

خيمة و وطن
كيفَ تواجهُ الأجساد الطريّة دبابات الميركافا وطائرات ال!!F16
في غزّة أجسادُ الأطفال تستطيع فعل ذلك. إنّهُ العيد يمرُّ بغزة مجدداً كما مرَّ رمضان والعام الدّراسيّ والشّتاء والصيف والشتاء مرة أخرى. إلا أنّ العيد يبقى عيداً بالنسبة للأطفال؛ بحرب أو بغير حرب، بأيادٍ يصفقون بها أو من دون، بأرجل يقفون عليها أولا يهم. وهذه قصة آية وعبود وجميع أطفال غزة.
آية "أرجوك ماما اسمحي لنا بالنزول للعب، اليوم عيد ويوجد أرجوحة وستبقى عيوني على عبود"
الأم أسماء " الله يرضى عليكم يا ماما الطائرة في سمائنا منذ الصباح، وأنا خائفة جداً عليكم"
عبود "ماما الارجوحة بجانب البحر، لا يستطيعون قصف البحر وستبقى عيوني على آية"
آية "انا الكبيرة أنا من يحميك يا عبود"
"ابقوا بجانب البحر ماما"
عبود "سنخبر رنيم لتأتي وتلعب معنا"
آية "رنيم كبيرة يا عبود( ترفع آية أصابعها في إشارة إلى أن رنيم عمرها 16) ولا تحب ان تلعب بالأجوحة"
عبود " لكنها وعدتني أن تلعب معنا"
أسماء" أخبروها ماما وقولوا لها أن ترجع معكم وتنام معنا في الدار، لا أحد يستحق أن ينام في خيمة"
تنزلُ آية بصحبة أخيها من العمارة الوحيدة الصامدة المطلة على شاطئ غزة، تصحبهما أيضاً عينا أمهما التي لطالما حلمت بأن يكونا أفضل الأطفال في العالم، لكن في موقعنا هذا من الكرة الأرضيّة يعتبر هذا الحلم تجاوز لما هو مسموح. اشترت أسماء العالم الماضي أغراض المدرسة لطفليها، سجّلتهما بأحسن المدارس، تقيمُ لهما أجمل أعياد الميلاد، تأخذهما إلى المروج الخضراء المطلة على بحر غزة، تقرأُ لهما القصص قبل النوم وتغطيهما بشغاف قلبها راسمةً الكثير من القبل على خدودهما الورديّة. إنهما الحياة التي لطالما حلمت بها.
لكن يوجد كيان له رأي آخر بهذا الخصوص. تدفنُ أغراض المدرسة وحتى المدرسة نفسها، قالب الكيك، المروج الخضراء، القصص، القبل والحياة تحت الأنقاض. شيء وحيد لم تستطع الصواريخ دفنه(بحر غزة).
يمران بجانب خيمة رنيم الشبه واقفة، الشبه صامدة، الشبه بيضاء بسبب أمطار الليلة الماضية.
عبود "هيا رنيم الا تريدين اللعب معنا لقد وعدتيني"
آية "وسوف تنامين معنا في البيت اليوم، دعِ الخيمة تغرق انسها"
رنيم "أكيد يا عبود سوف آتي، لكنني أكتب شيئاً وسوف ألحق بكم، وعد"
رنيم التي ما زالت تكتب منذ أن غرقت خيمتها بسبب أمطار ليلة الأمس
"الشّتاء هذا الفصل الكئيب، الكئيب جداً الذي يشبه أي شيء باستثناء كوب شاي دافئ أمام الموقدة أو كتاب أقلّبُ صفحاته أمام نافذتي أراقبُ حبّات المطر المتساقطة، يشبُه أي شيء ما عدا حبات الكستناء التي تشوى بعناية على الموقدة وحبات الكرمنتينا التي تفوح رائحتها في غرفة يملؤها الحب، يشبه أي شيء ما عدا كنزة صوفية ذات ألوان زاهية خيطت بأنامل الحب وبكل تفاني، إنه لا يشبه أبداً واجب اللغة العربيّة عن فصل الشتاء الذي اعتدنا أن نكتبه بجانب صوبية المازوت وتلفاز الغرفة ضُبطَ صوته بدقة على نشرة الأخبار وماما تقشّر الفول السوداني وأختي تمسّدُ قطتها التي تغفو في حضنها الدافئ. الشتاء لا يشبه حتى رجل الثلج الذي نصنعه بأيدينا المغطاة بكفوف صوفية، فالكل هنا رجل ثلج وامرأة ثلج وطفل ثلج وشيخ ثلج وبقي أن نضعَ جزرة على أنوفنا الحمراء المتخشبة من شدة البرد. حتى أنه لا يرقى لأن يشبه شوربة العدس التي تعدها ماما؛ شوربة العدس أطيب بكثير وأحن بكثير من قسوته التي لا ترحم، لا يشبه أبداً الماء الساخن الذي ينزل من الحنفية في منتصف كانون الثاني، وهو أبعد ما يكون عن حضن أبي العائد من عمله، وقصصه قبيحة مرعبة لا تشبه قصص تيتة وحولها أحفادها بعيونهم الناعسة تحت ضوء باهت ووهج مدفأة لن تستريح قبل أن تجعلهم يغفون. كم هو بعيد هذا الشتاء عم حمام الشتاء الماضي، حين أخرجُ بشعري المبلول وجسدي الراجف فامرُّ وسط ديار بيتنا العربي أقطعُ البحرة وشجرة الليمون لكن سرعان ما تستقبلني آلاف النعيماً من عائلتي ومدفأة في وسط الغرفة فيسكن جسدي ولا تعود أطراف الخصلات المبلولة لإزعاجي. لا يشبه أبداً طعم البطاطا الحلوة وفطاير السبانخ وسندويشة الزيت والزعتر. ولم يرَ هذا الشتاء القاسي يدا حبيبين تشابكتا تحت المطر حتى أنه لا يعرف كلمة أحبك التي قيلت على عجل وهما يركضان ولا تلك القبلة النديّة. لا يشبه قطع الثياب الناشفة ذات الرائحة العطرة المبعثرة بجانب المدفأة، بل إنّ هذا الشتاء مبلول، مبلول بكل أنواع الخذلان والقسوة والخطيئة والقبح والذنوب والأوساخ والدماء والقتل والخيم والطين والجوع والمرض والكره والفقدان والدموع. لا يشبه الشتاء إلا شيء واحد الخيمة
الشتاء في بلدي خيمة".
وفي مدينة سوّيت بالأرض خالية من الحياة. كان هناك شيء ينبض إنها قلوب الأطفال المتلهفة للعيد. وها هو الصباح يأتي بتكبيرات تعلن عن بدأ صلاة العيد وصلوات لجنازات لا تنتهي...
الأرجوحة الصدأة ذات اللون الأزرق كلون البحر تنتظرهم على الشاطئ. بدأ الأطفال بالارتفاع والهبوط كذلك نبضات قلوبهم. هذه النبضات التي تحبُّ الحياة أقوى مؤشر على وجود خطر، يبدو أن قوتها مستهدفة أثارت غضب الطائرة التي أنزلت عليهم صاروخاً، تحوّل لون السماء إلى الأسود، هبّت رياح قوية وصوتٌ أقوى أحاط المكان. انفجرت الأرجوحة بقوة هائلة، تناثرت شظاياها في كل اتجاه، ارتفعت قلوب الأطفال ولم تهبط من جديد. ضربة أعلنت نهاية اللعبة.
لم تخف أسماء يوماً من هذا البحر، لطالما تركت أطفالها على الشاطئ ينعمون برمالهِ وبرودة أطرافه التي تدغدغ قدميهما، لكن صاروخ غادر على رمال ناعمة وبيضاء كالسكر أخذ قلبيهما وأرجوحة العيد او هكذا تمنت أسماء أن يكون الأمر!!!
وليس لأنهما بقيا تسعة وعشرون يوماً تحت أنقاض المنزل.
الحقيقة هي أنها لم تسمح لهم بالنزول، أبقتهم بالمنزل وخرجت هي لتعاين الأرجوحة وتبحث عن القليل من الأمان لتسمح لهم بالنزول. فشاء القدر أن تبقى هي وأرجوحة صدأة كقلبها
قلبها الذي يتساءل دائماً" أعلمُ يا طفلي أنكما ارتفعتما إلى مكان جميل مليء بالضوء والسلام. أعرفُ أنه ليس هناك ألم ولا حزن ولا بكاء ولا حتى خيم، صدقت رنيم وعدها لك يا عبود وآية هي معكما الآن وقد تخلصت من خيمتها للأبد. الكثير من القصص والألعاب والطعام والهدايا والقبلات والدفء. حتى أنني على علم أنكما التقيتما جديكما هناك والكثير من أقاربنا لكن ليس أسماء ليس أنا ليس أمكما. والشيء الوحيد الذي لا أعلمه هل الانتظار صعب هناك ام هنا؟ هل من ينتظر بلهفة أم من ينتظر بألم لذة اللقاء؟
من اصعب أن تنظر من السماء أم من الأرض؟
لكنهما يرسلان لها القبل مع كل نسمة هواء، يمشيان معها مع كل فراشة تقترب منها، يطبطبان على جراحها وآلامها مع كل رسالة تشعر أنها تأتيها من الله، يضيئان قلبها مع كل شمس وقمر ونجمة، يضحكان معها مع كل زقزقة عصفور، يلعبان معها مع كل مد وجزر لشاطئ غزة ويبشّرانها مع كل دمعة
أننا أخبرنا الله يا ماما كيف أبادوا الشجر والحجر والعصافير والقطط والناس والرمال والبحر لقد قتلوا غزة
لكن نحن هنا ماما لم نمت. لا تفكري بالوجع والألم فالأنقاض لم تمنع أرواحنا من التحليق إلى أرجوحة أجمل نصبت لنا في السماء
شكراً لأنك سمحت لنا بالذهاب لما هو أجمل، شكراً لأنك رضيت.
وستبقى أرواحنا تحلّق فوق سماء غزة يا أمنا. نحنُ نشكّل درعاً لحمايتكم ولقد اقتربنا من انجاز مهمتنا. جميع الأطفال هنا يمتلكون قوى خارقة كالقصص التي كنت ترويها لنا، لكن القصص حقيقة هنا تماما كحقيقة وجودنا.
لن يكون هناك صواريخ ولا طائرات تزنُّ فوق آذانكم ولا دبابات تدنّسُ رمالكم ولا بوارج تغزو بحاركم ولا رصاص يخترق صدوركم ولا جدار يخنقكم.
نحن أبطالكم الخارقين يا أمي...
هنا وفقط هنا تفوز الأجساد الطريّة واللذيذة كعجينة السكر والطازجة التي خرجت لتوّها من الأرحام على دبابات الميركافا والطائرات والمسيّرات والقنابل والمدرعات
هنا وفقط هنا ستكون كل الحياة، سنعود وستنتزعُ جميع الخيم.