الأحد ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم عمرو محمد مجدي البيومي

حدث في اليومِ السَّابع

«لا أنسى ما حييت يوم السَّابع من أكتوبر من عام 2023»

لا أتذكَّر أنّي أمسكتُ قلمًا قبل ذلك وكتبتُ أي شيءٍ جال في خاطري ذات يوم ما، مثل قصَّة قصيرة، أو بيت من الشعر أنثال عليَّ فجأة، أو حتَّى بضع أسطر في صورة مذكرات شخصيَّة، لكنَّ ما وقع لي وبعدما خضت غمار هذه التّجربة؛ وجدت نفسي مدفوعًا حقًّا إلى الكتابة عن هذه الظروف أو من الأخلق القول الحدث الاستثنائيّ فقط لمن يهمه الأمر.

دعوني في البداية أعرفكم بنفسي، اسمي موشى..موشى عاميير ساجات، شاب إسرائيلي، كنتُ أعيش حياتي بالطُّول والعرض مثل أي شاب في فئتي العمرية، ليس لي اهتمامات تذكر بالسياسة، تنحصر حياتي في العمل صباحًا واللهو في المسَاء مع شلة الأصدقاء، حتَّى حدث ما حدث في السَّابع من أكتوبر، فغير من نظرتي للحياة عمومًا ولدولتي بصفة خاصة.
ففي هذا اليوم كنتُ في حفل راقص مع ثلَّة من أصدقائي حينما بزغ بغتة مقاتلو «حماس» حولنا من كل جانب وكأنَّما أنشقت الأرض عنهم، هيمن عليَّ رعب بغير حدود وأيقنت أنَّها النهاية الوشيكة، حاولت الفرار للنجاة بحياتنا غير أن رجال «حماس» كانوا أسرع منا، فقاموا بتطويقنا بإحكام وتكبيل أيادينا، قبلما نغادر المستوطنة في سيارة دفع رباعي إلى قطاع غزة.

لا أعلم كم لبثت فاقدًا للوعي، ربما ساعة أو ساعتين على الأكثر حسب تقديري، حينما ارتد إليّ وعي وجدت نفسي في حجرة موصدة، بابها ذو قضبان حديديَّة غليظة، حجرة لا بشديدة السعة ولا بشديدة الضيق، شبه معتمة إلَّا من إضاءةٍ بسيطةٍ تشع من مصباح في كوَّة بالجدار، وبينما كان الخوف يصرعني والهواجس المرعبة تطوف بخيالي وقد انكمشت في زاوية الحجرة؛ وجدت هذا المقاتل الملثَّم مديد القامة من حركة «حماس» يدخل عليَّ الحجرة، وهو يحمل بين يديه لفافة، وكان أوَّل ما فعله أن ألقى عليَّ السَّلام بالعبرية، ثمَّ طفق يهدأ من روعي ويبث الطمأنينة في ربوع قلبي المذعور قائلًا بأنَّني ها هنا مجرد ضيف في أمان الله لبعض الوقت، وأنَّهُ لن يمسسني بسوءٍ هذا في حال عدم افتعالي أي مشاكلٍ. وبينما كُنتُ في حالة دهشة عارمة وقد تبلبل فكري ولم أتجرد من ذعري بعد؛ وجدته يضع اللفافة أمامي قبلما ينصرف ويغلق الباب خلفه في هدوءٍ دون كلام، اقتربت من اللفافة في حذر، فتحتها فوجدت بها أطعمة وفواكه وقنينة ماء، أكلت وشربت بنهم، لم أشعر بنفسي إلَّا وقد سقط جسدي في نوم عميق من شدة التعب والإرهاق.

مرت عدة ساعات عليَّ قبلما أستيقظ من نومي وقد تملَّكني القلق والذُّعر من المجهول الذي ينتظرني في هذا المكان، لم يمضِ وقت طويل حتَّى وجدت الملثم يفتح الباب، ويدلف إلى الحجرة بخطى واثقة، بادرته بالكلام عندما سألته بتوجس:«أين أنا؟ ومن أنت؟ ولم قمت بخطفي؟ وهل زملائي بخير؟» كان عاقدًا ساعديه أمام صدره، وقد تسمَّرت عيناهُ اللَّتان تشعان قُوَّة وبأسٍ عليّ، وجدته بعدما لاذ بالصمتِ لثوانٍ يقول لي بهدوءٍ لا يناسب المقام:«أنت هنا في غزة.. غزة الأبية القطعة الحرة من أرضنا الفلسطينية، أمَّا بالنسبة لي فيمكنك أن تناديني أبا خالد، ولقد قمنا باختطافكم لأننا نريد شيئًا أو طلبًا ما من حكومة كيانك الصهيوني المغتصب، وكذا ردًا على جرائمكم المتواصلة ضد شعبنا، واطمئن..جميع زملائك بخير»

سألته في حيرة:

 شيئًا ما تريدونه من حكومتي؟ ما هذا الشيء؟ وماذا سيحدث لي إن لم تعطِ حكومتي لكم هذا الشيء أو الطلب؟
أجابني في هدوءٍ: «دع كل شيءٍ إلى وقته!»

ولم يكَد ينتهي من آخر حروف كلماته حتَّى غادر الحجرة في هدوءٍ، وقد تركني وقتذاك فريسة لأفكار وتخيلات سوداء جعلت الرُّعب يستبد بي ويحكم سيطرته عليَّ.

ثُمَّ تلاحقت الأيَّام والأسابيع والشُّهور وكُنتُ لا أزال قابعًا في حجرتي يعتصرني الذعر والقلق والارتباك مع كل يوم يمر عليَّ كأنَّهُ دهر، وأنا لا أدري متى تنتهي هذه المأساة وتنفرج الأزمة؟ وما الذي يواريه المجهول عني.

في هذه الأثناء توطدت علاقتي بأبا خالد شيئًا فشيئًا واعتدت على وجوده معي وآمنت بأنَّهُ سجاني وأنا سجينه إلى حين لا يعلمه سوى الله، كنتُ أراه يوميًّا ما بين خمس أو سبع مرات ولدقائق معدودات بالكاد، أتاحت لي إنسانيته السمحة وعنايته الفائقة بي، وخلقه القويم الذي تبدى لي جليًّا في الكثير من الأحاديث الجانبية القصيرة؛ أن أعرف الكثير عما يدور خارج هذه الحجرة الموجودة في نفق أسفل الأرض بعشرات الأمتار، عرفت أنّني أسير هنا بسبب عملية قامت بها حركة حماس اسمها «طوفان الأقصى» هدفها استعادة الألاف من الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، ويظل هدفها الرئيس هو الرد على جرائم بلدي -كما قال لي- ضدَّ الشعب الفلسطينيّ الأعزل، كما أسرد لي الفظائع التي تقوم بها قوات بلدي في غزة من عمليات قتل وإبادة وتجويع بصورةٍ يوميةٍ، دون أن يحرك العالم ساكنًا، وينقذ غزة وشعبها من براثن هذه العصابة الإجرامية حسبما قال لي.

وقد أدهشني وظل ناشبًا في خيالي مشهد أبا خالد في هذا اليوم وهو يقدم لي وجبة الطعام اليوميّ المعتادة، حينها استرعى انتباهي معاناته من عرج في طريقة مشيه، فسألته عن السبب في دهشة، فقال لي بتلقائية أنَّهُ خرج مع زملائه المقاتلين قبل عدة ساعات لتنفيذ مهمة انتقامية ضد رهط من الجنود الإسرائليين بخان يونس، وقد نجحوا في إبادتهم جميعًا؛ لكنَّهُ خرج بهذه الإصابة في قدمه، والتي يعتبرها ضريبة بسيطة في طريق النضال ومقاومة المحتل المجرم.
وأتذكَّر جيّدًا هذا اليوم الذي زلزلت فيه أركان الحجرة التي أقطنها، تحت وطأة انفجارٍ كبيرٍ حدث بالأعلى، ووقتما سألته عن سببه في انذعار ملأ جوانحي؛ أجابني بمزيجٍ من غضب هادر وأسف بليغ أن طائرات بلدي المقاتلة تنفذ غارات عنيفة انتقامية إجرامية دون هدف معين، فصارت تقصف كامل مدينة غزة من الشمال إلى الجنوب بعشوائيةٍ دون أن تفرق بين مستشفى أو مسجد أو مبنى سكني يكتظ بالمدنيين، مما أوقع مئات وآلاف من الضحايا الأبرياء أغلبهم من الأطفال، ثُمَّ وجدته يقول بلهجة ساخرة أن بضع أسرى إسرائيليين بالأنفاق لقوا حتفهم جراء هذه الغارات المروعة.

ساد الصمت بيننا للحظات، ارتفع رجيف قلبي، هالني ما قاله في الأخير، ويلي..! لم أستطع وقتها أن أتخيل نفسي مدفونًا تحت ركام هذا النفق بسبب قنبلة أو صاروخٍ موجه يطلقه طيار إسرائيليّ مجرم سادي مجنون متعطش للدّماء. يمكنني القول إن إجابته الصادمة لي وخوفي على حياتي، وقبل ذلك كله العلاقة الحسنى التي امتدت بيني وبينه لشهورٍ متواصلةٍ، قد دفعتني كي أسئلة بحذر عن جدوى المقاومة والصمود أمام قوى عسكريَّة عظمى مثل إسرائيل! سألته في بساطة أو حريًّا بي القول سذاجة تنم عن جهلي بعقيدة هذا الطراز من المقاومين الأبطال، وجدت أبا خالد يتحدَّث قائلًا بصوته الرخيم المئتد، وقد شد من قامته باعتدال:«إن المقاومة مسألة مبدأ وعقيدة وفرض وليس لها علاقة بموازين القُوَّة التي تتحدَّث عنها، المقاومة ببساطة رمز الصمود والإرادة الصُلبة في مواجهة المحتل الصهيوني المجرم وخططه للتهجير، ما يملكه زملائي المقاتلون المقاومون في الحركة وما يفتقد اليه الآخرون هو العزيمة والارادة والإيمان القُح بعدالة قضيتهم، ورفض كل أنواع المساومة على حقوقهم في تحرير فلسطين كاملة من البحر إلى النَّهر، وعدم التفريط في أي شبر من ترابها المقدس. المقاومة شرف إن كنتُ لا تعرف ذلك، وهي عقيدتي ومنهجي أمس واليوم وغدًا، والعقيدة الحق لا تموت أبدًا مهما طال الزَّمان»

وأعقب أبا خالد كلماته بمغادرة الحجرة دون كلام بخُطاه الواثقة وهامته المرفوعة في كبرياء، فعدت إلى الانكماش في زاوية حجرتي، وكلمات الملثم القويَّة الرنانة تدور في ذهني مثل الشَّمس حول الأرض. أيقنت وقتها إن أي عمليَّةٍ عسكريَّةٍ مهما بلغت قوتها، وأية مخططاتٍ يجرى الإعداد لها؛ لن تجدي نفعًا مع هذا الطراز من الرّجال، ممن قُدَّت قلوبهم من شجاعةٍ وبأسٍ ولديهم إيمان مترسخٌ بعدالة قضيتهم.

وأسفر النُّور أخيرًا، وبعد أيَّام كثيرة لم أحصها بالضبط.

أجل بعد أكثر من عامٍ كُتب عليَّ الخروج مع آخرين من سجني تحت الأرض، عن طريق صفقة تبادل أسرى وقعت بين الطرفين بعد جهود مضنية من وسطاء، مهما سطرت فلن أستطيع وصف هذه اللَّحظات المُثيرة وما انتَابني من مشَاعر وقت معرفتي بفك أسري، وتلك اللَّحظات التي ارتقيت فيها إلى تلك المنصة وسط حشود كثيفة من النَّاس وهواء الحرية يداعب صفحة وجهي، وكنتُ أتأهب للمغادرة في طريقي للعودة إلى دياريّ؛ عندما استرعت انتباهي هاتان العينان لهذا المقاتل الحمساوي ببزته العسكريَّة، والواقف باعتدال أعلى المنصة!

رباه.. أنا أعرف هاتان العينان جيّدًا بحكم العشرة لمدة عام وأكثر، العينان التي تمتلئان بالثقة والقُوَّة والتَّحدّي والإقدَامُ وتشع ببريق لا يعرف الانكسار، أجل.. وهذه الهامةُ المرفوعةُ في كبرياءٍ وعزةٍ أعرفها جيّدًا هي الأخرى أيضًا، سألته وأنا أصافحه وأشد على يديه، متأملًا عيناه القويَّة بإمعانٍ كأنما أحاول سبر أغواره:«أأنت أبا خالد؟» أومأ برأسه إيجابًا. ومض وجهي من الفرحة وكأن الشَّمس انبعثت من قلبي دون مبالغة، صدق حدسي إذن، ربت على كتفيه برقةٍ، وجدت نفسي لا إراديًّا أطبع قبلة على جبينه وسط ذهول جمهور الحاضرين، والذين طفق بعضهم يصفق في حرارةٍ، هبطت من المنصة وأنظَاري لا تزال معلَّقة به، انطلقت بي السَّيَّارة وأنا ألوح له بوجهٍ باشٍ من وراء زجاجها الخلفي حتَّى غاب عن أنظاري وإن لم يغب عن تفكيري أبدًا حتَّى لحظة كتابتي لهذه السطور.

ما حدث وما مررت به جعلني أوقن -أنا اليهودي- أن روح هذه المقاومة الجسورة لنيل الحرية واستعادة الأرض؛ هي فضيلة متأصلة في أبا خالد الصنديد وملايين غيره، وإن النصر المؤزر سيكون حتميًّا وحليفًا لهؤلاء يومًا ما، أقول هذا إلى قومي بالأساس، لعلَّهُم يتَفكَّرون!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى