الأحد ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم عماد الدين لعقاب

شمس الإنسانية

و بينما تغرب شمس الإنسانية، يبرز للعيان قمر أحمر ملطخ بدماء بشرية، فتخفت نجوم الحق و تغطيها سحب مجازر وحشية، ليعم العالم الظلام و تحصد آلة الحرب الإسرائيلية المزيد من الأنفس النقية، لتنساب من أرض الشام الزكية أنهار دماء بشرية، تنبع من سفوح لبنان الأبية، و تستقر بأرض فلسطين لتشكل بحيرة أشبه بطبرية.

تعج في أرض النبوات العديد من قصص الصمود الأسطورية، و يكتب شعبها الكثير من الحكايات البطولية، بينما تمطر أرضها بوابل قنابل تارة فسفورية و في أحيان أخرى عنقودية، تتواصل قصص الكفاح من جيل إلى جيل يرويها الشيوخ للصبيان موصينهم بمواصلة مواجهة العدوان، و تبدأ قصتنا من مدينة حيفا بتاريخ 1 ماي 1948 قبيل قيام دولة إسرائيل، أينما كانت فرق الموت من المليشيات الإسرائيلية و مصاصي الدماء من المستوطنين ينشئون بركا اصطناعية من دماء الأبرياء من دماء الأطفال و الشيوخ و العجائز و الرضع.

لكن قرية واحدة بقيت مستعصية عنيدة و هي قرية عين الغزال، و التي حاصرتها الهاجاناة لمدة أسبوع على الرغم من أن أغلب سكانها قد نزحوا و هربوا، لتضطر الفرقة إلى طلب الدعم من المليشيات الإسرائيلية الأخرى، و رغم ضراوة المعارك تمكنوا بعد عناء كبير من اقتحامها بعد توقف المقاومين عن المقاومة، ليقتحموا المدينة و يتفاجؤوا بأنها فارغة، و بعد تفتيش المدينة التي لم يجدوا بها أثرا لبشر، فبقي جامع القرية و حقل بقربه لم يفتشا بعد، اقتحمت إحدى الفرق الميدانية الجامع الذي تحصن فيه العم يونس و ابنه إلياس، و الذي كان مقاتلا واحدا ظنه الاحتلال جيشا، ليعثر على جثة شاب واحد و أي شاب إنه شاب بوزن جيوش صمد لوحده أسبوعا، و غير بعيد عنه شيخ كبير في السن لابد و أنه أبوه.

مات الابن و بقي الأب وحده يواجه ميليشيات تبحث عن الانتقام دون سبب، و لكن كيف بشخص مرغ كبرياءها المزعوم ليس في التراب بل في مياه المجاري، لقد رفض العم يونس مغادرة قريته و بقي بها وحده في جامعها بعد تخوف سكان القرية من مصير مشابه لمصير ساكنة دير ياسين، ليرفض ابنه إلياس بقاء أبيه وحده فجمع الذخائر كلها في مئذنة الجامع، و تكفل بالدفاع عن قرية بأكملها لوحده.

و بعدما فتش الجنود باقي القرية وجدوا العم يونس يحصد محصوله بمنجله، لم يأبه لوفاة ابنه و واصل محتسبا أمره لله و كأن شيئا لم يكن، حاول أحد جنود الفرقة إطلاق النار عليه، و لكن قائد الفرقة رفض و اقترب منه و نظر مباشرة في عينيه لمدة، ثم قام باستجوابه و تعذيبه و لكن العم يونس ظل صامدا شامخا يأبى أن ينكسر، وضع قائد الفرقة علم النجمة السداسية أمامه، و قال له: إن سجدت له سيطلق سراحك و يغدق عليك بالأموال، قام العم يونس و قال: أهذا كل ما في الأمر و بصق على كل رؤوس النجمة و رفس العلم برجله.

جن جنون قائد الفرقة و قال: لن أقتلك و لكنك ستحمل هذه النجمة في جسدك باقي حياتك، و جاء بخنجر و رسم النجمة السداسية على ذراع العم يونس، ابتسم العم يونس و نظر في عيني قائد الفرقة متحديا له، و الذي كان يحمل وحمة في جفن أحد عينيه، و قال: سيموت الطغاة و يصمد التقاة و يبقى اثر النقاة، ستعرف الأرض أبناءها و تطرد غرباءها، ثم حمل منجلا و قطع ذراعه، دهش الجميع لكن رئيس الفرقة كان خبيثا فقام بتسخين أداة على شكل نجمة سداسية، و وسم بها جبهة العم يونس و صدره، و قال: إن شئت فاقطع رأسك أو اطعن قلبك
ثم ترك العم يونس لحال سبيله يجر خيبة ما بعدها خيبة و حزن ما بعده حزن على ما فات و على ما هو آت.

لقد كان كعصفور قطعت جناحاه و نبتة اجتثت جذورها، ليخرج العم يونس من قريته يحمل مفتاح بيته و بيت أجداده حزينا، ثم تغرب العم في البلدان العربية من بلد إلى بلد و استقر به الحال في لبنان، و أنجب أطفالا و لكنه كان يحن دوما للوطن و العودة لبيته حيث اشتاق لهواء حيفا و تراب حيفا و أشجار حيفا و ثمار حيفا، كما كان دائما ما يحكي لأبنائه عن أهوال الاحتلال و جرائم العدوان.

كبر الأولاد و تشبعوا بالمبادئ الوطنية، و بدؤوا يحلمون بالثأر و استرجاع الأرض، فبدؤوا ينشطون جهاديا و ينسقون مع بعض المجاهدين من مختلف الجنسيات الإسلامية من بوسنيين و شيشانيين و جزائريين و سعوديين و عراقيين و سوريين و لبنانيين و باقي البلدان العربية و الإسلامية، و الذين حفروا أنفاقا عديدة تمتد حتى إلى فلسطين، و قاموا بتموين و تمويل الثوار بالنفس و النفيس.

و في يوم من الأيام وقع العم يونس طريح الفراش و ظنه الأجل، جمع أبناءه و اخبرهم بأن عليه العودة لحيفا، حاول أبناءه ثنيه عن ذلك و اعتبروا الأمر بمثابة مخاطرة و انتحار، ليخبرهم بأنه إن لم يدخلوه سيدخل بنفسه و أنه سيذهب لحيفا لابسا كفنه تحت عباءته و كوفيته، فاستسلم الأبناء لرأيه و اضطروا لتهريبه عبر الأنفاق لفلسطين، و صحبه أكبر أبناءه محمد، و لما اقتربا من حيفا عاد محمد و بقي العم يونس هناك عند أحد أقاربه ينتظر اجله، بينما قبض على محمد نتيجة وشاية أحدهم.

و بعدها بأيام انطلق العدوان الإسرائيلي على غزة و من بعده على لبنان، ليجد الأشقاء أنفسهم مجددا في مواجهة مباشرة مع العدوان الإسرائيلي، ليتذكروا كل ما حكاه أبوهم لهم من تعذيب، و حتى إن سكت العم يونس فلن تسكت آثار حروقه في جبهته و صدره، و الذي حاول جاهدا طمسها و إخفاءها عن أبنائه، واجه الأبناء العدوان الإسرائيلي و سقط الكثير منهم شهداء، و منهم من علق في فلسطين لتهدم اغلب الأنفاق، فالتحقوا بالجهاديين من الجانبين و عملوا على مقاومة الاحتلال و التهجير، خصوصا و أنهم يحتفظون بمفتاح منزلهم منذ عقود، فزاد ذلك من إصرار سكان فلسطين على الموت في أرضهم و رفض أي تهجير أو تطبيع أو تسوية.

وصلت أنباء استشهاد العديد من أبناءه لمسامع العم يونس فرثاهم و فرح و تفاخر أمام قومه، و كأن كل قتيل أو شهيد من أبناءه هو وسام شرف أو لقب نبيل له، و كأنهم نياشين تزين صدره أو نجوم تنير عتمته، و ذهب و هو في غاية الفرح، و اتكأ تحت شجرة الزيتون قائلا: كل فداؤك يا فلسطين نحن لسنا بأحسن ممن مات فيك و من أجلك، و ذكر جدهم السابع الذي كسرت سبع سيوف في يده و هو يدافع عن أرضه أمام الغزاة، لقد مات الأجداد و تبعهم الأحفاد، ثم امسك بكوفيته في يد و بأوراق الزيتون في يد ثم تشهد و مات.

لقد مات العم يونس و لكن الأمل بحرية فلسطين لم يمت، و بقي من بقي من أبناءه على عهدهم معه محاربين في سبيل العزة و الشرف تحت الأنفاق و بين الشجر و خلف الحجر، يقاومون المعتدين و الغاصبين و عديمي الضمير، بدأت عائلة العم يونس تتلاشى شيئا فشيئا و تضمحل من الوجود، و لكن شرفها و مكانتها بين الفلسطينيين ينمو و يكبر و يقترب من البطولة و يلامس الأسطورة، و لم يبقى إلا أصغر أبناءه عماد و الذي كان يشعر بالعار يعتريه و يغمره، و دوما ما يشعر بالنقص فكل إخوته بين السجون و القبور و هو عاجز عن أن يكون بينهم من الحضور.

و في أحد الأيام و بينما اشتد العدوان الإسرائيلي على المنطقة و أسرف في تقديم قرابينه البشرية للصهيونية و البربرية و الهمجية و اللاإنسانية، ختم عماد القرآن و تكفن كأبيه و حمل رشاشه مدججا نفسه بالذخائر و القنابل، و حمل نفسه متجها صوب دورية للاحتلال يردد آيات قرآنية تتمحور حول الجهاد و الجنة و النصر و الحور العين حاملا رشاشه، و يمطرهم بوابل من الرصاص، فسقط عديد الجنود قتلى.

ليحاصره الاحتلال و يصاب إصابات بليغة في جسده، و أصبح غير قادر على التحرك، لقد كان أشبه بأسد جريح بين كتيبة ضباع، و عقاب مكسور الجناح وسط الغربان، تقدم بغرور قائد الكتيبة و الذي كان كبيرا في سن و يضع نظارات شمسية، ثم وقف أمام عماد بعدما داس على يده و ركل رشاشه، و امسكه من شعره مقتربا من وجهه، ثم خلع نظاراته و ما إن خلعها حتى رأى عماد وحمة دائرية على جفنه.

تدفق الأدرينالين في عروقه إنه نفس القائد الذي وسم أباه في جبهته و صدره، و قال القائد و هو يسحب شعره: ستتمنى الموت و لن تجده، ستحلم بالمشنقة و لن تعثر عليها، و تتخيل المقصلة و لن تتذكرها، ستتلاشى و تندثر و تتآكل قبل أن تموت، سأقتلك من الداخل و أتركك حيا من الخارج تتعفن، بصق عماد على وجهه و نطق الشهادتين ثم فتح عبوته الناسفة.

لقد انتظر اقتراب جميع عناصر الدورية منه متحملا الإهانات لأنه كان يرغب في أن تعلق جميع الفئران في المصيدة، و كان له ذلك، لقد قتل جميع عناصر الدورية، ليكبر الرجال و تزغرد النسوة و تختلط دموع الفرح بالحزن، و الأسى بالفخر و الفقد بالنصر، ليقرر سكان المنطقة تسمية جميع المواليد باسم عماد و إخوته.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى