

عــــزْفٌ لِـفجـْرٍ آتٍ
عن دار " مزوار" للطباعة والنشر بمدينة الوادي بالجزائر أصدرت رابطة الفكر والإبداع كتابها الثاني لهذه السنة بعد كتابيْها : الموروث الشعبي وقضايا الوطن ، أنين المدينة ..الكتاب الجديد الذي يحمل عنوان : عـــزْفٌ لفجرٍ آتٍ .
الكتاب الجديد جاء في حُلّة جميلة جدّا من حيث التنسيق والإخراج ، ومن حيث تصميم الغلاف ..إنّ طبْع الكتاب ونشره ، وتوزيعه مجّانا وعلى نطاقٍ واسعٍ لأغلب الهيئات الثقافية في التراب الجزائري ، وكذا على المثقفين كان وفاء من الرابطة التي آلت على نفسها ومنذ إنشائها في شهر أكتوبر 2001 على أن تسعى جاهدة لتشجيع الإبداع الفكري والأدبي من ناحية ، والأخذ بيد المبدعين والمبدعات الشباب بالولاية بالتعريف بهم ، والتعريف بإنتاجهم من ناحية أخرى ؛ وهو ما تمّ في هذا الكتاب الذي ضمّ بين صفحاته 208 عشرين شاعرا وشاعرة منهم من هو معروف محليا ووطنيا كالشعراء :ابن حمودة محمود ، المثردي السعيد ، حرير السعيد وغيرهما ، ومنهم من هو معروفٌ محلّيا من خلال الندوات الفكرية ، والملتقيات الفكرية والأدبية السنوية بالمنطقة ، ومنهم من هو غير معروف .
هذا الكتاب الإبداعيّ الجميل كان بادرة طيّبة لاقت استحسانا كبيرا ، لا من المبدعين أنفسهم فحسب ، ولكم من كلّ من اطّلع عليه فرأى فيه التفاتة لها وزنها من جمعية تفتقد إلى الإمكانات المادية مقارنة بهيئات رسمية لها من الرصيد البشري والمادي ما يساعدها على أن تقوم بمثل هذه المبادرات ، فآثرت الجهل والتجاهل لمثل هذه الأعمال ..أيضا كان الرضا من أنّ الكتاب أوجد للمبدعات فضاء لإبداعاتهنّ .
الصفحات العشر الأولى من الكتاب تضمّنت حديثا لرئيس الرابطة بشير خلف عن الشعر كمفهوم ، وكنوع راقٍ من التعبير الإنساني عبْر التاريخ ،وعلاقة الموسيقى التلازمية مع الشعر ، ورسالة الشاعر في المجتمع :
« إن الشعر فنٌّ من الفنون الراقية ..والفن بقدْر ما هو أداة تعبير عن هموم الإنسان ، والدفاع عن قضاياه ، فهو أداة اتصالٍ وتواصلٍ ..كما أنه لغة الوجدان ..فالشعر لصيقٌ بحياة الإنسان ، وبمسيرة الإنسانية ، وبمصيرها ؛ يقول أحد الشعراء :
( الشاعر يضع نصْب عينيه دائما الظروف التي تحيط بالحياة ؛ إذْ لا يمكن أن يجرّب الحياة دون أن يضطرّ إلى التفكير في المشاكل الإنسانية الجوهرية ، وما النّظُم السياسية ، والاجتماعية إلاّ محاولات لحلّ هذه المشاكل حتّى نستطيع أن نختار الحياة .. لذلك نجد الشاعر مُجبرا على أن يُعيد النظر في هذه الحلول ، وحينئذٍ قد يتبيّن له أنـها تحقّق فيها إلى حدٍّ ما الشروطُ الجوهريةُ للوجود الإنساني ، وقد يتبيّن له العكس أيضا ، وبـهذا المعنى لا شكَّ أنّ الشعر نقْدٌ للحياة وتوجيهٌ لها .)

يكاد الاتفاق يجري على أن الشعر : لغةٌ خاصة مقرونة بموسيقى ، فقد عرّفه عبد الله بن ادريس بـ :
« أنه وليد الشعور ، والشعور تأثّرٌ وانفعال ، رُؤى وأحاسيسُ عاطفيةٌ ، ووجدانُ صُورٍ ، وتعبيراتُ ألفاظٍ تكسو التعبير رونقا خاصّا ، ونغما موسيقيا ملائما ...إنه سطورٌ لامعة في غياهب العقل الباطن ، تمدّها بذلك اللّمعان ، ومضاتُ الذهن ، وإدراك العقل الواعي .»
وعرّفه بايت دوج بأنه :
« فنٌّ مادته الكلمات والموسيقى ، يستعملها ليكشف عن الحقائق التي سجّلتها الحوّاس ، وبعثتها المشاعر ، وأدركها العقل ، ورسّخها الخيال المُجنّح ...»
وعرّفه العلاّمة ابن خلدون بقوله :
« الشعر هو الكلام البليغ المبنيّ على الاستعارة ، والأوصاف ، المُفصّل بأجزاء متّـفـقـة في الوزن ، والرّوي ..مستقلٍّ كلُّ جزْءٍ منها في غرضه ، ومقْصده عمّا قبله ، وما بعده ، والجاري على أساليب العرب المخصوصة به .»
ومن أنواع المشابهة بين الموسيقى والشعر، أنّ كلاًّ منهما يتنوّع أنواعا متماثلة .. فالصوت يختلف عن الصوت من ناحية الطول والعرض ، والغلظة والرقّة ، والارتفاع والانخفاض ، من ناحية مصدر الصوت ..أي الآلة التي تؤدّيه .ففي الموسيقى تختلف النغمة الواحدة صوتا ، وتأثيرا باختلاف الآلات التي تُوقّع عليها ، وهذا يقابله في الشعر القافية ..ومن ثمّة فموسيقى الشعر، أو الأوزان التي يُصْنعُ عليها ، هي الوسيلة التي تمكّن الكلمات من أن يؤثّر بعضها في البعض الآخر ؛ وقد وُصِف الوزن الشعري على غرار الموسيقى بأنه مُخدِّرٌ ، أو مهيٍّجٌ ، أو مَهِيبٌ ، أو تأمّليٌّ ، أو مرحٌ ، أو مُرْقصٌ ..هو دليلُ قدرة الوزن على التحكّم في الانفعال..مثل قدرة الموسيقى في ذلك ..»ص :5
« إن الشعر غناءٌ ..فالغنائية في الشعر تجرّ الفنان الشاعر كي يُسْكبَ نفحاتٍ من روحه ، وفكره في لحظات من التجلّي ، والكشف تُسفر عنه الظاهرة الكلامية في حالٍ من الانسجام مع الذات، والأشياء من حوله، وسعْيه لتحديد نمطِ علاقته مع هذه الأشياء في الطبيعة ، أو كما تنعكس هي في النفس وتتجلْبَبُ برداء الفردانية والذاتية، وعلى خلفية صدْق التجربة وفـطريتها، وعلى ما فيها من بساطة وسذاجة بريئة »ص: 8
ولعلّ ما قرّب الكتاب للمتلقّي هو المزاوجة بين التعريف بالمبدع بدءا من خلال نبذة عن حياته ومساره الإبداعي ، ثمّ تقديم قصائد ثلاثٍ على الأقلّ من إنتاجه قد تكون كلها عمودية ، وقد تكون كلها حرّة ، وقد تكون بين بين ..في كلّ الأحوال هي كشْفٌ لعالم كلّ مبدعٍ ..فهذا السعيد المثردي الشاعر المعروف في " مدوّنة الكبرياء " يخاطب أخت آدم متألّقا :
أيا أُخْـــــتَ آدم إنْ قـــلْتُ شعرا وسابقْتُ في القول نبْضي ولَسْنيوأغْــــــدقْتِ في أصْغريّ السّؤالأ يا شاعري منْ تُراكَ تُغنّــــي ؟!فإيّـــــــاكَ دون العرائس أشدو وإيّــــاك دون الرّوائــع أعنيبحـــــــُبّكِ أعلنتِ عنوان درْبي فسبحان مَنْ ألْهم الدّرْبَ شأْنـيفأنــــــتِ المُنى قبل كلّ الأماني وأنــتِ الحقيقــة دون التمــنّيأنـــيسةَ آدم عند الجــــــِنان وحافـــظةَ العــهدِ عند التدنّي
وفي قصيد " مساءلة الماء ..مساءلة النار " يبحر السعيد في عالم الفلسفة متسائلا :
يا أُمّةَ الروح هـــل من روحنا أمل والزحْفُ آتٍ وفي الأرجاء يكـــتملهل خانكِ النفطُ والأنهارُ شاهــــدة أو خانكِ السّهْلُ والبيداء والــجبلُأم خانكِ الأهل والخلاّن قاطــــبة ؟ أم خــانكِ النخل والأشجارُ والإبِل؟أم خانكِ الزمن المقلوبُ في وطــنٍ يُعْلى من القوم في خذلانهم بطــل ؟وأنتِ من أنتِ في دنياكِ واسطـــة للدين خاتمةٌ بالذكر تكتــــحل
وهذا الشاعر الموهوب صالح خطاب يذوب وجدا في (سوف) [1]:
ينابيع أهل النُّهى قد أفاضتْ كؤوسَ الورى حين واديكِ جـفاوروّتْ حدائقَ أهلِ الحِــجىَ فـأغْدقَ نبْتُها فــكْرًا وظـرْفاوأنْمـى زهورَ المُنى أثْمرت جــنًى مستـطابًا شتاءً وصيفاوفتّحَ أكمامَ فكْــرِ الألــى أحالوا السّرابَ غديـــرا ومرْفاأيا سوفُ يا معْبدَ العـاشقينْ تصابـى المُتيّمُ فيكِ وعــــفّاويا مرْفـأً للمعارف ترســو به سُفُنُ الفكْرِ تنْــفحُ عَرْفـافكم ذا استجار بكِ العارفـونْ فـأقْررْتِ حُسْنَ الوِفادةِ عُـرْفاوكم ذا تــآنس فيكِ الغريبُ غــمرْتِهِ جُودًا وحُبًّا وعطْـفا
الشاعرة يتيم بريزة تتغنّى ببنت الجزائر ذات الكبرياء والشموخ والمتمسّكة بقيم أمتها في هذا القصيد " إذا خرجتْ تراها درّة " :
إذا خرجت تراها درّةأدنتْ عليها من جلبابـهاواللؤلؤ يحيا في أصدافهمكتنزا لــــمّــاعاوإن زعمتم أن بـها قبحاتحــــاول ســـــرّهفزعم أهل الجوار... كذبة وإشاعةلن أبعد عن نفسي... وعنها تـهمةومن متى صار صقْـل المراياقســوة وخداعــاامرأتي... جمالها في قلبهامهيأة للحسّ... للشعورللبذل... للحضورلغرس الورد... وأشجار النخيل
والكتاب تنتهي باقته الإبداعية الجميلة بقصائد للشاعر وانيس عبد الحفيظ منها هذا القصيد الذي يتصدره عنوان " صيحة نورس " :
لو كنـتُ نـورســا يطيــــركنت حـرًّا لا عبــدا أسيــــرو لهمـتُ فـي المحيطات و البحارو الأرجاء ...أجنحتي مثل الحريـرو لغِبتُ في الأدغال والأراضي الإفريقيةو غزوتُ بلاد الغال و جبال الألب الأوروبيةو لغـــارت منـي الأسمـــــــاكُفلو كنـت نـورسا يطير...لتحديت الزنوجو زعمــاء القبــائل الهنــديــــةفـأنا من يهوى الترحال في البلدان المنسيّةأرقــــب طــلاّت الشمس ..على...الخلجـــان الشرقيــة و الغربيـــةفلو كنت نـورسا يطير...لأسكتُّ الدجّالينو قطعـــت الحـــدود الدوليـــةو سكنـت جميـع الشطـــــــآنأركبُ أمـــــواج البحـر القويــةلا أهتــمُّ لقــرارات الرؤســــاءو لا الهـيـئــات القومـيـــــةو لقطعت آلاف الأميال أكشف أسرارا مخفيةو لأنقذتُ نورستي من مخــالب الهمجيةو لخدعتُ أسماك القرش في أعماق بحريةفلو كنت نورسا يطير لما اتـهموني بالعصبيةو لما خسرتُ حبيبتي في الحب كأيّّ قضيةفلو كنتُ نورسا يطير...لكنتُ مثالا للحرية
إنّ كتاب : " عزْفٌ لِـفجرٍ آت ٍ" حقّا هو عزْفٌ أخّاذٌ وجميلٌ نغماته تنوّعت بتنوّع القصائد ، وفجره أسفر عن مواهب تشي بغدٍ مشرقٍ للشعر العربي ..شكرا لرابطة الفكر والإبداع التي قدّمت هذا العمل الأدبيّ الجميل .