

أبناءُ الماءِ
مدخل
أمَاكنُ تتجاوزُ حدودَ الواقعِ. هنا، كلُّ موجةٍ تحكي سرَّها، وكلُّ قصبةٍ تمثّل جدارًا بين عالمَين. الأهوارُ ليستْ مجرّدَ أرضٍ، بل قلبٌ ينبضُ بذاكرةِ الزمنِ، وممرٌّ خفيٌّ بين البشرِ والأرواحِ، بين الحاضرِ والغيابِ.
إنَّ مَن يخطو على خشبِ القواربِ، أو يهمسُ على ضفافِ الماءِ، يكتشفُ أنَّ الحياةَ هناك ليستْ كما نعرفُها؛ إنَّها حلمٌ طويلٌ متجذّرٌ في صمتِ الطبيعةِ، وموسيقى خفيّةٌ تنبضُ تحتَ سطحِ الماءِ.
القصة
في وسطِ الأهوارِ، حيثُ يمتدُّ القصبُ كأنَّه جيشٌ أخضرُ يحرسُ الأفقَ، تقومُ بيوتٌ لا تعرفُ اليابسةَ؛ سقوفٌ من القصبِ، وجدرانٌ من سعفٍ، وأرضٌ من ماءٍ يتماوجُ تحتَها ككائنٍ حيٍّ يتنفّسُ ببطء. كأنَّ البيوتَ ليستْ بيوتًا، بل جزرًا صغيرةً وُلدتْ من رحمِ الماءِ، تُقاومُ الفناءَ بذاكرةٍ لا تُنسى.
وحينَ يهبُّ النسيمُ ليلًا، تشعرُ الأرواحُ القديمةُ أنَّها عادتْ لتجلسَ فوقَ السطوحِ، تستمعُ لأنينِ الماءِ كما لو كانَ اعترافًا أبديًا.
الأطفالُ يُولَدون وهم يلمسونَ الموجَ قبلَ الترابِ، يركضونَ بزوارقَ صغيرةٍ كأنّها أجنحةٌ طافيةٌ، يصنعونَ منها ألعابَهم وطرقاتِهم. إنَّهم أبناءُ الغيمِ، ملامحُهم مرآةٌ لصفاءِ السماءِ، وضحكاتُهم كقطراتٍ تنثرُها يدُ القدرِ فوقَ صفحةِ النهرِ. وفي لحظاتِ اللعبِ، يُخيّلُ أنَّ أرواحًا خفيّةً تدفعُ قواربَهم الصغيرةَ، تفتحُ أمامَهم دروبًا لا تُرى.
قال أحمدُ وهو يضحكُ: «الماءُ يضحكُ معنا، لو سقطنا فيه حملَنا على ظهرِه.»
وقال وحيدٌ وهو يلوّحُ بمجدافٍ صغيرٍ: «لا، إنَّه يسمعُنا فقط. إذا غضبَ أغرقَ زورقي كما حدثَ بالأمس.»
فتدخّلتْ طفلةٌ، شعرُها مبتلٌّ بالشمسِ: «أبي قالَ إنَّ الماءَ بابٌ للأرواحِ، نحن نسبحُ فوقَه، وهم ينظرونَ إلينا من تحتِه.»
صمتوا لحظةً، ثم صاحَ عادلٌ، أصغرُهم سنًّا: «إذن، دعونا نُغنِّ لهم حتى لا يشعروا بالوحدةِ.»
وانطلقتْ أصواتُهم في الفضاءِ، مزيجًا من ضحكٍ وغناءٍ، كأنّها رسائلُ صغيرةٌ تحملُها الأمواجُ نحوَ البعيدِ.
في الصباحِ، يخرجُ الرجالُ بمجاديفَ طويلةٍ، يفتحونَ طرقًا بين غابةِ القصبِ، يبحثونَ عن الأسماكِ، وعن الجاموسِ الذي يعرفُ دروبَ الماءِ أكثرَ من أيِّ إنسانٍ. كانوا يمضونَ بصمتٍ في البدايةِ، حتى قالَ أبو أحمدَ وهو يضغطُ على المجدافِ:
«الماءُ اليومَ أثقلُ من الأمس… كأنَّه يُخفي شيئًا في قاعِه.»
فردَّ عليه أبو عادلٍ، ووجهُه مبلّلٌ بالندى:
«الماءُ لا يُخفي، بل يُذكّر. كلُّ موجةٍ تُردّدُ أسماءَ من رحلوا.»
تنهّد أبو وحيدٍ، وهو يراقبُ الجاموسَ يتقدّمُ مطمئنًا بين الممراتِ:
«ربما لهذا يعرفُ الجاموسُ الطريقَ أفضلَ منّا؛ إنَّه يسمعُ ما لا نسمع.»
ابتسمَ أبو أحمدَ، وقد بدتْ على وجهِه علاماتُ الحكمةِ:
«نحن لا نصطادُ السمكَ فقط… نحن نصطادُ بقايا أرواحِنا في هذا الماءِ.»
سادَ الصمتُ قليلًا، ولم يبقَ سوى صوتِ المجاديفِ وهي تشقُّ الطريقَ في عتمةِ القصبِ. بدا أنَّ الماءَ يتنصّتُ عليهم، يبتلعُ كلماتِهم ببطءٍ، ويحوّلُها إلى صدى بعيدٍ.
أصواتُ الطيورِ ملأتِ الفضاءَ، نداءاتُ البجعِ والبطِّ البريِّ، وكأنَّ السماءَ أيضًا تُشاركُ الأهوارَ في حياتِها. الماءُ هناك ليسَ مجرّدَ ماءٍ، بل لغةٌ خفيّةٌ تهمسُ بأسرارِها لمن يُصغي، لغةٌ تجمعُ الإنسانَ والكائناتِ في مصيرٍ واحدٍ. وأحيانًا، حين يسودُ السكونُ، يتبدّى أنَّ الماءَ مرآةٌ بين عالمَين، تعكسُ وجهَ الراحلين كما لو أنَّهم يواصلونَ حياتَهم في الأعماقِ.
النساءُ ينسجنَ من القصبِ بيوتًا جديدةً، أو يُصلحنَ ما أرهقَه المطرُ. يطبخنَ على نارٍ لا تنطفئُ، فتفوحُ رائحةُ الخبزِ الحارِّ، تمتزجُ برائحةِ الطينِ الرطبِ والبَرْديِّ اليابسِ. كأنَّهن يكتبنَ سيرةَ المكانِ بخيوطِ الدخانِ المتصاعدِ، ويضعنَ في كلِّ رغيفٍ دفءَ الأرضِ التي لم يطأْها قدمٌ.
ويقلنَ إنَّ الدخانَ أحيانًا يحملُ رسائلَ الأرواحِ، يصعدُ نحوَ السماءِ ليُخبرَ الغائبين أنَّ البيوتَ ما زالت واقفةً على الماءِ.
قالت أمُّ ناصرٍ وهي تقلّبُ الأرغفةَ: «كلُّ رغيفِ خبزٍ هو رسالةٌ، مَن لا يأكلُ معنا لا يعرفُ قلبَ الأهوارِ.»
أجابتْ أمُّ عادلٍ وهي تُصلحُ سقفًا من القصبِ: «والبيتُ من دون نارٍ مثلُ الماءِ من دون قمرٍ… لا حياةَ فيه.»
رفعتْ مريمُ بصرَها نحو الدخانِ المتصاعدِ: «أمّي كانت تقول: الأرواحُ تتبعُ الدخانَ، تصعدُ معهُ كي لا تضيعَ الطرقُ.»
همستْ أمُّ عادلٍ، كأنّها تُخاطبُ الغائبين: «خذوا سلامَنا معكم، وأعيدوا إلينا أحلامًا لا تغرق.»
ثم جلستْ قليلًا إلى جانبِ النارِ، تستحضرُ في صمتٍ صورةَ ابنِها الذي ابتلعتْه مياهُ الهورِ منذ أعوامٍ، كأنَّها تنتظرُ أن يعيدَ إليها الدخانُ وجهَه الضاحكَ. سادَ بينهنّ صمتٌ قصيرٌ، لكنَّ حفيفَ القصبِ وارتعاشَ النارِ جعلا الصمتَ نفسَه جزءًا من الحكايةِ، وكأنّهن جميعًا ينسجنَ البيتَ والذاكرةَ معًا، بيتًا واقفًا على الماءِ لا يهدمُه الغيابُ.
الليلُ في الأهوارِ ليسَ عتمةً، بل مرايا ماءٍ تعكسُ القمرَ. النجومُ تسبحُ مثلَ قواربَ صغيرةٍ، وصوتُ الضفادعِ يصيرُ موسيقى تُرافقُ السهرَ. هناك، الحياةُ بطيئةٌ، لكنها مليئةٌ بالمعنى.
كلُّ بيتٍ فوقَ الماءِ حكايةٌ، وكلُّ موجةٍ تروي سيرةَ من مرّ وعاد. ومن يُصغِ جيّدًا يسمعُ أنينَ الأزمنةِ القديمةِ، كأنَّ الأهوارَ تحتفظُ بذاكرةِ البشرِ منذ الطوفانِ الأول، وتعيدُ سردَها عبرَ هديرِ الماءِ وسكونِ القصبِ.
وهكذا تصبحُ الأهوارُ بوابةً غامضةً، يجتازُها العابرونَ بين عالمِ البشرِ وعالمِ الأرواحِ، فلا يعرفُ أحدٌ إن كانَ يعيشُ بين الحلمِ أو في صميمِ الخلودِ.
لكنْ مَن يُودّعُ الليلَ هناك، ويُصغي لوشوشةِ الماءِ، يدركُ أنَّ الأهوارَ لا تُعطي سوى وعدٍ واحدٍ: أنَّ الحياةَ، مهما غابتْ، تعودُ على هيئةِ موجةٍ جديدةٍ.