الجمعة ٤ شباط (فبراير) ٢٠١١
بقلم حسن توفيق

شمس التغيير تشرق من ميدان التحرير

لا أستطيع أن أحصي عدد المرات التي انطلقت فيها إلى ميدان التحرير في قلب القاهرة، لكني أستطيع القول إني قد تجولت في أرجائه مشيا على الأقدام ، وحدي أحيانا وأحيانا مع الأحبة والأصحاب، كما ركبت الترام العتيق الذي كان يمر منه، والتقيت في مقاهيه الشهيرة - ومن بينها أسترا ووادي النيل - مع أصدقاء كثيرين من الشعراء والأدباء العرب من مصريين وغير مصريين وكنت أفخر بأني أحد رواد مقهى علي بابا الذي يجلس فيه نجيب محفوظ كل صباح ليقرأ الجرائد ويشرب القهوة .

بعيدا عن ذكرياتي الخاصة مع ميدان التحرير ، فإن لهذا الميدان العريق تاريخا مشرقا ومشرفا في تسجيل نضال أجيال من أبناء مصر ضد الاحتلال البريطاني الذي كان جاثما على أرض مصر وضد كل قوى القهر والتنكيل التي كانت وما زالت تحاول التمادي في الطيش والبطش، وربما لا يعرف كثيرون أن هذا الميدان كان يسمى ميدان الإسماعيلية نسبة إلى الخديوي إسماعيل حلال سنوات حكم أسرة محمد علي باشا إلى أن اختير له اسم ميدان التحرير مع بدايات ثورة يوليو المجيدة بقيادة الثائر العظيم الزعيم جمال عبد الناصر.

مصداقا لمقولة إن التاريخ يكرر نفسه، كنت قد كتبت عن حكاية فرار الشاه محمد رضا بهلوي من إيران سنة 1953 وقارنت بينها وبين حكاية فرار شين الفاسدين من تونس يوم 15 يناير 2011 وأريد الآن أن أقارن بين ما جرى في ميدان التحرير الذي كان يعرف بميدان الإسماعيلية يوم 21 فبراير سنة 1946 وما جرى وما يزال يجري في نفس الميدان منذ اليوم الرائع والعظيم - يوم 25 يناير 2011.

ما جرى يوم 21 فبراير 1946 يتمثل في مظاهرة ضخمة تضم ما يزيد على أربعين ألفا من الشباب، معظمهم من الطلاب، وقد ظلت هذه المظاهرة تجوب أهم شوارع القاهرة إلى أن بلغت ميدان الإسماعيلية، وهنا تصدت لها أربع سيارات مصفحة بريطانية واقتحمت الجموع بكل عنف ووحشية، وكان من المستحيل إفساح الطريق لها، فسقط من القتلى من سقطوا شهداء وسقط من الجرحى من سقطوا، ومع هذا فإن الطاغية إسماعيل صدقي ألقى في مساء ذلك اليوم خطابا قال فيه بالحرف: إن المظاهرات السلمية التي قامت صباح اليوم قد تحولت بفعل الأيدي التي لم تعد خافية على أحد إلى مظاهرات فوضوية حيث اندست عناصر من الدهماء في صفوف الطلبة الأبرياء، كل هذا حولها إلى مظاهرات غلب عليها الشر، فكان ما كان... وبالطبع فإن هذا الطاغية لم يشر في خطابه إلى السيارات البريطانية المصفحة ولا إلى قوات الشرطة المصرية التي استخدمت الرصاص الحي ضد الشباب! وعلى أي حال فإن يوم 21 فبراير 1946 قد أصبح – فيما بعد – يوم الطلبة العالمي الذي تحتفل به جميع دول العالم، تقديرا لتضحيات الشباب وتذكيرا بالدماء الزكية التي أريقت خلال أحداث ذلك اليوم الدموي الرهيب.

هذا ما كان ... أما ما هو كائن حتى الآن فهو ما جرى ابتداء من يوم 25 يناير 2011 حيث قام شباب مصر ممن ضاقوا بالقهر والتنكيل بمظاهرات سلمية بكل معنى الكلمة ، ولم تكن تلك المظاهرات تطالب في البداية إلا بتحقيق الكرامة الإنسانية وتوفير سبل العيش الكريم، وبدلا من أن يستجيب النظام المتجمد الشائخ لتلك المطالب المشروعة والعادلة قام بإطلاق كلابه المسعورة على هؤلاء الشباب الذين يتحلون بالوعي الثوري الإنساني العميق، ويعرفون جيدا أن الحرية ليست عظمة من العظام التي تقدم للكلاب، وعلى الرغم من أن كثيرين منهم ربما لم يكونوا قد تذوقوا قصائد أمير الشعراء أحمد شوقي ولم يسمعوا أم كلثوم إلا لماما إلا أن وعيهم قد قادهم إلى ما تردده أم كلثوم من قول شوقي:

وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

بغباء لا يستحق غير الاحتقار أو الرثاء، تصور النظام غير المبارك (لا من الله ولا من التاريخ) أنه لا يواجه جيلا رائعا ليس بالمتخاذل أو المستكين المتواكل ، وإنما يواجه – شوية عيال - يمكن أن تفرقهم خراطيم المياه وقنابل الغاز المسيل للدموع، وهكذا تعامل هذا النظام معهم بكل ما يتمتع به من غباء ممزوج بالغرور والاستعلاء، كما ظل حزبه الوثني يتباهى بخراب وطني ، دون أن يرى كيف تشرق شمس التغيير من ميدان التحرير.

في محاولة مني لحل المشكلة ولفض الاشتباك، قلت لأصدقائي: لماذا لا تبادر حكومة الولايات المتحدة الأمريكية بإرسال طائراتها إلى مطارات مصر لنقل جميع أبناء الشعب المصري إلى جدة أو إلى سواها من المدن القريبة أو البعيدة، لكي يتسنى للنظام أن يتحكم في وطن بغير شعب، وقد رفض جميع أصدقائي ما قلته واعترضوا عليه جملة وتفصيلا، وقالوا لي إن من الأسهل نقل نظام غير مبارك إلى جدة أو سواها، بدلا من عناء نقل شعب بكامله خارج أرضه التي يضحي من أجلها على امتداد التاريخ.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى