

إدوارد سعيد المفكر الفلسطيني الكوني .. الحاضر، دائماً
تصادف هذه الأيام الذكرى السابعة لرحيل الكاتب، والمفكر، والأكاديمي، والموسيقي الفلسطيني إدوارد سعيد المولود في مدينة القدس في 1/11/1935م، وقد عرف منذ صباه بشغفه بالقراءة والموسيقى حتى أصبح مثقفاً كبيراًَ، وعازفاً ماهراً على آلة البيانو.
كان والده تاجراً من أثرياء المدينة ويحمل الجنسية الأمريكية، وهو من أتباع الكنيسة البروتستانتية الإنجيلية، وأمه هيلدا يوسف بدر، نصراوية من أصول صفدية وذات صلة بلبنان من جهة الأم.
بعد صدور قرار تقسيم فلسطين عام 1947م، أصبح إدوارد لاجئاً مع عائلته وانتقل إلى القاهرة للعيش مع أقاربه. ودرس في مدرسة سان جورج ومن ثم في كلية فكتوريا التي طرد منها عام 1951م، بعدما بدأ يضيق ذرعاً بعنهجية أساتذته الإنجليز _ عندما كانوا يقسمون العالم إلى إنجليز وغير إنجليز_، فقرر والداه إرساله مبكراً إلى المدرسة التحضيرية في "ماساشوستس" في الولايات المتحدة، فهو يحمل الجنسية الأمريكية سلفاً، بحكم التبعية لجنسية أبيه، وهناك أنهى دراسته الثانوية، أحب الموسيقى واهتم بها وأجاد العزف على البيانو. كما أحب الأدب والفلسفة. وهو يجيد الإنجليزية والفرنسية إضافة إلى العربية بطبيعة الحال، ويعرف ما يكفي للحديث بالأسبانية واللاتينية والألمانية والإيطالية.
حصل سعيد على درجة البكالوريوس من جامعة "برنستن" الأمريكية سنة 1957م، ثم الماجستير سنة 1960م، ومن ثم حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة هارفرد سنة 1964م، بأطروحة عن أدب الكاتب الأمريكي ذي الأصل البولندي "جوزيف كونراد".
وقد شغل منذ سنة 1963م منصب أستاذ كرسي للأدب الإنجليزي والأدب المقارن في جامعة "كولومبيا"، نيويورك. وفيها قضى معظم حياته الأكاديمية، لكنه كان يتجول كأستاذ زائر في عدد من كبريات المؤسسات الأكاديمية مثل جامعة "يال" و "هارفرد" و "جون هوبكنز"..حيث أصبح أشهر أستاذ للأدب المقارن في أمريكا وأحد أهم المفكرين في العالم، وطائرة إدوارد ـ على حد تعبير بعض أصدقائه ـ لا تهدأ، فهو يُدعي إلى كبريات جامعات العالم لإلقاء المحاضرات. وكان يكتب بالإنجليزية، وينسق غالباً مع مترجميه إلى العربية ـ وقد شارك في تأسيس ورئاسة معهد الدراسات العربية في "بلمونت – ماساسوشتس".
وهو عضو في الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم، وفي الجمعية الفلسفية الأمريكية.
سيرة مثقف حر غير منتمٍ
في عام 1999م أصدر إدوارد سيرته الذاتية «خارج المكان»، باللغة الانجليزية، وهي رواية بامتياز في نظر العديد من نقاد الأدب. فالكتاب يحمل العديد من الخصائص الأدبية. يستعيد فيه سعيد جزءاً من ماضٍ عام، سياسي واجتماعي عبر الكتابة عن ماض شخصي، كما جاء الكتاب سرداً لارتحالات عدة، واحتفالاً بماضٍ لن يستعاد. سعيد شرع في كتابة سيرته فور اكتشافه إصابته بسرطان الدم، وقد لعبت ذاكرته _ كما يقول _ دوراً حاسماً في تمكينه من مقاومة المرض من خلال استرجاع العديد من الأشخاص والأمكنة التي لم تعد موجودة. فكان الكتاب سجلاً لعالم مفقود أو منسي، عالم لم يعد كما كان، حيث تحولت فلسطين إلى (إسرائيل)..
واللافت في هذه السيرة صورة حياته الباكرة التى عاش معظمها فى غربي مدينة القدس والقاهرة، والثورة المصرية 1952م والاضطرابات الأهلية اللبنانية التى بدأت عام 1958م. وهى سجل شخصى غير رسمى لتلك السنوات المضطربة التى عاشتها منطقة الشرق الأوسط، فسرد إدوار سعيد قصة حياته على خلفية الحرب العالمية الثانية وضياع فلسطين وقيام المسماة (دولة إسرائيل) وسقوط الملكية فى مصر والسنوات الناصرية وحرب عام 1967م وانطلاقة حركة المقاومة الفلسطينية والحرب الأهلية اللبنانية واتفاقية أوسلو كل هذه الأحداث صنعت سيرة إدوار سعيد الإنسان والعالِم والسياسي. #وتمثل مذكرات «خارج المكان» منظومة متكاملة لكل مرحلة من مراحل حياة مفكر كبير فى حجم إدوار سعيد وتجربته فى الحياة التى تمثل كل منها ذاكرة وحدها تستحق النظر إليها بعين الاعتبار. فى مذكرات إدوار سعيد وكذلك كتبه النقدية تظهر صورة المثقف الحر غير المنتم صاحب الهوى السلطوى، صورة طالما أكّد عليها وظهرت فى آراءه وسلوكه فى كتابه "صور المثقف"، وكذلك مجموعة الأحاديث التى ظهرت معه فى كتاب "القلم والسيف"، هذه الصورة التى صنعت مِثال عالم ومفكر كتب فى السياسة والأدب، ورياضي كتب عن لعبة البيسبول، وفنان تذوق الفن فكتب عن السيدة تحية كاريوكا التى عدها أهم راقصة شرقية فى نصف القرن الماضي.
وكشف سعيد أيضاً في مقدمته للسيرة رغبته الدائمة في تجريب أشكال مختلفة من الكتابة... ولكن"كتاباتي الأخرى وتدريسي، أبعدتني كثيراً عن العوالم والتجارب المختلفة التي ينطوي عليها هذا الكتاب، فالأكيد أنّ الذاكرة تشتغل بطريقة أفضل وبحرية أكبر عندما لا تفرض عليها الأساليب أو النشاطات المعدة أصلاً لتشغيلها".
أصيب إدوارد بسرطان في الدم سنة 1992م، واستمر في صراعه مع المرض تسعة سنوات إلى جانب استمرار صراعه السياسي والفكري.
وعن بدايات اكتشافه للمرض تحدث سعيد في حوار بثته قناة الجزيرة، ليل الخميس، الثاني والعشرين من شهر أيار/ مايو، أي قبل وفاته ثلاثة أيام وأربعة أشهر، قائلاً: "أواخر عام 1991م، أظهر التشخيص أنني مصاب بسرطان الدم. ومنذ ذلك الوقت والعلاج يأخذ مني وقتاً كبيراً" ويضيف إن كثيرين من المرضى لا يحبون الخوض في موضوع مرضهم. لكنني أتحدث عن مرضي دوماً، فبذلك أشعر أنني كائن اجتماعي في العالم. فما عاد الموت يخيفني. كلنا سنموت. والمهم هو الاستمرار على نحو معقول طيلة الوقت الذي لا أسأل كم بقي لي منه".
وفي يوم الخميس الموافق للخامس والعشرين من أيلول/سبتمبر 2003م، توفي إدوارد سعيد في احد مستشفيات نيويورك. ودفن في لبنان حيث مسقط رأس زوجته، بناء على وصيته.
وقد ترك إدوارد سعيد إرثاً فكرياً غزيراً ومن بين ما ترك من مؤلفات، فضلاً عن الكثير من البحوث والدراسات والمقالات.
من قصيدة «طـباق» لمحمود درويش
(عن إدوارد سعيد)
نيويورك. إدوارد يصحو علىكسَل الفجر. يعزف لحناً لموتسارتيركض في ملعب التِنِس الجامعيِّيفكِّر في رحلة الفكر عبر الحدودوفوق الحواجز. يقرأ نيويورك تايمزيكتب تعليقَهُ المتوتِّر. يلعن مستشرقاًيُرْشِدُ الجنرالَ إلى نقطة الضعففي قلب شرقيّةٍ. يستحمُّ. ويختارُبَدْلَتَهُ بأناقةِ دِيكٍ. ويشربُقهوتَهُ بالحليب. ويصرخ بالفجرلا تتلكَّأ!على الريح يمشي. وفي الريحيعرف مَنْ هُوَ. لا سقف للريحلا بيت للريح. والريحُ بوصلةٌلشمال الغريبيقول: أنا من هناك. أنا من هناولستُ هناك، ولستُ هنالِيَ اسمان يلتقيان ويفترقانولي لُغَتان، نسيتُ بأيِّهماكنتَ أحلَمُ،لي لُغةٌ انكليزيّةٌ للكتابةِطيِّعةُ المفردات،ولي لُغَةٌ من حوار السماءمع القدس، فضيَّةُ النَبْرِلكنها لا تُطيع مُخَيّلتيوالهويَّةُ؟ قُلْتُفقال: دفاعٌ عن الذاتإنَّ الهوية بنتُ الولادة لكنهافي النهاية إبداعُ صاحبها،لاوراثة ماضٍ. أنا المتعدِّدَ... فيداخلي خارجي المتجدِّدُ. لكننيأنتمي لسؤال الضحية. لو لم أكنمن هناك لدرَّبْتُ قلبي على أنيُرَبي هناك غزال الكِنَايةِفاحمل بلادك أنّى ذهبتَ وكُنْنرجسيّاً إذا لزم الأمرُمنفىً هوَ العالَمُ الخارجيُّومنفىً هوَ العالَمُ الباطنيّفمن أنت بينهما؟لا أعرِّفُ نفسيلئلاّ أضيِّعها. وأنا ما أناوأنا آخَري في ثنائيّةٍتتناغم بين الكلام وبين الإشارةولو كنتُ أكتب شعراً لقُلْتُأنا اثنان في واحدٍكجناحَيْ سُنُونُوَّةٍإن تأخّر فصلُ الربيعاكتفيتُ بنقل البشارة!يحبُّ بلاداً، ويرحل عنهاهل المستحيل بعيدٌ؟يحبُّ الرحيل إلى أيِّ شيءففي السَفَر الحُرِّ بين الثقافاتقد يجد الباحثون عن الجوهر البشريّمقاعد كافيةً للجميعهنا هامِشٌ يتقدّمُ. أو مركزٌيتراجَعُ. لا الشرقُ شرقٌ تماماًولا الغربُ غربٌ تماماً،فإن الهوية مفتوحَةٌ للتعدّدِ..