

توفيق زّياد يبقى حاضراً بشعره
لعب توفيق زّياد دوراً ريادياً في مسيرة النضال الوطني الفلسطيني وفي مسيرة الشعر الفلسطيني " المقاوم " و " الملتزم " وهو من أهم الشعراء الذين أسسوا لحركة الشعر الفلسطيني بعد نكبة عام 1948، وقد شّكل زّياد نموذجا للشاعر الملهم للأجيال الشعرية التي أتت من بعده، مرسخاً بذلك مفهوم الهويّة الثّقافية ومفهوم الأدب المقاوم الذي أطلقه الأديب الشهيد غسّان كنفاني في كتابه الشهير " الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948 – 1968 " والذي اهتم اهتماماً كبيراً وبارزا ببعض التجارب الشعرية المبكرة التي مثلها الشاعر توفيق زّياد إلى جانب الشعراء محمود درويش وسميح القاسم وسالم جبران .
ومن الميزات الأساسية التي انطبعت بها أشعار توفيق زّياد، أنها كانت تمثل " الكلمة الفعل ـ والفعل الكلمة "، حيث كان لافتاً بأن زّياد " أستاذ الشعر الثوري والمواقف النضالية، والصمود، الذي لا ينخذل "، ومن هذا المنطلق جاءت عناوين دواوينه الشعرية التي صدرت في حياته وفي أوج عطاءه الوطني النضالي والشعري، ومن أهم هذه الأعمال: " شيوعيون، أشد على أياديكم، ادفنوا موتاكم وانهضوا، أغنيات الثورة والغضب، تهليلة الموت والشهادة، أم درمان، كلمات مقاتلة، أنا من هذه المدينة، سجناء الحرية وقصائد أخرى ممنوعة، عمّان في أيلول ".
ويلحظ القارئ والناقد على حد سواء اهتمامه بالقصيدة " الدرامية "، التي هي من خصائص شعر توفيق زياد، وقد بدأ ذلك مبكراً في قصيدته كفر قاسم (1956) التي يروي فيها أحداث المجزرة، بأسلوب وصفي تقريري:
" ألا هل أتاك حديث الملاحموذبح الأناسيّ ذبح البهائموقصة شعبٍ تسمى: حصاد الجماجمومسرحها.. قريةٌ اسمها: كفر قاسم "
ويضيف والأوجاع تسكن أنفاس الشاعر، المملوء بالغضب وهو يطلق العنان لهذا النشيد / النشيج الذي يبشر بالغضب العارم والداعي لتحرك الجماهير في مواجهة المذبحة، فكفر قاسم نموذج لمذبحة مفتوحة ومتواصلة يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي الغاصب ضد شعبٍ أعزل:
" وخيّم صمتٌ ثقيلٌ مديدعلى حلبة المجزرةوتقطعه قهقهات الجنودلنصرٍ بمعركةٍ ظافرةويصرخ ضابطهم صرخة آمرهيشير لكوم الضحايا
( كفى ! إنهم سقطوا كالنشارة.. كفى ! فالرصاصة فيهم خسارة )
ويمشي الجنود بكل إباءمشي الإوزّة في خيلاءفتغطس أقدامهم في الدماءسراعاً إلى جثث الأبرياءتقلبها دون أي حياءوتخطف ساعاتها في خبال ... "
ومن خلال متابعة الأعمال الشعرية للشاعر الراحل توفيق زّياد ومن بينها تلك المختارات التي أصدرتها وزارة الثقافة الفلسطينية تحت عنوان " أنا من هذا الوطن " والتي صدرت بمناسبة الذكرى السابعة والثمانين لميلاده والتي تزامن إصدارها مع افتتاح " معرض فلسطين الدولي للكتاب 2016 "، فإننا سنجد أن هذا الاتجاه اتجاهٌ راسخٌ في أعماله من بداياتها، وحتى آخر أعماله التي صدرت بعنوان: " أنا من هذه المدينة "، عام 1994، ليشكل ذلك الاتجاه علامةُ مميزة ًلأشعاره وتجربته ككل.
ومن هنا فإن فكرة " الالتزام " لم تتوقف في أدبه عند حد " الالتزام الفكري " كونه كان قائداً ومؤسساً في الحزب الشيوعي وذراعه الجماهيري " الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة "، بل كانت ذات مسارين كما يتضح من شعره: الأول الالتزام بقضايا الشعب الفلسطيني، كالتحرير والنضال ومحاربة الفساد والبطش والظلم الذي يقع على أبناء فلسطين يوميا، والثاني، الالتزام بالأطر الفكرية التي آمن بها، واعتقد أنها وسيلته للوصول إلى تحقيق التزامه الأول، لذلك فان معظم قصائده تنحى إلى هذا الجانب " المضيء " في هذه المسيرة، يقول في قصيدته المشهورة " أشدّ على أيديكم " التي حملت عنوان إحدى مجموعاته الشعرية:
" أناديكمأشدّ على أياديكم !أبوس الأرض تحت نعالكموأقول: أفديكموأهديكم ضيا عينيودفء القلب أعطيكمفمأساتي التي أحيانصيبي من مآسيكم "
ويمضى بإصرار متحدياً الواقع الذي حاول الاحتلال فرضه منذ بداياته، يرفض الاستسلام ويرفض الاحتلال بكل عنادٍ، محرضاً جماهير الشعب على الثورة وعلى النضال والتمسك بالهّوية الوطنية:
" أنا ما هنت في وطنيولا صغّرت أكتافيوقفت بوجه ظلّامييتيماً، عارياً، حافيحملت دمي على كفيوما نكّست أعلاميوصنت العشب فوق قبور أسلافي*أناديكمأشدّ على أياديكم ! "
وبتصاعد الوعي الجماعي بالهوية الأصلية للشخصية الفلسطينية، تستكمل النظرة في أبعاد الموقف، ويضحى لزاماً على الشعراء داخل أسوار الاحتلال أن يمدوا أنظارهم نحو خارج هذه الأسوار بحثاً عن النصف الثاني للبرتقالة الفلسطينية التي شقها سكين الاحتلال بلا رحمة وبلا ضمير، ومن دون أدنى شعور بالإنسانية.
وإذا كان شعراء الأسر غنوا للبقاء والعودة معاً، ففي أواسط الستينات كانت الشخصية الفلسطينية تستكمل مقوماتها الذاتية في المنفى، وكان لهذه الحركة صدى بعيد الأثر في تجربة شعر الأسر والمعتقلات، وكان لتوفيق زّياد بذوره الأولى في هذا الجانب الهام في مسيرة الشعر الفلسطيني، حيث كتب العديد من أشعاره داخل باستيلات وسجون " إسرائيل " العنصرية ومن هنا فان له قصائد مشهورة ومغناة ومن أهمها " فلتسمع الدنيا، شدة الحب، مليون شمس في دمي، ادفنوا أمواتكم وانهضوا، العبور الكبير، قبل أن يجيئوا، الحريّة أو الموت " والتي فرد بها جناحيه شاعراً نابضا بالحب والحرية وكرامة الانسان رغم القهر ووحشة الزنزانة، يقول في قصيدة " الحريّة أو الموت " والتي كتبها أثناء الاعتقال:
" هذي أغنيةللعشرة آلاف سجينٍ في قلب سجونكيا إسرائيل الكبرىوالصغرى.....هذي أغنيةللأيدي المسحوقة بالأغلال الدمويّةتتحدّى الأغلال الدمويّةلعيونٍ تتوقد خلف القضبانللقامات المنتصبةفي قلب الزنزانات الوحشيّةتتحدّى الزنزانات الوحشيّة.. "
تأثر توفيق زّياد بثورية الحركة الوطنية الفلسطينية وبآدابها، التي كانت بدايات إبداعاتها منذ بداية القرن الماضي، فاتكأ عليها كما اتكأ على الأدب التقدمي الاشتراكي، بعد أن تمركز بثبات في الناحية اليسرى من مسيرة شعبه والشعوب المظلومة، وعَمَّق وبرؤية ثاقبة وواقعية حساسة لغته الشعرية التحريضية وبلورها بظروف سياسية واقتصادية واجتماعية صعبة، مرّ بها شعبنا الفلسطيني بعد النكبة وإسقاطاتها وأيام الحكم العسكري وممارساته القمعية، وكان زّياد قريباً من نبض العمّال وهمومهم اليومية، حيث كتب في العام 1964 أثناء وجوده في موسكو قصيدته " إليكم " والتي يخاطب بها العمّال والمسحوقين والمعذبين والمضطهدين:
" يا إخوتي العمّالأحب كل زهرةٍ بريّةٍتتوّج الجبالوكل حفنةٍ من التّرابكل لقمةٍ حلالأحبكم جميعكمأحب شعبي الذي أرهقه التجواليا إخوتي.. أشيلكم معي هنافي قلبي الأخضر بالآمال "
ومن القصائد الجميلة والمفعمة بلغتها وموسيقاها المنسابة وتعابيرها الفنية الصادقة كانت قصيدته " العبور الكبير " وبخاصة المقطع الأول منها الذي حمل عنواناً فرعياً تحت عنوان " مناديل الزّنابق " حيث لوّح بالمناديل لشعبه المناضل:
" لوّح بها، لوّح.. مناديل الزّنابقواضرب سلاماً للرجال وللزنابقواضرب سلاماً للحقيقةبعد أن ضاعت،لقيناهاعلىلهبالحرائقلوّح بها لوّحمناديل الزّنابق "
ويمضي توفيق زّياد يعزف كلماته الشاعرة والثائرة، يكتب لشعبه وقضيته، ويكتب للأطفال المعذبين ويكتب عن أوجاع الإنسانية المعذبة والدماء الزكية المسفوحة، حيث وهب قصائده للحياة، فقصائده كل ما يملك، حيث يقول في قصيدة: " المغنّي":
" وأعطي نصف عمري، للذييجعل طفلاً باكياًيضحكوأعطي نصفه الثاني، لأحميزهرةً خضراءأن تهلكوأمشي ألف عامٍ خلف أغنيةوأقطع ألف وادٍشائك المسلكوأركب كل بحرٍ هائجٍحتى ألم العطرعند شواطئ الليلكأنا بشريّة في حجم إنسانٍفهل أرتاحوالدم الذكي يسفك !أغني للحياةفللحياة وهبت كل قصائديوقصائدي،هي كلّ..ما أملك ! "
لا يمكن أن ينقطع الشاعر عن جذوره الماركسية والأممية، وأن يكون محايداً في معركة الضمير والوجدان الإنساني والمواقف النبيلة، فكانت " كوبا " من القصائد التي تغنى بها توفيق زيّاد والتي كتبها عام 1960, وهي السنة التي أرسلت أمريكا الامبريالية بوارجها إلى كوبا، وفي نفس السنة أوقف أيزنهاور شراء السكر الكوبي، وأمم فيدل كاسترو جميع الممتلكات في كوبا، وفي أول أيار أعلن كاسترو أن كوبا جمهورية اشتراكيةً مستقلة.
ويبرز زيّاد في مضمون قصيدته أن كوبا رمزاً للإباء والصمود، ورمزاً للبطولة والكفاح ضد المستعمرين، وتوفيق زيّاد يتماثل مع الشعب الكوبي لأن الشعب الفلسطيني يعيش تحت وطأة الاحتلال فيقول:
" يا أصدقائي.. في مصافي النفطفي كوبا الأبيةيا أصدقائيفي حقول السكر الخضر الغنية***يا أصدقائي الناشرين على الورىأرجع الكفاحيشدوا على المستعمرين فإنهمقصوا جناحيعندي لهم ثارات شعبأثخنوه بالجراح "
