الثلاثاء ١٧ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم يحيى محمد جاد محمد حساد

إشتقت إليك

2025

فلسطين، قطاع غزة، شتاء العام 2025م، مازال القصف منذ أن بدأ في اكتوبر من العام 2023م مُستمراً، ومازلتُ أذكر حديثه حينما إلتقيته بأحد معسكرات المقاومة، كنت حينها حديث عهد بالمقاومة، وكان هو أحد أشهر عناصرها القتالية الشُجعان، كان يكبرني بعشرة سنواتٍ.

أبوالحارث، هو نفسه ذاك الشخص الذي لقنَ العدو خسائرٌ فادة، كثيراً ما جلسنا معاً بسراديب المقاومة، كثيراً ما تحدث إليَّ ورفاقي لرفع روحنا القتالية أثناء تناولنا وجبة الإفطار، أول يوم لي بصفوف المقاومة، كان ذاته أول أيام شهر رمضان، كان الحصارُ حينها مُطبقٌ علينا، لقد حاصر العدو كل شبراً من القطاع، ما ذكرني بحصار قريش للرسول- صلى الله عليه وسلم- ومن معه المسلمينفي شعبِ أبي طالب لثلاثة سنينٍ عجاف، بقوا محبوسين، محصورين، ومُطبقٌ عليهم الخناق، مقطوعاً عنهم الطعام والماء، حتى بلغ الجهدَ والمُعاناة منهم مبلغه، وسمُعَ أصوات أطفالهم يضجون بالبكاء والعويل، والصراخ من وراء الشِعب فما أشبه اليوم بالبارحة، لم يقل الوضع في غزتنا عن ذاكَ؛ بل تخطاه إلى القتلِ والتقتيلِ بدماءٍ باردة.

كنت قبل هذا الشهر قد أنهيتُ دراستي بكلية العلوم قسم الفيزياء من جامعة القاهرة، فور إنتهائي، أحزمتُ أمتعتي، وأسلمت النية لله مجاهداً بعلمي، ونفسي، وروحي في سبيل الله، ومع مرور الوقت، تقريباً بعد إنقضاء نصف عامٍ من المقاومة، صرتُ مقرباً له..... ملازماً له تقريباً في كل عملية قتالية، بالرغم من شخصيته القوية الحاسمة؛ إلا أنه كان شخصاً مرحاً، مُحباً للحياة والحرية.

ذات يوم، أخبرني بأنه سيغيب عنا هذا المساء، سألته إلى أين؟.

أجابني قائلاً: "إلى مُخيمٍ للنازحين بالقربِ منا".

ثم إسترسلَ حديثه قائلاً: "إلى مُخيم الأحباء، سألتقي برفيقة دربي".

لقد كان ينوي الزواج منها ثاني أيام العيد، هو لم يُخبر أحداً غيري، كنا كثيراً ما نتحدث معاً حديثاً مطولاً عن أحلامنا وطموحاتنا في تحرير الأرض والعرض، وإقامة حياةٍ أُسرية آمنة، أخبرني بمدى حُبه لوطنه تماماً كحبيبتهِ، فقد خطبها من أباها منذ عامٍ، كانت تجري بدمائه كما الوطن، كانت دائماً ما تبدأ حديثها معه بجملة "إشتقتُ إليك"، في كلِ مرةٍ تلقاه تخبره بشوقها، ويتأسف هو حزناً على تركها، في كلِ مرةٍ يلتقيا ينهمرُ الدمعَ من مُقلتيهما، كان لقائهما حاراً بحرارة إشتياقُ السجينَ لنسيم الحرية.

كانا وطناً ثانٍ لبعضهما بعضا، كانا عوضاً ومؤاساةً لبعضهما بعضا بعدما أُغتصبَ وطنيهما، قصة حُبهما بدأت حينما إلتقيا في مُخيمٍ للنازحين أول مرة شمال قطاع غزة، حينها كانت السماءتُمطر داناتٍ وبارودٍ بالقربِ من مُخيمهما، لم تكن الأرض متوهجة من حممِ بارود ودانات العدو الغاشم؛ بل كانت كما لو وهج ميلادٍ جديدٍ للإنتفاضة والثورة.

لم يكن حُبهما مجردَ حُبٍ؛ بل كان كفاحاً مُقدساً يسعى لتحرير وطنيِهما، حُلم إسترداد الأرض توارثوه جيلاً عبر جيل منذ ذاك الوعد الآثم، وعد بلفور اللعين، كان الوعد إمتهاناً وإتجاراً مُقنعاً للأرضِ وما عليها من بشر، توارثوا الكفاحَ والمقاومة كما توارثوا جيناتهما، على ذلك الشريط اللولبي المزدوج المُسمى بــ "دي إن ايه" يولد أطفال فلسطين وخاصةً أطفال غزة.
وقد صدق قول الشاعر: "إذا سألوك عن غزة فقل لهم: بها شهيدٌ، يُسعفه شهيدٌ، يصوره شهيدٌ، ويحمل نعشه شهيدُ، زيُصلي عليه شهيدٌ". كنا نعيشُ القصفَ والتقتيلَ لحظةً بلحظة، لم تكن آلة العدوان الغاشم تُفرقُ ما بين صغيرٍ وكبير، رجلٍ أو إمرأة، حقاً قد إنتهكنا، وبات أمر إزهاق أرواحنا شفاءٌ لما في صدور أعدائنا.

كانا حينما يلتقيا لم يُعيرا أو يُلقيا لِما مرَّ بهما، ولا الذي مازال يمرُ ويحدثُ بهما أي بالٍ أو إهتمامٍ، وي كأنهما ولدا لتوهِما، كانا كما لو فعلاَ ذراً بدماغِهما لمحوِ كل ما أرق عيناهما، وكل ما فجعَّ قلبِهما، كانت أقصى أمانيهما أن يولد من جديدٍ، أن يهربا من بُئسِ واقعِهما، لكنهما أدركا حقيقةً واحدة أن الإنسان حينما يولد لا يستطيع أن يختفي، أدركا أن هروبهما كان هروباً مؤقتاً لا يلبث أن ينتهي بإنتهاء زمن الهروب على أقصى تقديرٍ أو على أدنى تقديرٍ حينما يستيقظا من نومِهما...... دعوني أقول لكم بملءِ الفاه: "أنني وأنكم، وأنهما قد عُكرت دواخلِنا".

لم تكن الأحداث من حولِهما أول الأحداثُ على الإطلاق أو لتوها؛ لكن سبقتها فيما قبل الأن صراعاتٍ ونعراتٍ نمت في صدور بني جنسي، وطفت إلى السطح، تنادي للتعصبِ، للتطرفِ، لفرضِ سلالاتٍ على أُخرى، وكأن الحياة حلقةً مُفرغةً تدور فيها الأحداث مراراً وتكراراً، منذ ما قبل التأريخ، وما إزدادت وتغلغلت فيما اصطلحه العلماء بالحقب التاريخية، تواترت الأحداث بتواتر عجلة الزمن، صعدت أمم، وأخرى في قعر القاعِ انحدرت وإنزوت.

كانت صراعاتهم على أرضٍ .... على ضرعٍ .... على موردٍ أو حتى على سلب حق الحياة لفردٍ بأقصى ركن الخريطة مُستضعفٍ منزوٍ، فردٌ كذبَ يوم صدقهِ، فردٌ خونَ يوم أمانتهِ، فردٌ قُنص كما تُقنص الطيور والحيوانات في البريةِ ... كُبلَ من معصميه وعند ساقيهِ بلأصفادِ قُيدَ وغُلل.

لم يختلف وضعنا في فلسطين وخاصة في غزتِنا عما قد حدث بمُخيمِها، إن ما حدث بنا في ظل الصمت العربي الصهيوني المدار بالوكالةِ والإرتزاق؛ لسوف يترك لكتب التاريخ الإنساني المُعاصر مادةً دسمة، ستفردُ لها كتب التاريخ الحديث صفحاتٍ سُطرت وسوف تُسطر بآهاتٍ وصرخاتٍ لأؤلئك الذين عُمِلوا كما تُعامل البهائم حينما يتسيد زمام أمرهم سيدُ باطشٌ آثمٌ قلبه، لانه لم ينبض بلين رحمةٍ. رواياتٍ عن كيف عُمِلوا؟.... كيف عانوا؟.... كيف تخلى عنهم الجميع دون أن يحرك ما حدث لهم ساكناً؟.

لم تقترف يد البشرية إثماً أعظم مما كان من حرب الإبادة العرقية على كافة الأنحاء والأصعدة، لقد كان تطهير العرق وبسط النفوذ للعرق الأوحد، للسيد الباطش، هو المُلهم والمُسيطر، لُطخت هامات أولئك الذين تسببوا في إندلاعِ حروبٍ للتطهير العرقي، أو حتى أولئك الذين طمعوا في أرضٍ لم جاورهم... لموردٍ لمن جاورهم، أشعلت أطماعهم بالكونِ حروبٍ عالميةٍ ومازالت رغم إنقضائها تتفنن في كيف تُشعل؟.

كأن هؤلاء لن ينعموا حتى يتراقص شبح الموت على جُثثِ ضحاياهم.... حتى يسلبونَ غيرهم أرواحهم.... حتى يبسطونَ أيديهم على كل أرضٍ، على كلِ موردٍ، على كلِ ضرعٍ، على كلِ زرعٍ، أو حتى وإن لم يكن على شيءٍ من ذلك، كان على سلب حق حياةٍ لفردٍ في أقصى ركن الخريطةِ مُستضعفٍ منزوٍ، فقط لمجرد أن وجودهُ لهم يُزاحم.... أو لأن مشهد حياتهُ لموضعِ أنظارهم غير مُكافيءٍ غير ملائمٍ.

ثورة حُبهما كانت إنتفاضةٌ صامته، كان يتركها بالأيام والأسابيع دون أ يلتقيا، تنزحُ هي إلى مخيم اللاجئين لكنها أبد لم تتخلى أو تترك وطنها، وهو الآخر كان يقضي تلك الأيام مجاهداً مختبأً من العدو بسردايب وأنفاق المقاومة..... يتركها مقاوٌ للعدوِ ..... يتحين فرصةً ليلتقيا، وحينما جاء موعد لقائهما، لأقاها شهيداً محمولاً على الأكتافِ ليلة عرسهِ، ليلفظُ أنفاسهُ الأخيرة على صدرها قائلاً لها: "إشتقتُ إليكي".

وكنت أنا من حملت الشهيدُ على كتفي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى