الخميس ٣ تموز (يوليو) ٢٠٢٥
قصة قصيرة
بقلم أحمد الخميسي

لا أحد

توقف قصف الطائرات الذي استمر طوال النهار ولم يترك بيتا إلا ودكه، وكان" ماكس" خلال القصف راقدا على بطنه وذيله بين ساقيه الخلفيتين محتميا بكتل خشبية متفحمة. لبث ساكنا عدة دقائق حتى استوثق بأذنيه أن القصف قد انتهى فخرج يثب من مكمنه وتوقف يتلفت حوله بعينين متسعتين جائعا منهكا غاضبا، ثم اندفع يجري أينما انفسح أمامه طريق وهو يلوي رقبته يمينا ويسارا ناحية البيوت المنهارة، ينبح عليها بقوة، ويواصل الركض يتنشق رائحة طعام، أي طعام، بين تلال الأتربة وركام الأنقاض. تمهل يلهث وقد تدلى لسانه وفي عينيه خيبة مريرة إلى أن جرت تحت أنفه نسمة برائحة تشبه لبن الأطفال.

اختلجت لحظة وتفرقت. رجرج ظهره ينفضه مستدعيا حيويته. هفت الرائحة مجددا ففتح منخاريه يستيقن. أجل. توترت عضلات ودفع أنفه إلى الأمام يتعقبها. ركض وهو يتعرج في جريه ليتجنب الأسياخ الحديدية، والجدران الساقطة، والأنقاض المشتعلة التي طمست شوارع خان يونس، وما لبث أن عثر على مصدر النكهة منبعثة من جدار سقط متهدما تحف به إطارات نوافذ محطمة. هبط بعينيه إلى أسفل الجدار ورأى نصف رأس طفلة مضغوطا إلى الأرض تحت ثقل الحجر، بقوة جعلتها عاجزة عن أدني حركة. كانت في نحو الخامسة من عمرها. كسا وجهها غبار فاحم، والتصقت بجبينها خصلات شعر بنقاط دم متخثر، وقد طمر التراب حاجبيها، ولم يكن يتغير فيها سوى نظرات عينيها مرسلة رجاء مذعورا وشفتاها ترتجفان بتنهد ضعيف. حدج بها بوسع عينيه بحيرة وارتباك، فبرقت في عينيها نظرة استرحام وتوسل. تراجع خطوة للخلف وانكب بإقدام وانفعال يحفر بأظافره حول رأس الطفلة ويزيح الأحجار الصغيرة بمشطي قدميه. حفر طويلا حتى رأى أنه لا جدوى، وأن رأس الطفلة مازال مضغوطا محشورا بشدة فكف وهو يلهث، ثم راح ينبح على التراب بغضب. أولاها ظهره وذيله واندفع إلى الأمام يتفقد الشوارع المجاورة لعله يجد أحدا فيقوده إلى الطفلة. لكن لا أحد. لا أحد. السماء الكامدة ، والصمت المشبع بموت نابض، وصورة الحجر الثقيل أمام عينيه. هرول راجعا. لبث أمامها يحدق بها بعجز وعطف وأمل. تجمعت الدموع في طرفي عينيها. بانكسار من لا مهرب له. ظلت رأسه محنية لحظة ثم دنا منها ببطء وراح يلعق رأسها بلسانه برفق وانتظام من جبينها إلى أعلى، فاسترخت وأغلقت عينيها على نفسها مع الحنان، ووافاها من عمق سحيق معلق في فراغ صوت والدها: " قولي لي .. هل تتألمين؟ ". كانت مرهقة تتنفس بدون وعي، لا تستطيع الرد، فغمغمت: بابا. بابا، فعاد إليها الصوت المضبب: " هل أنت عطشى؟ جائعة؟ متعبة ؟"
تلاشى الصوت، وومض أمامها نثار من الصور المتلاحقة المتفرقة، سقف البيت يخر فوقهم مع دوي القصف، صرخة أمها، سقوط والدها منهارا على الأريكة، صورتها في فستان أحمر، دميتها الصغيرة التي نسوها في بيتهم القديم في لهوجة الرحيل واضطرابه. ولبثت الدمية أمام عينيها لحظة، فاعتصرتها موجة ألم. الدمية الآن وحدها، لا يخاطبها أحد، ولا يلعب معها أحد، ولا يناغيها أحد. وبكت في داخلها تائهة. رفعت جفنيها فرأت " ماكس" واقفا يلعق رأسها. تبادل الاثنان النظر يتشبث كل منهما بنظرة الآخر. ارتخت شفتاها وشهقت شهقة عميقة كفت بعدها عن التنهد. لبث " ماكس" واقفا صامتا حتى تيقن أنها النهاية. رقد ومد رقبته على الأرض قرب رأسها، نبح بصوت خافت كالأنين، وتلفت حوله مرة أخرى، بيأس وأمل، لكن لا أحد.

عوى عواء ممتدا يعلو ويهبط جارحا يشق الأفق، ثم سدد نظرة يائسة إليها، ومسته نوبة من جنون اليأس والغضب فبرم بدنه في الهواء، ثم هوى على الأرض وهو يعوي، وراح يلطم الأرض برأسه من دون توقف. وتلفت حوله مرة أخيرة : لا أحد. لا أحد. الصمت والدخان والشمس التي مالت للغروب. ولا أحد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى