

جائزة
مسابقة على من يتقدم لها أن يكتب نصًا قصصيًا حول القضية الفلسطينية، ليست المرة الأولى التي أكتب فيها نصًا عن فلسطين، كتبت فيما سبق قصة فازت بالمركز الأول في إحدى المسابقات، وأخرى قصيرة لا تتعدى بضعة أسطر وهذا يخالف شروط المسابقة الحالية؛ لذا عليّ أن أكتب نصًا جديدًا، ولكن عن ماذا أكتب؟.....
أمممم، ماذا عن قصة حب بين أسير وفدائية يتزوجان من وراء القضبان؟
حسنًا توقفي هنا، أعرف هذه الابتسامة البلهاء جيدًا، هذه ليست قصة حبك الخاصة، إذا ما أردتي أن تعيشي قصة حب؛ فلتذهبي وتبحثي عنها بنفسك في الخارج، وكفاكِ بحثًا عنها على الورق، لا ذنب لأحد في قراءة تُرهاتك العاطفية ومشاركتك جفافك العاطفي، أما عن قصص الحب بين الأسرى وفتياتِ فلسطين؛ فقد قُتل الأمرُ بحثًا ولم يعد فيه من جديد، بل لم يعد الأمر خاصًا بفلسطين من الأساس، أضحى الوطن العربي كله سجونًا، وأسرى يعشقون خلف القضبان، ونساءً وهبن حياتهن لمن غيبتهم عنهن ظلمات السجون، لم تعد سجون الأسر حكرًا على فلسطين وحدِها!
طيب، فلنفكر في شيء آخر...
لدي صديقة على الفيسبوك تعيش في أمريكا كتبت منشورًا ذات مرة تقول فيه أنها تحاول دومًا تصحيح معلومات ابنتها المدرسية عندما يخبرونهم بموقع إسرائيل على الخريطة، قائلة لها أن إسرائيل كيان معتد لا وجود له، وأن الأرض والموقع الجغرافي على الخريطة هي لفلسطين، فماذا لو كتبت نصًا عن فتاة عربية في مدرسة أجنبية تثور على معلمتها عندما تحدثهم عن إسرائيل ومعاناة الصهاينة؛ فتجادلها بالحقيقة وتخبرها بما يعانيه أصحاب الأرض الأصليين عليها وفي سجون محتليها؟
يا للوعظية المقيتة! إذا أردتي أن تفعلي؛ فلتكتبي مقالًا تاريخيًا عن القضية، ما دخل الأدب والقصة بالأمر؟!
أووووف، رأسي سينفجر، فعن ماذا أكتب إذًا؟!
يقولون في ورش الكتابة أن على الكاتب التفتيش في ماضيه وحياته ليستطيع أن يخرج بنصٍ جديد، حسنًا فلأفتش!
لم أعش في فلسطين، ولم أتعرف يومًا على فلسطينيين عن قُرب، ولكن طفولتي كانت مليئة بذكرِ فلسطين على أيةِ حال، لم تخل مجلة الحائط المدرسية يومًا من موضوع أو خبر عن فلسطين، بل ربما خلت مما عداها أحيانًا، وكان أبي يستأجر شرائط فيديو لأفلام وثائقية عن حروب فلسطين ومذابح الصهاينة في أهلِها، ومعاناة الأسرى وأهاليهم الذين يسلبوا من بين أحضانهم؛ لنشاهدهم معًا في جلساتنا العائلية المسائية نهاية كل أسبوع، لا زلت أذكر فيلمًا منهم عن مذبحة دير ياسين.
كانت الراوية فيه امرأة عجوز تحكي كيف هجم الصهاينة على مدرستِها وهي طفلة يومها، قتلوا كل الأطفال والمعلمات، وبقروا بطون الحوامل منهن، لم ينجدها من القتل حينها إلا أنها تلطخت بدماءِ زميلاتِها واندست بين الجثثِ بلا حراك؛ فلم يفطن أحد منهم أن لا يزال هناك شاهدٌ حي على المذبحة، تلك المرأة رغم السنين صورتها لم تنمح من ذاكرتي، بعباءتها وحجابها وملامحها الشبيهة بملامحِ جدتي التي فقدت زوجَها في حرب 73، تمنيتُ كثيرًا أن أجلس يومًا مع جدتي أسجل ذكرياتها التي شاركت فيها جدي أثناء الحرب، ولكنني كنتُ أنتظر أن تبرأ من مرضِها؛ ليكون لديها متسعًا من الوقتِ والصحةِ أن تحكي بدون مللٍ أو تعب، ولم أفطن أن كِبارَ السنِ لا يبرأون، هم فقط يرحلون في صمتٍ، مصطحبين ذكرياتِهم وتاريخِهم، تاركين لنا من خلفِهم الخواء!
يوم تناقلت وكالات الأنباء وقنوات التلفزيون صورة استشهاد الطفل محمد الدرة محتميًا بحضن أبيه خلف برميل ما، هاجت الدنيا وماجت، كان طفلًا في مثل أعمارنا، استفزتنا الصورة رغم صِغر سننا، خرجنا جميعًا من مدارسِنا في مظاهراتٍ نرددُ فيها شِعارات مناهضة للكيان الصهيوني، كنا نشعر أننا نقوم بعمل بطولي ما، وأننا نساهم في تحرير الأقصى بصورةٍ أو بأخرى، وعلى الرغم من أن لا يزال هناك عشرات الأطفال يُقتلون كل يوم بصور أكثر بشاعةٍ من تلك التي قُتل بها محمد الدرة، إلا أنني لم أعد أرى مثل هذه المظاهرات الآن في أي مكان!
ربما يمكنني الانطلاق من تلك النقطة، بقليلٍ من البحث قد أجد شيئًا ما يحفز مُخيلتي، وشبكة الإنترنت قد وفرت علينا جهود البحث المضني.
ما هذا؟! مراهقةٌ ما تشارك صورة محمد الدرة بعد مقتله على صفحتها الشخصية معلقة: "لما ماما تدخل عليا أنا وأخويا واحنا بناكل في نهار رمضان... أعمل نفسك ميت"
حقًا؟! الصورة التي استفزت أطفال جيلِنا وأخرجتهم عن بكرةِ أبيهم ينتفضون لها في كل مكان، لا يرى فيها أطفال ومراهقو الجيل الحالي إلا أنها مجرد "كوميك"؟!
يقولون إن الصورة أبلغ من ألف كلمة؛ فإذا كانت صورة كتلك على ما تحمله لا تحرك فيهم ساكنًا؛ فهل ستؤثر فيهم ألف كلمة؟!
يمكننا أن نكتب آلاف النصوص، نحصد بها كل الجوائز، ولكن هل ستعيد النصوص بعث روح القضية؟!