ويصل المناضل والشاعر توفيق زيّاد بإنسانيته إلى أبعد مدى، حيث بوده أن يجعل كل فقير أن يأكل من صحن ماسي، وأن يلبس الحرير وأن يسكن في قصر منيف، فالشاعر هنا وكما كان على الدوام ضد الظلم والقهر والتعسف، ومناصراً للعدل الاجتماعي والتقدم وحقوق الشعوب، ومناهضاً للعنصرية والطبقية، ومعادياً للدكتاتورية والعبودية والرأسمالية الامبريالية المتوحشة، وهو أبداً لا يقول هذا شعاراً، وإنما يخوض ذلك وينجزه فعلاً، ويقف أمام الظلم والطغيان، إمّا بالكلمة أو بالمظاهرة، وقد عبّر عن ذلك في قصيدة " المناشير المحترقة " التي يوجهها إلى أصدقائه اليهود عن الشهداء الخمسة في قلب " تل أبيب " ساحة " ديزنكوف " فاعتدى عليهم أُجَراء الاحتلال والعنصرية، ومزقوا ثيابهم وحرقوا لهم المناشير وكتبهم التي كانوا يحملونها، فتكب زّياد وهو القائد الشيوعي والوطني والشاعر الملتزم بقضية وحقوق شعبه:
" الورد أحمل.. والسلام الحقوالحّب العميقهذي يدييا أصدقاء كفاحنا في كل ضيقفي كل عرقٍ نابضٍعهد الصديق إلى الصديق "
ورغم كل ما حملته التجربة الشعرية لتوفيق زّياد من إرهاصات شعرية ومضامين فكرية وتراثية وما اشتغلت عليه من قضايا وهموم وما تضمنته من حكاياتٍ وقصصٍ إنسانية من واقعنا الفلسطيني والعربي والعالمي، يبقى شاعرنا من أهم وأبرز رواد شعر المقاومة، فهو بحق شاعر الأرض وشاعر الصمود والمقاومة، شاعر التمسك بالأرض وهويتها العربية الفلسطينية، شاعر التشبث بالأرض مهما كان الثمن، حيث فجّر " يوم الأرض الخالد " ويكاد أن يكون " الأب الروحي " لهذا اليوم المجيد في تاريخ شعبنا ونضاله العادل.
توفيق زّياد الذي عانى الكثير من المآسي في حياته، جرب اليتم وهو صغير وبعد ذلك انهالت عليه الأحداث الكبيرة والجسيمة، وأصبحت أشعاره فيما بعد أناشيد وأغاني تشد أزر المناضلين المقاومين داخل الأرض المحتلة وكأنها تبعث رسائل أمل للشعب الفلسطيني المغروز في أرضه.
هذا الشاعر لم ينقطع عن شعبه ولم يعش تجربة الشتات كبعض " الشعراء الفلسطينيين المعاصرين " وإنما عاش داخل الأرض المحتلة، هناك في الناصرة التي أحبها وأحبته.
من خلال قصائده التي تمثل نماذج مضيئة في أدب المقاومة، حاول شاعرنا الكبير أن يستوعب وأن يرافق تحولات الصراع بين الشعب الفلسطيني والمحتل الإسرائيلي، وقد تنوعت تجاربه في هذا المجال، كتب للأسرى في سجونهم في مجموعته الشعرية " سجناء الحرية وقصائد ممنوعة " و" سمر في السجن " و " كلمات مقاتلة " وكذلك تلك الصور والقصائد التي تحدى بها الاحتلال وتحدى بها " حكام تل أبيب " من خلال الكلمة المقاتلة ومن خلال سيرته العملية في مجموعته الشعرية "بأسناني" وقد حثت أشعاره على الصمود والمواجهة ورفض الاحتلال والتأكيد على عروبة الأرض وفلسطينية الهوية وأممية الفكر والثورة ضد الاستغلال والعنصرية والاستبداد.
يبقى أن نقول بأن الشاعر الفلسطيني الراحل توفيق زّياد مثل نموذجاً لشعر المقاومة وشعر الأرض، ومثالاً حيّاً للمناضل الشاعر والشاعر المناضل الذي لم ينفصل أبداً بصفتيه طيلة حياته، وهذا الشاعر الكبير الذي أضاف إضافات نوعية للأدب العربي والفلسطيني، بل للأدب والشعر العالمي يستحق منا بأن نبقى أوفياء لما كان هو وفياً لها من مبادئ وقيم ونضالات وسجايا وان نصون هذه المسيرة الزاخرة بالعطاء والوفاء بمنجزاتها الوطنية والثقافية والشعرية لتستريح روح هذا الشاعر وتبقى أشعاره خالدة، وليبقى توفيق زّياد حاضراً بشعره بيننا وفينا.