

حينَ يأتي الموت
حينَ يأتي الموتُسأبصقُ في وجهِ الحياةِ؛أقنعُ نفسي أنَّ الدُنيا بائسةٌ،والناسَ كلَّ الناس ديدانٌ صفراء.حين يأتي الموتسأزرع الغروب في حديقة الوداع؛أعلنُ هزيمةَ الإنسانوألقي فلسطينَفي دفتر الغياب.حين يأتي الموتسأرمي زهرةَ الخلودفي وجه جلجامشوأهزأُمن نصائح الأطباء.حين يأتي الموتلن أساومَهلِيُحرِّضَ المُقرَّبينعلى حفلات النواحْ؛... كُلَّما كان عددُ المشيعين أقلّكان ضميري أكثرَ بياضاً،وكلَّما كانت الدموع أقلّكانت أخطائي أجمل.لينصرفِ المُعَزّونقبل تدشين البياض..لينصرفوا؛ليست لي حاجةٌ إلى مديح ناقص،ليستْ حسناتي مشجباً للنفاق،لينصرفِ الأوغادُ؛ما نفعُ الزَفَرات لأطباق السماوات؟لينصرفِ المحسنونَطيبو القلب،مخلصو النوايا.ماضيَّحاضريوغدي ماتولستُ حريصاً على فرصةٍ للنجاة.حين يأتي الموتلن أعتذر للريح التي تَنفستُهاولا للخيطان التي لامَسَتْ جسدي،لن أعتذر للماء الذي شَربتُولا للوهم الذي تلبسنيأو توهمت،ولا للبلاد التي ظلت عالقةً في ظهري كالسلحفاة..لن أعتذر لأحدٍأو بلد.ربما أُحرِّرُ روحي من فساد الكون،أسرد لِذاتي طِيبَتي الكاملةَوأناقةَ الربيع في كتاب الصيف؛ربما ألمسُ وجه أمي بيدين نظيفتين،أسمع سعالَ أبيأشمُّ رائحةَ صدره بلا معجزات.حين يأتي الموتسأقطعُ المسافةَ بين الحياة والموتِبرجفةٍ شبقيةٍ عابرةْ،تماماً، كما حدثت تلك الشهقة المدوية،في المرة الأولى،على رَدْفَيِ الأرضِ العذراءْ.جبالٌ لا تلهيها صلاةٌولا أدعيةٌ عن مُناداتيتموتُ معي؛تمشي في جنازتي،بكامل العنفوان تُحيي حفلَ الختام.حين يأتي الموتسأهربُ إلى حضن أميووجهها الناعم؛إلى يديها الرقيقتينونظرتها الغريبة،سأحملُ لها سريرتي الكاملةَ،أعترفُ لها بهفواتي العديدة؛بعجزي عن تحرير رقبتي من دنسِ الشهوات؛بغفلتي السابقة عن مصادفةِ الحكمة؛بطيبة التين والزيتون؛باضطراب الذاكرة؛بموت الناس، جميعاً،عند انحسار النعمة.لن أصرخَ نادماً على مسقط رأسي،لن أموتَ حزيناً لأني لن أدفن في طين بلادي،لديّ من الخيالما يجعلني أضمُّ ترابَ العالم بين يديّ.في كلِّ ذرة من الكونجسدي هناك،لن أموتَ غريباً في أي مكان،لدي في كل مربعٍ جثةٌ كاملة.أسمعُ دبيبَ الخوفيسري في أوصال الكائنات.لن أصرخَ مرتعداً،لستُ شجاعاً أكثرَ منيولستُ جباناً لأهرول خلف قطار الفرصة الضائعة،لا أملكُ طاقةً على الهروب من اللُعبة.أضحكُ بملء شدقيَّ،أضحك ـ إن أسعفني فكّايَ ـعلى الذين يبكون من الموتيحسبونه عدوهم الوحيدَ،بينما تناسَوا أنَّ الزواللغةٌ فيزيائية قديمة؛تناسَوا أنَّ الموت لم يأتهم من الغيبولا من ربَّات الجحيم،بل من تعلقهم بالحياة،ومن أجسادهم المعطوبة.اكتملتْ رحلة الأسى،انكسرتُ بكلِّ بطولتي،بكاملِ شجاعتي،بملءِ إرادتي،وفي كل معاركي الوجودية والحياتية انهزمتُ،وتلكَ كانت فضيلتي.كلَّما كان عدد المشيعين أقلَّكانت حريتي كاملة.إيماني بالله حَمَلني بخفةِ الملائكة،لست في حاجة إلى الملقن والمقرئ؛لست في حاجة إلى المراثي والنواح،فلستُ ذاهباً إلى حفلة خداع هناك؛إننيعائدٌمنيللأزل.
* إحدى قصائد المجموعة الشعرية (موتى يجرون السماء) والتي ستصدر قريبا عن دار أرابيسك في القاهرة.