الثلاثاء ١٩ آب (أغسطس) ٢٠٢٥
بقلم صالح سليمان عبد العظيم

جوائز الدولة بين الرمزية والسلطة

تقييم لتصورات ذاتية جدا لــــــ "ماذا تعني جوائز الدولة"؟؟!!

تشهد مصر كل عام نقاشاتٍ حامية حول جوائز الدولة، وهي جوائز تُمنح للكتاب والمثقفين والعلماء الذين تُعتبر أعمالهم ذات أهمية وطنية. عادة ما تتخذ هذه النقاشات أحد مسارين: الأول يحتفي بالفائزين وإنجازاتهم؛ والثاني ينتقد آليات منح الجوائز، مُشيرا إلى قضايا الشفافية والإنصاف والتحيز المؤسسي. ومع ذلك، تكمن وراء هذه النقاشات طبقة أعمق غالبا ما تُغفل: المعنى الرمزي للجائزة نفسها وعلاقتها بالسلطة والشرعية ودور المثقف داخل الدولة.

لا تُعد الجائزة مجرد اعتراف بالجدارة الفردية، بل هي أيضا أداة للسياسة الثقافية. فمن خلال تكريم شخصيات معينة، تُسلط الدولة الضوء على مسارات فكرية محددة تنسجم مع رؤيتها للهوية الوطنية والحداثة والاستقرار، وتعيد إنتاجها. هذا لا يعني بالضرورة أن الحاصلين عليها يفتقرون إلى الجدارة، فالعديد منهم يستحقون بالفعل التقدير لعقود من البحث العلمي الجاد أو الإسهام الإبداعي. لكن القلق يكمن في أن هذا التقدير يأتي ضمن مجال تنظمه علاقات غير متكافئة في الوصول والظهور والشرعية. وبالتالي، لا تصبح الجائزة مرآة للإنجازات فحسب، بل مرآة أيا للقرب من السلطة.

تاريخيا، تتسم العلاقة بين المثقفين والدولة بالغموض. فمن جهة، توفر الدولة منصات وموارد ورأس مال رمزي يتيح ازدهار الإنتاج الفكري. ومن جهة أخرى، يمكن لهذه العلاقة أن تُضيق أفق الاستقلال النقدي، إذ غالبا ما يحمل رأس المال الرمزي للجائزة معه توقعات بالولاء أو الصمت أو الانحياز إلى الروايات السائدة. وبهذا المعنى، قد تُجسد جوائز الدولة شرفا حقيقيا واستقطابا ظاهرا وخفيا في الوقت نفسه!!

لا تكمن الصعوبة هنا في إنكار إنجازات أي فائز بعينه، بل في الاعتراف بأن مجموعة المرشحين المستحقين أوسع بكثير من أولئك الذين ينالون التقدير في النهاية. فكثيرا ما يُستبعد العديد من المفكرين والعلماء والكتاب الذين حافظوا على مسافة من المؤسسات الرسمية أو الذين تتخذ أعمالهم طابعا نقديا ومعارضا من هذه التكريمات. إن غيابهم ليس مجرد إغفال فردي؛ بل يعكس كيفية توزيع التقدير بطرق تعزز أنماطا معينة من السلطة الثقافية.

فما الذي ينبغي أن تعنيه رمزية هذه الجوائز إذن؟ إذا اعتُبرت مجرد اعتراف من الوطن، فإنها تُخاطر بخلط مؤسسات الدولة مع فكرة الأمة المجردة، مما يُزيل تعقيد كيفية الطعن في الشرعية الفكرية داخل المجتمع. إن نهجا أكثر توازنا هو أن ننظر إلى الجائزة كتقدير مؤسسي وفرصة في آن واحد لبحث كيفية تقييم العمل الفكري، ومن يحدد الثقافة "الوطنية"، وأشكال المعرفة التي تُعتبر جديرة بالاحتفاء.

لا تقتصر مسؤولية الحائزين على الجائزة على التأمل في رحلاتهم الخاصة، كما يُشدد عليه كثيرا، بل تشمل أيضا الاعتراف بمجال المعرفة والإبداع الجماعي الذي ينتمون إليه. وبهذا المعنى، ينبغي أن تكون الجائزة أقل تقديرا شخصيا للوطن، وأكثر توسيعا لأفق ما تعتبره الأصوات والتخصصات والأفكار جزءا من الذاكرة الثقافية المصرية. ينبغي أن تثير هذه الجائزة تأملات حول المُكمَّمين والمُهمَّشين والمُغفَلين أولئك الذين بنوا، من خلال أعمالهم ونضالاتهم، الأسس الفكرية والفنية للأمة.

وهكذا، فإن القوة الرمزية الحقيقية لجائزة الدولة لا تكمن فقط في فرحة الإنجاز، ولا في ترسيخ الروابط بين الفرد والوطن، بل في طرح أسئلة أكثر وضوحا: كيف تقدر الدولة المعرفة؟ ما هي أشكال المعارضة أو الابتكار التي تُهمَّش؟ وكيف يمكن لنظام الجوائز أن يتطور ليحتضن تنوع الفكر دون أن يقتصر التقدير على القرب من السلطة؟

لا يعتمد مستقبل التقدير الثقافي في مصر على الاحتفاء بالإنجازات فحسب، بل يعتمد أيضا على إعادة النظر في العلاقة بين المثقفين والدولة، بين الشرعية والاستقلال، بين الرمزية والسلطة. حينها فقط يُمكن لجوائز الدولة أن تتجاوز حدودها الحالية وأن تصبح ما نطمح إليه: لحظات حقيقية من التقدير الجماعي تُكرِّم الفرد في إطار تعددية المشهد الفكري المصري، وقبوله، وعدم الاقتصار على مجموعة دون أخرى!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى