الأحد ١٧ آب (أغسطس) ٢٠٢٥
بقلم سيد إبراهيم آرمن

الأم في الشعر الإيراني والإماراتي

الأم في الشعر الإيراني والإماراتي: من «إيرج ميرزا» و«بهار» إلى «راشد بن طناف»

الفن الحقيقي يملك قدرة سحرية على أسر الروح، وإيقاظ أرقّ الأحاسيس في النفس البشرية. وقد يتجلى هذا السحر في قصيدة شعبية بسيطة بلهجتها، عميقة بمعانيها، صادقة في عاطفتها. هكذا كان لقائي بالشاعر النبطي الإماراتي "راشد بن طناف بن فايز بن سعيد النعيمي" (1910-2000م)، حين أرسل لي أحد الأصدقاء الإماراتيين قصيدة له عبر الواتساب. منذ اللحظة الأولى وجدتني مأخوذا بجمال القصيدة، وبالخصوص بإلقاء الشاعر بين الجزالة والفكاهة، الأمر الذي دفعني إلى البحث عن اسمه وأشعاره الأخرى عبر منصّة "يوتيوب"، وما لبث أن عثرت على كنز ثمين من كنوز هذا المبدع، يتمثل في قصيدة مؤثرة خصّ بها أمه، فسكب فيها من الحنان والبرّ ما جعل الألفاظ تتدفق بعفوية، والأفكار تتلألأ بصفاء، والمفردات تتهادى بعذوبة عجيبة. وهذا هو نص قصيدة "يا أم روح الروح" كاملة كما أنشدها الشاعر:

يا أم روح الروح وش ياج .. يودي بوصلج لبركة فيج
لي من وصلتي كانه وياج .. ممنون وبشارة وبعطيج
ياليتني في القرب وحذاج .. إن كان بوصل ما بعنيج
أنا مريض وشفايه من دواج .. وانا طبيبج اللي بداويج
والجار لي حارس وعداج .. سافر يعل ما يعود ويجيج
والحين ما نتوالف وياج .. و بانفصحج كلي يعديج
مسطاب متعذب ببلواج .. يعل السلامة من بلاويج
على الهجر وش عاد قواج .. يهديج ربي لي معاليج
بسخي بروحي في هوى رضاج .. قولي وانا معتد برضيج
لج منزلٍ في سعيد يهواج .. وان مت من غيري يهاويج
من يكتمه سرج و يدراج .. مثلي و عقبي بيداريج
سبحان الي صورج وانشاج .. تايب لساني مابيسميج
صلوا عدد ما المزن غطاج .. يادي مطره واروى مفاليج
واعداد ما في القلب منواج .. واعداد ما تصبر مناويج

لم أتمالك نفسي عندما استمعت إلى قصيدته في الأم، حيث فاضت مشاعري ووجدت قلبي يذوب أمام روعة معانيه، وأنا أستذكر أجمل القصائد التي قيلت في منزلة الأم في اللغة الفارسية، خصوصا قصيدة الشاعر الإيراني المعاصر "إيرج ميرزا" (1874-1926م) التي يُلقيها كلّ إيراني عن ظهر القلب منذ مقاعد الابتدائية، والتي يقول فيها بالفارسية:

(گویند مرا چو زاد مادر .. پستان به دهن گرفتن آموخت
شبها بر گاهواره من .. بیدار نشست و خفتن آموخت
دستم بگرفت و پا بپا برد .. تا شیوه راه رفتن آموخت
یک حرف و دو حرف بر زبانم .. الفاظ نهاد و گفتن آموخت
لبخند نهاد بر لب من .. بر غنچه گل شکفتن آموخت
پس هستی من ز هستی اوست .. تا هستم و هست دارمش دوست)

ومضمون الأبيات أن الأم هي التي علمت طفلها كل شيء منذ لحظة الولادة: كيف يرضع، كيف ينام، كيف يخطو خطواته الأولى، كيف ينطق الكلمات الأولى، بل حتى كيف يبتسم. ثم يختم قائلا إن كيانه كله مستمد من وجودها، وأنه ما دام حيّا فهو محبّ لها إلى الأبد.

ثم استذكرت أيضا قصيدته الأخرى الشهيرة "قلب الأم" التي ترجمها شعرا من نص للشاعر الفرنسي جان ریشپَن Jean Richepin، حيث صاغها "إيرج ميرزا" بالفارسية شعرا صافيا مؤثرا، وفيها المشهد المؤلم: (كانت ليلة مقمرة، يجلس عاشق ومعشوق على ضفاف نهر يتبادلان الوصال. قال الشاب: يا حبيبتي، هل ما زلتِ تشكّين في صفاء مودتي وصدق حبي؟
أجابته الفتاة: إن أنتَ أتيتني بـ"قلب أمك" الممزق فسأؤمن عندها بصدق عشقك.

كان هذا القول كالعاصفة في قلب الفتى المولّه، حيث هيامه غلب على برّه بأمه، وفي لحظة جنون اقتلع قلب أمه ومضى به إلى معشوقته. وبينما الشاب يسرع نحو حبيبته تعثر وسقط، فانفلت القلب من يده يتدحرج على التراب، وإذا به يسمع من "قلب أمه" صوتا حانيا يقول: "بنيّ، هل أصابك مكروه؟")

(آه دست پسرم يافت خراش .. آخ پاي پسرم خورد به سنگ)

وهل هناك في الدنيا تصوير أبلغ من هذا لمكانة الأم وعاطفتها اللامتناهية؟

وليس ذلك فحسب، بل نجد أيضا شعرا مهيبا للشاعر الإيراني "ملك الشعراء بهار" (1884-1951م) في قصيدته الشهيرة "وعد الأم". وفيها يروي "بهار" مأساة شاب محكوم بالإعدام، فتَعِدُهُ أمه أن تبيع كل ما تملك طلبا للعفو، وتقول له: "إن رأيتني يوم الإعدام أرتدي الأبيض فاعلم أنك ناجٍ، وإن لبستُ السواد فاعلم أن الحكم نافذ". وحين لم تستطع شراء عفوه، حضرتْ الأمُّ يوم الإعدام بلباس أبيض، وحين سُئلتْ بعد سقوط ابنها: "لماذا ارتديتِ الأبيض؟" أجابتْ: "أردتُ أن يموت ولدي وهو مفعم بالأمل".

(فتاد رشته دارش به گردن و جان داد .. به‌رغم مادر و آن وعده نهان دادن
یکی بگفت به آن داغدیده مادر زار .. به وقت تسلیت وتعزیت نشان دادن
چرا تو وعده آزادی پسر دادی .. مگر نبود خطا وعده‌ای چنان دادن
جواب داد چو نومیدگشتم این گفتم .. که بچه‌ام نخورد غم به‌وقت جان دادن)

هذه الصور الخالدة من الشعر الفارسي تجعلني أزداد يقينا أن قصيدة "راشد بن طناف النعيمي" عن الأم تقف في مصافّ تلك الروائع، بصدقها وعاطفتها، فهي تخرج من قلب بدوي عربي لتلتقي مع صوت الشعراء الكبار عبر الثقافات واللغات، وقد كان استماعي لهذه القصيدة بإلقاء الشاعر نفسه تجربة وجدانية فريدة؛ إذ أحسست وكأنني أستمتع بسيمفونيات بيتهوفن وموتسارت، أو أقرأ غزلية رقيقة من غزليات حافظ الشيرازي، أو أنهل من بساتين الديوان الكبير (ديوان شمس التبريزي) لمولانا جلال الدين الرومي.

وهنا يحسن أن نستحضر ما كتبه أرسطو قبل قرون في كتابه "فن الشعر"؛ حيث رأى أن "كمال القول الشعري أن يكون في غاية الوضوح والبيان، من غير أن ينحدر إلى الابتذال والسطحية"، مؤكدا أن "أوضح الكلام ما تألف من الألفاظ الجارية المألوفة". وهذا الرأي نجده كذلك عند مؤلفي كتب البلاغة في العصور الإسلامية؛ إذ نهوا عن استعمال الألفاظ الوحشية الغريبة كما نهوا عن استخدام الألفاظ السوقية المبتذلة. فنجد الجاحظ في "البيان والتبيين"، وأبا هلال العسكري في "الصناعتين"، وابن رشيق في "العمدة"، وعبد القاهر الجرجاني في "أسرار البلاغة"، جميعهم يؤكدون هذا المعنى. وكذلك فعل أحمد الشايب في كتابه "الأسلوب"، حيث أوصى باجتناب الألفاظ الغريبة والوحشية، والاقتراب من لغة الناس المأنوسة. وقصيدة "راشد بن طناف" تجسد هذا المبدأ البلاغي والفني: لغة واضحة صافية، مألوفة لا مبتذلة، قريبة من الروح، عميقة في المعنى.

من خلال هذه الرحلة بين الشعر الشعبي الإماراتي، والشعر الفارسي المعاصر لشعراء يتصفون بعباراتهم الجزلة السهلة الممتنعة، وعبر المفاهيم البلاغية التي تعود إلى أرسطو وبلغاء العرب، يمكن أن نستنتج أن الإبداع الأصيل لا يقوم على الغموض المتكلّف أو اللفظ الغريب، بل على الصدق والوضوح والعاطفة الصافية. إن "راشد بن طناف النعيمي" حين ينشد للأم بلغة بدوية بسيطة يلتقي مع "إيرج ميرزا" و"ملك الشعراء بهار"، بل ومع "حافظ الشيرازي" و"جلال الدين الرومي"، في نقطة جوهرية: الشعر رسالة إنسانية كونية، قوامها الحب والحنان والجمال، لا تحدّها لغة ولا زمان ولا مكان.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى