الأحد ٨ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم أحمد إبراهيم رياض

في ضيافة أعدائي

وراء الباب المغلق يقف مبتور السبابة، بلثام أسود مخيف، التصقتُ بالحائط، وسحبت أطرافي متكورة في وضع الجنين، كانت رحلة طويلة منذ اختطفوني في السابع من أكتوبر حتى آل أمري إلى هذه الغرفة. أحاول صرف تفكيري عن الخيالات المخيفة، كلما فُتح الباب أنظر إلى حارسي الملثم برعب، متى سيمزق ملابسي وينهشني، حفلات التعذيب المتوقعة تجمد الدم في عروقي، فتح الملثمُ الباب، أصابتني رعدة، أشعر ببرودة الحائط وأنا أحاول دفن نفسي فيه، لم يعرني الحارس اهتمامه، ترك طبق الطعام وكوب الماء ثم خرج من دون كلمة، تنفست بعمق، لم ينتهكني هذه المرة، لكن الاطمئنان مستحيل، لن أنجو في المرة القادمة. أشعر بالعطش، لكنني شبه متجمدة من الخوف، أرتجف وأزداد التصاقًا بالحائط، الجماد لا يشعر لكنه مصدر الأمان الوحيد، ليت الحائط يبتلعني ليحميني من المصير الأسود. فُتح الباب هذه المرة عن حارسي ومعه زميله، أُصبت بالذعر وعلا صوت نحيبي، لم ينطق حارسي لكن زميله تكلم معي بعبرية متقنة قائلا: "لا تخافي يا سيدتي؛ نحن لا نؤذي أسرانا لاسيما النساء".

لم أصدقه، والحائط ورائي لا يستجيب لمحاولاتي. طلب مني الحارس الجديد أن أتناول طعامي. نبرةُ صوته مُطَمْئِنَةٌ. حتى الآن لم يلمسني أحدهما، لكن إلى متى يستمر لطفهما؟ قبل أن يخرج مازحني قائلا: "أعرف أن زميلي مخيف، لكن أقسم لك أنه لن يؤذيك". أغلق الباب بعد خروجهما، مكوثي لفترة طويلة في أمان أشعرني بتفاؤل، معدتي تؤلمني بسبب الجوع، ابتعدت عن الحائط، شربت من الكوب ثم تناولت شيئًا من الطعام الذي قدمه لي الحارس. في الأيام التالية لم يظهر الحارس الذي تحدث معي بالعبرية، كلما فُتح الباب دخل منه الحارس مبتور السبابة، يضع الطعام والشراب ويخرج، لا يتكلم أبدًا، لسبب لا أعرفه رفعت عيني عن يده التي لفتت انتباهي عندما رأيته في المرة الأولى، تعلق ناظرَيّ بعينيه، نظرته تحمل قسوة لا يمكنني تحملها، تحاشيت النظر إلى وجهه مرة أخرى، هذا الرجل يحمل لنا بغضًا لا يمكن إخفاؤه، بعد أيام ظهر الحارس الثاني، أفلتت ابتسامة على الرغم مني، كنت متشوقة إلى التحدث مع أحد، عرفت أنه يشرف على الحراس، طلبت منه أوراقًا وقلمًا، وعدني بإحضار ما طلبته وقبل أن يغادر قال لي: اطلبي ما تشائين من حارسك فهو يعرف العبرية. كنت أظنه أخرس. ضحك عندما أخبرته بذلك، ربت على كتف مبتور الإصبع وقال له: كن رحيمًا معها؛ ليست هي من بتر إصبعك. لم أبين لهما فهمي للغة العربية ليتحدثا أمامي بحرية، الآن أعرف سر بغضه لنا، يبدو أنني في خطر عظيم. في اليوم التالي دخل مبتور الإصبع واقترب مني، رفعت رأسي ونظرت إليه، نظرة عينيه ليست بالقسوة التي عهدتها، ناولني أوراقًا وقلمًا، هي المرة الأولى التي يناولني فيها شيئًا في يدي، عجبت لأنه لم يتركها على الأرض كما كان يفعل دائما وهو يقدم لي الطعام والشراب. التفت قبل أن يخرج وقال بالعربية: "أرسلنا في طلب فراش ليّن وأغطية"
تظاهرت بعدم الفهم فقال وهو يغلق الباب: "لم تنطل علينا خدعتك؛ أعرف أنك تفهمين العربية".

في تلك الليلة أفرغت مشاعري على الورق، كتبت كثيرًا، حتى شعرت بالتعب، وضعت الأوراق تحت رأسي ثم نمت. في الصباح أحضروا لي فراشًا مريحًا وبعض الأغطية، كنت ممتنة لهم، الحارس الذي حدثني أول مرة قال لي بالعربية: "أعرف أنك تعبت من صلابة الأرض، لكن توفير فراش لين ليس سهلًا".

تشجعت وسألته: كيف عرفت أني أفهم العربية؟

قال ضاحكًا: لمعة عينيك عندما تحدثنا بها أمامك أخبرتنا..

لم يكن مبتور الإصبع موجودًا؛ فسألته عن سر سكوته، أخبرني باختصار عن تجربة اعتقاله في سجوننا وما تحمله من تعذيب، وعن معاناته النفسية بسبب مقتل أبيه وأختيه على يد جنود جيش الدفاع الإسرائيلي.

قرأ الخوف في عينيّ فقال: "لا تخافي؛ لن يؤذيك أبدا مهما حدث، ثقي بي، أنت هنا في المكان الوحيد الآمن على أرضنا، أنتِ أكثر أمنًا ممن تريدين اللحاق بهم، لذلك أنصحك بعد أن نعيدك إليهم أن ترحلي إلى بلد آخر، وتأكدي أنكم آمنون في أي مكان على الأرض باستثناء فلسطين".

مرت الأيام حتى نسيت آلام النوم على أرض صلبة، لِين الفراش أصلح عظامي، قررت أخيرًا الاستحمام، زال عني الخوف من التعري الكامل هنا، طلبت حصة مياه تكفي لاستحمامي، فأحضرها لي مبتور الإصبع وأدخلها الحمام ثم خرج، دخلت الحمام وأغلقت الباب جيدًا، ثم استمتعت بحمام افتقدته شهورًا. الأيام تمر ولا أمل يلوح في الأفق، متى أعود إلى أهلي؟ لا يجيبون عن هذا السؤال، يئست من الإجابة، واكتشفت أنني اعتدت حياة الأسر، زال خوفي، لكن للأسر مرارة مهما كانت المعاملة حسنة، طلبت من مبتور الإصبع رواية لكاتبة إسرائيلية؛ ضحك كثيرًا، كانت المرة الأولى التي أسمع فيها ضحكته، سكت ثم قال بغلظة كأنه ندم على ضحكته: "نحن نوفر لك الطعام بأعجوبة". خرج وأغلق الباب، بعد ساعات دخل ووضع وجبة الطعام ثم خرج، كنت أشعر بالإهانة، فقدت شهيتي للطعام، عندما وجد الطعام لم يُمس لم يعلق، رفع الطعام وخرج. في اليوم التالي أتاني بالطعام في موعده، وضع الطعام ووضع جوار الأطباق كتابًا صغيرًا، قال وهو يخرج: "من الصعب الحصول على الكتاب الذي طلبته، هذه رواية لكاتبة عربية استعرتها من صديق، أرجو أن تعجبك". كان يتكلم وهو ينظر خارج الغرفة، إنه يتحاشى النظر إلى وجهي، لا أدري هل هذا من كرهه لي أم هو خجول، شعرت بالامتنان له وأقبلت على الطعام لأنني كنت جائعة، هذه الرواية ستهون عليّ الليل الطويل. طال مكوثي في هذا المكان حتى ألفته، لكن الغارات الجوية المكثفة ألجأتهم إلى تغيير المكان، خرجت من المنزل الذي احتجزوني فيه شهورًا، كنا نسير في الطرقات المظلمة، أنا وحارسي ووراءنا حراس وأسرى أُخر، الطرقات رديئة مملوءة بالحفر، نهتدي بضوء النجوم الضعيف، استخدام المصابيح معناه الموت تحت القصف، الخراب يحيط بنا، والموت فوق رؤوسنا ، ظننت أن النجاة مستحيلة، تعثرت في حفرة صغيرة والتوت قدمي، تأوهت بصوت عال فزجرني حارسي بنظرة صارمة، انحنى بعدها ونظر إلى قدمي المصابة، لوهلة خُيل إلي أن نظرة عينيه تحمل شفقة، حملني على كتفه العريض وأكملنا الرحلة، الألم عظيم، أكاد أفقد الوعي، لم أركز في الطريق الذي سلكناه، غبت عن الوعي وعندما أفقت كنت في حجرة مستطيلة تشبه الممر، الحجرة شبه مظلمة، لا أعرف هل هي فوق الأرض أم تحتها.

فطنت إلى ثقل في قدمي، فإذا بها جبيرة بدائية، ناولني حارسي مبتور الإصبع حبة مسكنة للألم وقال: "وجدت كسرا في قدمك فجبرته بما أتيح لي من إمكانات، لا تقلقي سنحضر لك الطبيب لكنني واثق من جببيرتي؛ هذه ليست المرة الأولى التي أعالج فيها موقفًا كهذا".

مرت الأيام وأنا في محبسي الجديد، نوبات الحراسة تتغير، في كل مرة يأتي حارس جديد، لكن في النهاية يعود مبتور الإصبع، عجبت من نفسي؛ فقد كنت دائمًا أنتظره، يغيب أيامًا لكنه يعود، أصبح ألطف، لم تعد نظرته قاسية، يبدو أن إصابتي رققت قلبه، لكن النظام الجديد هنا جعلني أراه مرة واحدة كل خمسة أيام. أجلت طلباتي حتى يأتي، أحببت الحديث معه، ذكرني بأخي جلعاد لم أكن أتخيل قط أن تنمو في قلبي مشاعر صداقة لفلسطيني، إذا جردت عدوك من الصورة التي رسموها لك فلن تجد فيه غير الأخ، الإنسان بما يحمل من خير وشر، ربما نتفق في المستقبل، لماذا لا نعيش معًا في سلام. آخر مرة رأيته فيها كانت منذ شهر، أعطاني رسالة بنت لأبيها قبل أن يستشهد، أخبرني أن نص الرسالة سيعجبني فهي مكتوبة بأسلوب أدبي راق، لقد كان محقًا؛ فالرسالة جميلة، ليته لم يخبرني عن موت الأب، فهذا الخبر جعل الجمال ممزوجًا بالألم، كلامه قليل لكن أفعاله الودود مؤثرة، أنتظر عودته لأخبره برأيي في الرسالة، طال انتظاري ونفد صبري، اليوم حضر المشرف على الحراسة، هو الرجل الذي حدثني بالعبرية أول مرة. سألته عن صديقي العربي، تحاشى النظر إليّ وهو يقول: "رحمة الله على الشهيد"، لوهلة لم أفهم فأخبرني بالعبرية ثم خرج.

في الحروب دائمًا تبكي النساء على قتلاها، لكنني اليوم أبكي كثيرًا على عدوي، حقًا ما أعجب الإنسان.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى