي حيث يأخذنا الحقّ. اهتزّت الأرض تحت أقدامهم، كما لو أنّها تُقاتلُ معهم، كما لو أنّها تُقسم أنّها لن تُسلّمهم للعدوّ وحدهم. كانوا يسيرون بثباتٍ ويقينٍ، كأنّ خطواتهم مرسومة في القدر منذ الأزل، وكأنّ أرواحهم قد عانقت النّصر قبل أن تُعانق الشّهادة.
في الصّباح، كان اسم عبّاس يتردّد على ألسنة النّاس، كان صرخةً حيّةً تملأ الشّاشات والطّرقات. كان اسمه يُضيء في الهواتف، يُكتب في منشوراتٍ تفيض بالحبّ والفخر، تُزيّنه الصّور الّتي التقطت قبل رحيله، وكان يتردّد في تسجيلات صوته الّتي ما زالت تحفظها الأجهزة كأنّها تستبقي نبضه. كان عبّاس قصّةً تُروى، ودمًا صار خريطةً على الأرض، ورسالةً عابرة للحدود، تُخيف العدوّ وتمنح الأمل لمن بقي.
بكت زينب، بكت كريمته، كما تبكي القلوب حين يفيض الحنين، لكنّها سمعت صوت والدها في أعماقها يُردّد ما علّمها إيّاه دائمًا: الدّموع لا تُغيّر الأقدار، والشّهداء لا يموتون، بل يتحوّلون إلى ملامح محفورة في ذاكرة الأوطان، إلى وجوهٍ تُرفع على الجدران، إلى كلماتٍ تُقالُ للأجيال القادمة، وإلى صدى يبقى في الأرض الّتي ارتوت بدمائهم. كانت دموعها تمسح شيئًا من الحزن، لكنّها لم تُطفئ في داخلها ما أورثها إيّاه، بل زادتها يقينًا بأنّ الطّريق مستمرّ، وبأنّها لن تخذل وصيّته، تمامًا كما أراد لها أن تكون.
المشهد الرّابع: الشّهادة الّتي أصبحت طريقًا
قبل غروب الشّمس بقليل، كان النّهار يلملم آخر خيوطه، والسّماء تتوهّج بحمرة كأنّها تستعدّ لاحتضان حدثٍ جلل. الهواء كان مشحونًا بشيء غريب، إحساس لا يُرى، لكنّه يُشعر به في العظم، في القلب، في تلك اللّحظات الّتي يسبق فيها الانفجار الصّمت.
زينب كانت في منزلها القريب من الضّاحية، تُراقب السّماء من النّافذة. لم تكن تعلم لماذا، لكنّ شعورًا خفيًّا تسلّل إلى صدرها، كأنّ شيئًا كبيرًا على وشك الحدوث، شيء يُغيّر مجرى الأيّام القادمة إلى الأبد.
ثمّ حدث.
لم تكن الضّاحية الجنوبيّة لبيروت وحدها هي الّتي اهتزّت، بل كأنّ الأرض كلّها ارتجفت تحت وطأة الفاجعة. في الضّاحية، حيث تنفّس قائد الأمّة حروف العهد للمرّة الأخيرة، انشقّت السّماء على زئير النّار. ثمانون ألف طنّ من المتفجّرات أسقطت دفعةً واحدةً، وكأنّ العدوّ الصّهيونيّ لم يكن يقتل جسدًا، بل كان يُحاول اغتيال روح شعب، كسر إرادة أمّة، إسكات صوتٍ صار نشيدًا للمقاومين في كلّ أرض.
كان الانفجار يُشبه القيامة، لم يكن مجرّد صوت، بل كان زلزلةً تردّدت في القلوب قبل أن تصل إلى الآذان. أضاءت النّار السّماء كأنّها شمس تحترق، وتبعها صدى بُكاء الأرض. لم يكن المشهد موتًا، بل كأنّ قطعة منّا، من وجداننا، من حكايتنا، قد اقتُلعت بالقوّة.
لم تستوعب زينب ما يحدث حين اهتزّ كلّ شيء، وتأرجحت الأرض تحت قدميها، كأنّ الزّمن نفسه تعثّر للحظة وارتبك أمام هذا الصّوت. فتحت هاتفها بيد مرتجفة، دخلت إلى المجموعات الإخباريّة. الأخبار تتوالى بسرعة، كلمات قصيرة لكنّها تهش الرّوح:
– "انفجار ضخم يهزّ الضّاحية!"
– "استهداف مباشر... شيء غير مسبوق!"
– "كأنّ الأرض انفجرت!"
– أشبه بزلزال ضرب الضّاحية!"
ثمّ لحظات من الصّمت... تلاها خبر كُتب كأنّه طعنة في القلب.
– "استشهاد سماحة السّيّد حسن نصرالله..."
– "اغتيال الأمين العام لحزب الله سماحة السّيّد حسن نصرالله..."
زينب شهقت، قلبها تجمّد، عيناها التصقتا بالشّاشة، أعادت قراءة الجملة مرّة، مرّتيْن، عشرًا... ربّما خطأ؟ ربّما إشاعة؟ لكنّها لم تكن إشاعة. الخبر بدأ ينتشر في كلّ مكان، الرّسائل تتفجّر كالنّار في الهشيم.
خرجت إلى الشّارع، وجدت النّاس هناك، وجوههم محطّمة بالصّدمة، عيونهم تنظر إلى حيث الدّخان يتصاعد، بعضهم لم يستطع الوقوف، بعضهم بكى بحرقة، وآخرون وقفوا كأنّهم يحملون الجبل على أكتافهم.
لم يكن بكاؤهم عاديًّا، لم يكن رثاءً لشخصٍ رحل... كان بكاء الأبناء الّذين فقدوا أباهم. كان نحيب الأرض الّتي احتضنت خطاه، كان وجع البيوت الّتي احتمتْ بصوته، كان دموع الأمّهات اللّواتي عرفْنَ أنّ أطفالهنّ قد ورثوا طريقًا من نورٍ ونارٍ.
بكتْ زينب كما بكى كلّ الجنوب، كما بكى كلّ إنسانٍ حرّ، كما بكت كلّ أرضٍ ارتقى فيها شهيدٌ دفاعًا عن المظلومين. لكنّها رأت في العيون شيئًا آخر...
لم يكن الحزن وحده.
كان الإيمان.
كان العهد.
"لم يمت."
قالها رجلٌ مسنٌّ بجانبها، مسح دموعه، نظر إليها، وقال بصوت مختنق لكنّه قويّ:
"السّيد لم يمت... هو فينا، في كلّ مقاوم، في كلّ حجر، في كلّ صرخة حقّ. صار رايةً لا تُنكّس، وصوتًا لا يُسكت، وعهدًا لا يسقط."
شعرت زينب بشيء يتوقّد في صدرها. نظرت إلى صورته على شاشة هاتفها، بجلبابه الأسود، بابتسامته الهادئة، بعينيْه اللّتيْن تحملان يقين النّصر حتّى في لحظة الفقد. حينها فقط، أدركت أنّ الحزن، مهما كان قاسيًا، لا يعني الهزيمة. وأنّ الّذين يرحلون في سبيل الله، لا يموتون... بل يصبحون نبضًا في الأرض، صرخةً في الهواء، رايةً تُرفرف في كلّ يد.
رفعت رأسها، نظرت إلى السّماء الّتي كانت لا تزال مشتعلة بضوء الانفجار، إلى الدّخان الأسود الّذي يتصاعد عاليًا، متشابكًا مع الغبار، مع الصّرخات، مع العهد الّذي لم يُكسر، ثمّ أدركت...
لم يكن هذا نهاية.
بل بداية أخرى للعهد.
ومنذ تلك اللّحظة، لم يعد الشّهيد الأسمى السّيّد حسن نصرالله فردًا، صار شعبًا، صار أمّةً، صار خالدًا في الوجدان، لا يموت.
المشهد الخامس: حين تكون الشّهادة انتصارًا
حين انتهت الحرب، كانت زينب تعرف أنّ النّصر لم يكن فقط في بقاء الجنوب، بل في أنّ العدوّ لم يستطع أن يقتل عزيمة الأرض ولا روح أهلها. عادت إلى قريتها، الّتي تحوّلت إلى أنقاض، لم تكن هناك شرفاتٌ تُطلّ منها الجدّات، ولا أسطح تُلامسها أيدٍ تستنشق هواء الحقول. لكن رغم هذا الدّمار، لم يكن الصّمت هو سيّد المكان. كان هناك صوتٌ أقوى من كلّ شيء... صوت الحياة الّتي تأبى أن تموت وترفض أن تُنسى، كأنّها تصدح بالصّمود في وجه الزّمن.
كانت زينب تعلم، بكلّ كيانها، أنّ النّصر لا يُقاس بحجم ما خلّفته الحرب من خراب، بل بما لا يُمكن للعدوّ أن يهزمه، ما لا يُمكن أن يُقتل: عزيمة الأرض وكبرياء أهلها. وصلت إلى بيتها الّذي لم يبقَ منه سوى جدرانٍ سوداء، وشجرة زيتونٍ واحدة، لم تحترق. وعندما وقفت فوق أنقاضه كانت تقف على صرحٍ من تاريخٍ طويلٍ، تاريخ لا يُهزم. في تلك اللّحظة، فهمت أنّ النّصر يكمن في الحفاظ على الكرامة، وفي أن تظلّ الأرض مكانًا للحياة، رغم قسوة العدوان. كانت تقف على أرضٍ عاشت عليها أجيال، وقاموا على تربتها بالدّم والنّضال. وكان كلّ جزء منها، كلّ حجر، وكلّ أثرٍ من آثار الحرب، يقول لها: هنا يُكتب التّاريخ، هنا يُكتب الصّمود.
مشت حوله، تتذكّر كلّ شيء: الضّحكات الّتي كانت تملأ المكان، الأحاديث حول طاولة العشاء، ووالدها وهو يجلس تحت الشّجرة، يروي لها حكايات البطولة.
...
جلست عند قبره، وضعت يدها على الحجر، وقالت بصوتٍ متهدّج:
"أبي، لقد انتصرنا... لكنّه لم يكن انتصارًا عاديًّا، لقد دفعنا ثمنه غاليًا. استشهد عزيزنا وحبيب قلوبنا، السّيد حسن نصرالله، لكنّنا لم ننكسر يا أبي، ولم نُهزم. نحن من نخطّ التّاريخ بدمائنا، نحن من نعيد بناء الحلم من بين الرّكام."
ثمّ تابعت بصوتٍ ثابتٍ رغم بريق الحزن الّذي وُلد في عينيها:
"ظنّوا أنّهم باستشهاده سيقضون على المقاومة، لكنّهم لم يفهموا أنّه لم يكن مجرّد شخص، بل كان فكرة، والأفكار لا تموت. فلطالما علّمنا سيّدنا معنى النّصر في كلّ لحظة، أنّ النّصر لا يأتي فقط في الحياة، بل حتّى في الشّهادة."
ثمّ همست، وكأنّها تتذكّر حديثه، حديث شهيدنا الأسمى الّذي كان يملأه بالقوّة والإيمان:
"نحن لا نُهزم، عندما ننتصر ننتصر، وعندما نُستشهد ننتصر. نحن على مشارف انتصار كبير، لا يجوز أن ننهزم نتيجة سقوط قائدٍ عظيمٍ من قادتنا، بل يجب أن نحمل دمه، ويجب أن نحمل رايته، ويجب أن نحمل أهدافه، ونمضي إلى الأمام بعزمٍ راسخ، وإرادةٍ وإيمان، وعشقٍ للقاء الله."
بقيت زينب هناك، كغصنٍ يُعانق الرّيح دون أن ينكسر، كحجرٍ في جدارٍ صامدٍ مهما اشتدّ القصف. كانت دموعها تسيل بصمت، لكنّها لم تكن دموع انكسار، كانت كالمطر حين يُعيد للحقل خضرته، كالنّور حين يُبدّد عتمة اللّيل. لم يكن الحزن هو ما يملأ عينيها، بل ذلك المزيج العجيب من الشّوق والفخر، من الألم والعزّة.
حينها، عادت بها الذّكريات إلى ذلك اليوم البعيد، حين سألت والدها بصوتٍ ممتلئ بالدّهشة والبراءة:
"أبي، لماذا يُحاربوننا؟"
نظر إليها بعينيْن تحملان كلّ اليقين، ومسح على رأسها بحنانٍ يُشبه حنان الأرض على من يرويها بدمه، ثمّ قال بصوتٍ ثابتٍ:
"لأنّنا نملك ما لا يملكون... نملك الأرض الّتي تأبى أن تكون إلّا لأصحابها، نملك الكرامة الّتي لا تُشترى، نملك الحُرّيّة الّتي لا تُوهب، والإيمان الّذي لا يضعف. العدوّ لا يخاف سلاحنا، بل يخاف أن نُؤمن بعدالة قضيّتنا، أن نحملها في قلوبنا كما نحمل أسماء من رحلوا، أن ننهض كلّ مرّةٍ من الرّماد كما تنهض الشّمس من خلف الجبال."
تلك الكلمات لم تُفارقها يومًا، لكنّها في تلك اللّحظة أصبحت يقينًا يسري في عروقها. مسحت دموعها، كما لو أنّها تمسح بقايا الحزن لا القوّة، مرّرت يدها على شاهد القبر، شعرت بحرارته، كأنّه ينبض تحت أصابعها، كأنّه لم يكن مجرّد حجر، بل امتداد لحياة لم تنتهِ بعد.
في تلك اللّحظة، فهمت أنّه لم يمت كما يموت الآخرون، بل ذاب في هذه الأرض، صار جزءًا منها، صار زيتونةً في السّهل، صار رائحة التّراب بعد المطر، صار صدى في أصوات الرّصاص، صار دربًا يسير عليه القادمون من بعده.
أغمضت عينيْها وتذكّرت صوته، كلماته، ابتسامته الّتي لم تكن تفارق وجهه، وتلك اللّحظات الّتي كان يضعها في حضنه قبل أن يخرج إلى جهاده الأخير.
ثمّ، هبّت نسمةٌ دافئةٌ من جهة الجنوب، كأنّها تحمل معها صوته، يهمس لها:
"كوني كما أردتكِ أن تكوني... ابنةَ الأرض، ابنةَ الصّمود، وابنةَ الشّهداء."
أغمضت عينيْها للحظةٍ، وكأنّها تُجدّد العهد مع والدها، ومع كلّ شهيدٍ ارتقى دفاعًا عن الأرض، مع كلّ قطرة دمٍ سالت لتروي جذور الحرّيّة، مع كلّ تضحيةٍ نُسجت في ذاكرة الزّمن، مع كلّ نبضٍ بقي رغم أنفاس الرّاحلين.
رفعت رأسها، نظرت إلى الأفق، رأت الحمام يطير، رأت جنوبًا لا يُهزم، رأت شمسًا تُشرق ليومٍ جديد، يومٌ بلا قيْد، بلا خوف، يومٌ للأحرار، وعرفت أنّ الحكاية لم تنتهِ، بل بدأت من جديد. ثمّ نطقت بصوتٍ امتلأ باليقين كأنّها تُجدّد العهد وتستعيد الوعد:
"على العهد يا أبي... على العهد يا سيّد المقاومة وشهيدنا الأسمى... على العهد أيّها الشّهداء، يا من كتبتم بدمائكم هذا الطّريق. لم تكن شهادتكم إلّا بدايةً أخرى لمقاومةٍ لا تنتهي، لطريقٍ لا تُطفأ أنواره، لوعدٍ لن يُكسر، ولحكايةٍ لن تُمحى من ذاكرة الأرض. نحن لا نرث الحزن، نحن نرث القضيّة، نحملها كما حملتموها، ونحميها كما حميتموها، ونمضي بها كما أردتم أن نمضي. فكما كنتم، سنكون... وإنّا على العهد باقون."