

العصفور الطائر المحب للترحال
نحن نحب الترحال، لأننا لا نشعر بكل الحب لمن هم حولنا، ولأننا نريد الهروب من أنفسنا عندما لا نحقق أحلامنا، وعندما لا نحتمل أن نُصارح ذواتَنا حينما تخطئ، فلا نريد أن نواجهها، لأن المواجهة صعبة تحتاج للجهاد الطويل مع النفس، وأسهل ما نستطيع فعله هو أن نهرب فنطير، لعلنا نرتاح من الصراحة، وممن كانوا سببًا في تألمنا، فقد اصطدمنا بذواتهم مع ذواتنا، وما نحن بملائكة بالخير نعمل دائمًا ولا شياطين للشر مَسعانا. لكننا نشعر بالأنا، ولا نريد في ذات الوقت أن نسيء للآخر، ونجعل الشرَّ يسيطر علينا، لأننا نحب الخير والكمال ونطمح إليه.
وقصة عصفورنا هذا فيها من الحكايات والأحوال النفسية التي نكون عليها ونعيشها، فهو رمزٌ لنا؛ نرى فيه ذواتَنا وحكاياتنا ورحلتنا في الحياة.
إنه عصفورٌ كَكلِّ العصافير، يطير، ويُحلِّقُ في السَّماء، ويقطع المسافات الطويلة، يذهب هنا وهناك، لكنه دائمًا طائرٌ حتى عندما يعود إلى عُشِّه على شجرة التفاح التي اختارها ليبني عليها عشَّه الجميل؛ يظل طائرًا لا يريد الاستقرار، ولماذا لا يريده؟ هل لأنه يريد أن يمتلك كلَّ شيء؟.
ولأنه لا يقدر أن يمتلك كلَّ شيءٍ، يهرب من نفسِه بالطيران، فيرى في الطيران سبيلًا يُمكِّنه من إيجاد ما ينقصه.
ولم يزل ذلك العصفور يطوف البلاد ويرى من عجبها عجبًا؛ له حكايات في كل مكان مع هذا وذاك. محطات عديدة التقى فيها بأناسٍ عديدين عاش بينهم ومعهم في بلادٍ واحدةٍ سنين طويلة، وفارقهم ليلتقي بغيرهم، فصار كلُّ شيء أمامه غير ثابت.
يترك عالمه والمجتمع الذي عاش فيه، والبلادَ التي تربّى فيها، كيف هذا؟ كيف ينْفكُّ ارتباطه بكل الماضي؟ كيف لا يبقى خيطٌ يربطه بزمانه ومكانه؟ ما الذي يحدث؟
لقد حَطَّ في مجتمعٍ ومكانٍ مختلف، وهذه حياته الجديدة بلا ماضٍ في هذا المكان، وبلا رابطٍ مع أحد، وبلا حاضرٍ يجب له أن يعيشه، فلا دور له في هذا المجتمع الجديد عليه، وإن كانت هذه دِيار أجداده، لكنها ليست الديار التي صاح فيها أولى صيحاته، وتربّى وكبُر، وعرَف نفسه ومن حوله من منظورها.
إنَّه الآن في ديارٍ مختلفة، وما من دور له فيها. فكانت بذلك مرارةُ الحياة وألم العيش، وصعوبة التأقلم والتعايش مع هذا
المجتمع الجديد. كل شيء مختلف عن المجتمع الذي نشأ فيه.
لم يفهم مفرداتَ هذا المجتمع ولا طبيعةَ الحياة والناس فيه؛ كيف يحدث هذا؟ كيف يزول كلُّ شيءٍ له علاقة به؟ كيف يحيا بلا ماضيه وبلا كيانه؟ كيف يصبح ذاتًا بلا هوية؛ لها سِمْتُها المختلف عن الذوات الأخرى، ولا دور يؤديه ولا أصحاب كانوا حوله؛ لقد توقف في مسيرة حياته كل شيء كانَّ الزمن قد توقف عنده.
تجربةٌ قاسية؛ لقد خرج من دائرة المجتمع المتحركة، وصار ملفوظًا خارج الدنيا كلها، إنَّها النهاية؛ هكذا رآها؛ الموت الذي لم ينتهِ.
كان الجميع أعداءً وقلوبًا قاسية، وهو عصفورٌ منطلقٌ، يقف الآن بلا أماني، وبلا أحلام، وبلا عمل، وبلا تغيير في حاله. طموحاته يهددها عدم إمكانه تحقيقها. لم يعد له غد فكل وقته حاضر؛ كيف له الصبر على هذا البلاء الشديد، وما من قلبٍ رحيمٍ ولا عقلٍ سديدٍ يُريه نور الله، ويخرجه من سوادِ اليأس.
لقد اجتمعت كلُّ أسباب تحطم هذا العصفور بين نفوسٍ مريضة، وظروفٍ صعبةٍ أحاطته، ونفسِه التي تسلطت عليه، فكان الكلُّ أعداءه، حتى أفاء الله عليه، وبدأ طريق العصفور، ولكنه الجريحُ هذه المرة. يطير دومًا، يبحث عن الراحة، هذه حاله، لكنه في النهاية لا يرتاح إلَّا عندما يُسبِّح ربَّه، فيَقَرُّ قلبه الجريح، وتطيب روحه المتألمة من نفسها ولأجلها، ومما تجد من عالمها الرديء بكل مقاييسه التي لا تقوم على أي مقياس، ولا منطقَ بفهمُه العقلُ؛ لا الصدقُ صدقٌ ولا الكذب كذبٌ؛ الكذاب يَصدُق كذبُه، والصادق ضعيفٌ كَلِمُه، وها هو حال هذا العصفور؛ يريد أن يطير دومًا ولا يحط على أرضٍ أو مكانٍ واحدٍ، ففي كلِّ أرضٍ يؤلمُه كلُّ شيء فيها.
ما الذي يحدث؟ يتساءل بينه وبين نفسه؛ هل هذه هي حقيقة الدنيا منذ بدأت أم أنَّ الأمر ازداد سوءً؟ ماذا أفعل؟ لا مفرَّ؛ فالموتُ بيد الله وحده، وكيف لي أن اطلب الموت ولم تحِن ساعتي بعد؟.
اهدأ أيها العصفور واحمد الله؛ ألستَ تُسبحه وتسلم أمرك له وحده؟
إنك عصفور؛ تستطيع أن تطير، وأحلامك بريئة، لا تركض وراء مال أو جاه، ولا تقتل كما يفعل البشر، إنك تملك ما لا يملكه البشر الذين يتألمون ولا يمكنهم الطيران، وترك المكان الذي فيه يُجرحون ويتألمون، بينما أنت تجوب في سماء الله، وترى كلَّ جميلٍ مما خلق الله. وتأكل من خيرات الله دون أن يمنعك هذا ويُرهِقُك ذاك. فطِبْ نفسًا وعيشًا، إنك تحيا حياة سعيدة، وما يحزنك اتركه جانبًا، ولا تلتفت إليه، وقل حسبي الله ونعم الوكيل، وعش سعيدًا في كون الله الفسيح؛ طائرًا في سمائه ناظرًا إلى أرض الله الواسعة التي رَحُبت بمخلوقاته. فتأمَّل ذلك وسبِّحه واحمده على صنعه، واصبر فالدنيا زائلة، وارضَ بالله يرضى عنك الله جلَّ وعلا، فما أشدَّ خسرانًا من عدم الرِّضا بالله، واعلم أيها العصفور أنَّ الدنيا بالغرور امتلأت وبالفناء وُعِدَتْ وللآخرة سنعود، فيقضي الله في أمرنا جميعًا حيث يَطيبُ عيشُ المؤمنين في جنة الخُلد التي وَعَد الله عبادَه المؤمنين.