

حين ينطق التجريد بلغة الإنسان

في فضاء الفن المعاصر، حيث تتلاقى المدارس وتتقاطع الرؤى، يطل علينا الفنان المغربي أحمد الهواري بفرشاته التي تجيد لغة السريالية والتكعيبية معا، ليمنح لوحاته عمقا دلاليا يفتح أبواب التأويل ويحفز التأمل.
لوحته الأخيرة المعنونة بـ"المصدر" ليست مجرد تكوين بصري مدهش، بل هي تصور فلسفي بصري لفكرة الحياة والانبعاث والخلق، تُمثل امرأة جالسة، تحمل في يدها اليمنى ثلاث أوراق، كل واحدة منها بلون: الأحمر، الأصفر، والأزرق، وهي ليست مجرد ألوان عشوائية، بل هي الألوان الأولية التي تُشكل منبع كل أطياف اللون في اللوحة، بل وفي العالم البصري كله، في اليد الأخرى، تتجلى الألوان الثانوية المستخلصة من تلك الورقات، كرمز مباشر إلى التوالد، الامتداد، والخلق.
المرأة هنا ليست شخصية عادية، بل رمز كوني للأصل، للخصوبة، للمنبع الذي تتفرع منه كل التفاصيل، هي "المصدر" الذي يشتق منه الفنان عالمه اللوني، كما يُشتق من المرأة في الحياة الواقعية كل ما هو نابض، جميل، ومثمر.
الهواري يُخضع الشكل لتجربة مزدوجة تجمع بين تفكيك الواقع (التكعيبية) وإعادة تركيبه بمنطق الحلم والرمز (السريالية). فجسد المرأة لا يُرسم على نحو تقليدي، بل يُبنى من كتل هندسية وتداخلات لونية، ويعكس رؤية تتجاوز الجسد إلى المعنى، الخطوط المنحنية، الفراغات البيضاء، ومناطق اللون الصافي ليست مجرد عناصر تصميمية، بل أدوات تفكير تعبيري تسائلنا وتفتحنا على مستويات جديدة من الفهم.
في هذه اللوحة، يُعلن الهواري انحيازه الجمالي والإنساني للمرأة، لا ككائن بيولوجي، بل ككيان رمزي يمتلك طاقة الخلق والتحول والإلهام، ومن هنا يصبح الفن نفسه انعكاسا لفلسفة ترى في المرأة مصدرا للكون، للهوية، وللحب والأمل.
وإن كان الهواري قد اختار الاشتغال على المدرسة السريالية، فهو لا يستنسخ رموزها بقدر ما يُعيد تشكيلها بأسلوبه الخاص، حيث يتلاقى الوعي البصري مع البعد الرمزي، والنتيجة: لوحات تتحدث، لا فقط عن الشكل، بل عن الوجود.

في زمن يغرق في الاستهلاك البصري، يصر الفنان المتألق أحمد الهواري على تقديم فن صادق، متأمل، يخاطب الروح قبل العين، ويعيد الاعتبار لما هو إنساني وعميق في التعبير التشكيلي، وبهذا، يثبت مرة أخرى أن الفن لا يجب أن يكون مجرد انعكاس للعالم، بل قادر على إعادة صياغته من جديد.
جدير بالذكر، أن الفنان أحمد الهواري فنان تشكيلي مغربي معاصر، من مواليد سنة 1974 بمدينة أكادير، تخرّج من معهد متخصص في الفنون التشكيلية، وشارك في عدد من المعارض الفردية والجماعية داخل المغرب وخارجه، يتميّز بأسلوبه الخاص الذي يمزج بين التكعيب والتجريد، ويعالج في أعماله موضوعات متعددة أبرزها المرأة والهوية والذاكرة، تعتمد لوحاته على تركيبات لونية جريئة وخطوط هندسية دقيقة تعبر عن عمق وجداني وفلسفي، ما يجعل أعماله محط إعجاب ونقاش في الأوساط الفنية الوطنية والدولية.