الاثنين ١٤ تموز (يوليو) ٢٠٢٥
بقلم سناء الشعلان

«أدركها النّسيان» لسناء الشعلان

الذّاكرة الجريحة وتمثيل الذّات الأنثويّة في رواية «أدركها النّسيان» لسناء الشعلان

بقلم: أ. د. عبد المنعم همت/ السّودان

تمهيد

في عالمٍ تتنازعه الذكرى والنسيان، وتقف فيه الذاكرة على حافة التلاشي، تأتي رواية "أدركها النسيان" للاستاذة الدكتورة سناء كامل شعلان كحكاية مكتوبة بماء الألم، ومغزولة بخيوط الحنين، تتقصى ما تخلفه الحياة من ندوب في الذاكرة الإنسانية، حين يتكالب الزمان والمجتمع على امرأة تجد نفسها بين مطرقة القهر وسندان التقاليد.

الرواية، التي تقع في أكثر من ثلاثمائة صفحة، تُجسدُ سيرة ذاتية متخيلة أو واقعية، لا فرق، بقدر ما هي سردٌ لرحلة نسائية تسير على درب الجراح النفسية، تفتح أبواب الذاكرة لتكشف لنا عن سيدة تُحاصرها الأعراف، وتخذلها العائلة، وتنهشها مؤسسات يفترض بها أن تكون راعية، لا قاهرة.

بطلتها، امرأةٌ وُلدت مرتين: مرةً في حضن عائلة تخلت عنها، ومرةً في خضمّ الألم الذي جعل منها شاهدة على الخذلان الإنساني في أوضح صوره. ومنذ الطفولة، تمرّ هذه الشخصية بجراحٍ متكررة تُغذيها بنيةٌ اجتماعية ذكورية وقيمٌ متكلسة، لترسم أمام القارئ رحلةَ سقوطٍ متكرر، تعلوه في النهاية نهضة إنسانية داخلية، نابعة من شعلةٍ لم يخمدها القمع.

لا يمكن اختزال الرواية في حكاية ظلم امرأة فحسب؛ بل هي منظومة من المشاهد التي تفضح انحراف المؤسسات، وتُسائل التواطؤ الصامت للمجتمع، وتُدين في الوقت ذاته عقدة الذنب التي يزرعها المحيط في ضمير الضحية. لقد استطاعت شعلان أن تخلّق من هذه التجربة المتفردة وثيقةً أدبية تتوسل بالبوح الصادق والانفعال الجواني لتكون مرآةً لانكسارات لا يُعلن عنها الكثيرون.

تنهل الكاتبة من اللغة شعريتها دون أن تنجرف في غواية الزخرفة؛ فالسرد عندها متوتر، موجع، متدفق، كأنه نزيفٌ لا يتوقف. تتنقل في سردها بين أزمنة الوجع، تارةً من خلال التداعي الحر، وتارةً عبر خط زمني تصاعدي تتكثف فيه الأحداث نحو ذروة شعورية تتقاطع فيها لحظات الخلاص مع الاعتراف الأخير بأن النسيان ليس سوى وهم جميل.

أما سناء شعلان، الكاتبة الأردنية ذات الحضور النقدي والأكاديمي والأدبي المميز، فهي صاحبة مشروع إبداعي واضح المعالم، يتقاطع فيه الأدب مع قضايا الهامش الإنساني، وتغوص فيه في أعماق الذات العربية المتعبة. تنتمي شعلان إلى جيل من الكاتبات العربيات اللواتي لم يكتفين بتوثيق الألم، بل حملن قلمه كأداة تفكيك وكشف، ومن ثم مقاومة ناعمة ضد ثقافة الإذعان.

في "أدركها النسيان"، تُحيلنا شعلان إلى مأساة أن تكون امرأةً في مجتمعٍ يكتب سطور الحياة بلغة الغلبة والتملك. لكنها، في الوقت ذاته، تفتح للذات الأنثوية أفقًا للشفاء بالكتابة، وللانتصار بالوعي، وللبقاء في وجه الريح التي أرادت أن تطفئها.

المحور الأول: تشكّل الذات الأنثوية بين القهر والنجاة

تدور الرواية حول بطلة تُساق إلى الحياة ككائنٍ هامشي، تائهٍ، يعيش على أطراف الاعتراف الإنساني. إنها تمثيل رمزي لامرأة عربية تكابد من أجل البقاء داخل مجتمعٍ يجرّدها من أدنى مقومات الكينونة.

منذ البداية، يتضح حجم الانتهاك النفسي الذي تعرضت له، إذ تقول:

«لم أعرف لي اسمًا إلا حين كبرتُ وبدأتُ أوقّع على أوراق المدرسة. حتى أمي لم تكن تناديني باسمي».
هذه الجملة الكاشفة ليست مجرد وصف لحالة نسيان، بل إعلانٌ عن هوية مسروقة منذ الطفولة، ومؤشر على ما تعانيه البطلة من اغتراب وجودي داخل أقرب دوائر الحياة، الأم والأسرة.

إن ما تمر به الشخصية ينبع من تَشظٍ داخلي ناتج عن هشاشة التجربة التأسيسية للذات. وتقول في أحد المواضع، واصفةً علاقتها بجسدها:
«كنتُ أرى جسدي كعقوبةٍ أعيش داخلها، لا أحتمل رؤيته في المرآة، وكأنه خذلني كما خذلني الجميع».
هذا النفور من الجسد هو انعكاس لبنية القمع، حيث يكون الجسد قيدًا ووسيلةً للعقاب.

يتضح أن الكاتبة تعمّدت تشييد سردية أنثوية تنبني على ما هو نفسي واجتماعي ووجودي في آنٍ معًا. البطلة لا تُساق من حدث إلى آخر، بل تُلقى داخل عالم من الانكسارات يبدأ من الأسرة ولا ينتهي عند حدود الحب أو المؤسسة.

وفي لحظة مواجهة مع ماضيها، تقول:

«لماذا لم يدافع عني أحد؟ لماذا كنتُ دائمًا وحدي، حتى حين كنتُ أحتاج إلى يد واحدة فقط تمسك بيدي كي لا أسقط؟».
هذا التساؤل المؤلم يحمل مرارة الماضي و يكشف عن غياب الحماية الرمزية التي تمنح الإنسان شعورًا بالأمان الوجودي.

وتتجلى قوة الرواية في أنها تقدم البطلة كحالة إنسانية تعيد إنتاج نفسها عبر الألم. تقول في أحد أكثر مقاطع الرواية دلالةً على النهوض الداخلي:

«أكتب لأنني أريد أن أستعيد نفسي، لا لأُشفى فقط، بل لأعرف أنني كنتُ موجودة حقًا في يومٍ ما، وأنّ كل ما جرى لم يكن وهمًا».

هنا تتحول الكتابة إلى مقاومة، إلى وسيلة لاستعادة الذات من حافة النسيان والانمحاء.

وهكذا، يتضح أن الذات الأنثوية في الرواية هي الراوي والمروي عنه، وهي التي تُنتج ذاتها من خلال الوعي بالخسارة. فبطلتها كأنثى لا تُعرّف وفقًا للأنوثة البيولوجية، بل ككائن يتشكل في مواجهة مجتمعٍ يراه خطأً عليه محوه أو معاقبته.

المحور الثاني: الزمن والذاكرة – تفكيك التتابع وتكثيف الأثر

يُمثل الزمن في رواية "أدركها النسيان" بنية دلالية وإيحائية تتقاطع فيها الذاكرة الشخصية مع الزمن الاجتماعي، واللحظة الذاتية مع التاريخ الكامن في الجراح. وتُحيل الرواية إلى أنّ الزمن لا يُقاس بالدقائق، بل بكمية الألم التي يختزنها، وبالندوب التي لا تمحوها تقلبات التقويم.

تتفادى سناء شعلان في بنائها السردي الخط الزمني التقليدي، فالرواية لا تبدأ من نقطة ثم تتصاعد نحو نهاية، لكن نجدها تقوم على انثيالات شعورية ومقاطع ذاكرية متداخلة. وهذا ما توضحه البطلة في قولها:

«في كل ليلة، تأتيني الوجوه التي رحلت، وتعود الأصوات التي لم يقلها أحد، تنبت الأحداث في رأسي كأنها وقعت الآن، كأنني لم أبتعد عنها ثانية واحدة».
هذا النص يعكس هندسة الزمن النفساني: الماضي يقيم داخل الحاضر، يوقظه تفصيل صغير، صوت أو رائحة أو حلم.

نلاحظ أن الزمن في الرواية يلتف دائريًا، كل حدث يفضي إلى استدعاء آخر، وكل مشهد يُحيل إلى وجع سابق. تقول البطلة:
«ما جدوى أن أعد السنوات التي مضت، وأنا لم أخرج من تلك اللحظة التي انهار فيها العالم من حولي؟».
إنها لحظة تأسيسية مجازية، لحظة السقوط الأول، التي تتكرر في صور مختلفة دون أن تُغادرها البطلة فعليًا.

تظهر الذاكرة في الرواية بوصفها أداةً للاسترجاع و للمقاومة وإعادة تشكيل الذات. تكتب البطلة لتحتفظ بذاكرتها حية، وكأن فعل التذكر بحد ذاته فعل وجودي ضد النسيان الذي يُفقد الإنسان شرعية شعوره.

وفي لحظة إدراك قاطع، تقول البطلة:
«لو لم أكتب، كنتُ سأنسى أنني عشت فعلًا. كنتُ سأصير منسية كما أراد الجميع».

هذا التصريح يجعل من الرواية وثيقة حياة، تُراد من خلالها استعادة الاعتراف بالذات في مواجهة تاريخٍ من المحو والتجاهل.
النسيان، الذي يبدو في العنوان وكأنه خلاص، يتضح أنه كابوس. فكلما أرادت البطلة النسيان، انفتحت الذاكرة على ألم جديد.
«النسيان لم يكن خلاصًا، بل كان موتًا بطيئًا. كان يعني أنني لم أعد موجودة، أن كل ما عانيته ذهب سدى».
الزمن الطفولي في الرواية يُمثّل ذروة التوتر الزمني. فخلافًا للتصور النمطي عن الطفولة كمرحلة براءة ودفء، تقدّم الرواية الطفولة بوصفها مصدرًا للخذلان الأول، وجرحًا لا يندمل.

تقول البطلة، في مشهد تستذكر فيه مؤسستها الأولى:

«كنتُ أرتجف في الليالي، لا صوت، لا يد، لا حضن. كنتُ أصرخ داخلي ولا يسمعني أحد».

هذا المشهد ليس استرجاعًا بقدر ما هو استنطاق لذاكرة الطفلة المهملة، وكأن السرد يتلو اعترافًا نيابة عنها.

ثم تتابع:

«تربيتُ على يد غرباء، لا أحد منهم ناداني بـ(ابنتي)... كانوا يقرأون اسمي في الأوراق ولا ينظرون إليّ».
إنه وصف دقيق لاغتراب مزدوج: الاغتراب عن الأسرة، ثم عن المؤسسة المفترض بها أن تعوّض الخسارة.
من الناحية البنيوية، تعتمد الرواية تقنية الزمن الدائري: حيث النهاية تعيدنا إلى البداية، والحاضر لا يُفهم إلا عبر نبش الماضي. هذه التقنية تُبرز كيف أن الإنسان لا ينفصل عن تاريخه الشخصي، وأنّ الجراح القديمة تُعيد إنتاج نفسها إن لم تُشفى.

وفي أحد المقاطع الحاسمة، تقول البطلة:

«كل ما ظننته انتهى... عاد إليّ. حتى الوجوه التي نسيت ملامحها، صارت تطاردني في النوم».
إنها عودة لا إرادية للذاكرة، حيث اللاوعي يُعيد ترتيب الزمن وفقًا لمنطق الوجع، لا منطق التقويم.
في "أدركها النسيان" يتحول الزمن إلى قوة داخلية تحكم حركة الشخصيات وتعيد تشكيل وعي البطلة بنفسها. والذاكرة وسيلة لتذكر الماضي، كما انها وسيلة لحماية الذات من الذوبان في الصمت.
إنها رواية كتبت نفسها ضد النسيان، واستخدمت أدوات السرد والزمن والبوح لتقول: أنا كنت هنا... ولا يزال في داخلي صوت لم يُطفأ.

المحور الثالث: اللغة والسرد – كتابة الألم بصوتٍ ناعم لا يصرخ

في رواية "أدركها النسيان" تتجلى اللغة كسلاح سردي يعري الألم بهدوء. تعتمد سناء الشعلان أسلوبًا نثريًا شاعريًا يتوسل المجاز، ويستبطن الرمز، ويبتعد عن المباشرة، حتى حين تتحدث عن أكثر التجارب وجعًا. إنها لغة ذات طابع تأملي داخلي، تُشيد العالم النفسي للبطلة أكثر مما تصف العالم الخارجي.

تبدأ الرواية برصد الألم عبر استعارات دقيقة، إذ تقول البطلة:

«ذاكرتي ليست دفترًا أفتحه وقتما أشاء، إنها جرحٌ إذا لمسته نزف، وإذا أهملته تعفن».

هنا تُقدَّم الذاكرة ككيانٍ حيٍّ مريض، يمتلك حياته وألمه، ما يضفي عليها طابعًا وجوديًا.

ويظهر في مواضع أخرى توظيف الصورة الشعرية للإفصاح عن مشاعر الخذلان:

«كنتُ أمشي بين الناس كأنني ظلّ فقد صاحبه».

الاستعارة هنا تقوم على تصوير الذات بوصفها ظلًّا لا ملامح له، مما يعبّر عن انمحاء الشخصية وسط قسوة الواقع.
الرواية تعتمد في بنيتها على السرد الداخلي، حيث تتحدث البطلة إلى ذاتها، تحاكم، تسأل، وتبوح. إن المونولوج هنا وسيلة اعتراف و تقنية كشف، تُفضح بها التصدعات.

في أحد المقاطع تقول:

«منذ متى فقدتُ قدرتي على الصراخ؟ لماذا حين كنتُ أصرخ لا يسمعني أحد؟ هل كنتُ أصرخ في داخلي فقط؟».
هذا التساؤل المتكرر يعكس بنية الأسلوب التأملي، حيث يُطرح السؤال بصفته وسيلة لفهم الذات.

الكاتبة تتعمد القطع الزمني والانتقال المفاجئ بين المشاهد الداخلية والخارجية، كأن النص يشبه شظايا ذاكرة لا تنتظم. هذا البناء يُعزز من الإحساس بالاضطراب النفسي، ويوظف الغموض كعنصر دلالي. تقول البطلة:

«لم أعد أميز بين الحلم والحقيقة، كل الأشياء اختلطت في داخلي، كأنني أعيش حياتين متوازيتين، ولا أنتمي لأيٍّ منهما»
تستخدم الكاتبة أحيانًا التكرار بوصفه أداة إيقاعية تحمل قوة تأكيدية، كما في قولها:

«أنا بخير. أنا بخير. أنا بخير... لكن قلبي لا يصدقني».

هذا التكرار البسيط المكثف يُحدث تأثيرًا دراميًا، ويمنح النص بُعدًا صوتيًا، كأن البطلة تتحدث إلى القارئ مباشرة في اعترافٍ علني.
الجسد حاضر في الرواية بوصفه كيانًا مُعذبًا ومقموعًا. تقول البطلة:

«جسدي شاهد على كل ما مررتُ به، كل ندبة تحكي قصةً صمتُ عنها طويلًا».

اللغة هنا تسند المعنى إلى الجلد والجرح، لا إلى الذاكرة وحدها، فالجسد يصبح ورقة غير مكتوبة بقدر ما هو موثَّق بالندوب.

المحور الرابع: السلطة والمجتمع – المرأة في مصيدة القمع المؤسسي والخذلان الاجتماعي

تكشف رواية "أدركها النسيان" عن بنية اجتماعية قاسية، تُجرد المرأة من إنسانيتها باسم القانون، والتقاليد، والاعتبارات المجتمعية. إذ ترسم الرواية خارطة معقدة من علاقات السلطة، حيث تتشابك السلطة الذكورية بالسلطة المؤسسية، وتتآمر العائلة مع المجتمع على كائن هشّ يُدعى المرأة، ليُحاصر في قفص مزدوج: داخلي من الألم، وخارجي من الوصاية والرقابة.

في الرواية، تظهر الأسرة بوصفها السلطة القامعة الأولى. تتحدث البطلة عن علاقتها بالأم بمرارة دامغة:
«أمي لم تكن أماً، كانت سجّانة تنتظر لحظة ضعف لتدينني. لا أتذكر حضنًا، ولا كلمة دفء. كأنها أنجبتني صدفة، وتركتني عقابًا للسماء».

هذا التوصيف القاسي يُدين نموذجًا أموميًا منحرفًا نشأ في ظل ثقافة تعتبر البنت عبئًا يجب التخلص منه.

وتُكمل البطلة في موضع آخر:

«كنتُ أستجدي من أبي نظرة، لكنه كان يعاملني كأنني دخيلة على بيته. لم أسمع اسمي على لسانه يومًا دون أن يكون مسبوقًا بنفور».

هكذا يتأسس داخل الرواية وعي مبكر بأن الطفلة ليست مرغوبًا فيها، وأنّ المجتمع يبدأ قمعه من البيت.

الرواية تفضح القواعد الاجتماعية التي تضع المرأة دومًا في موضع المتهم، حتى حين تكون ضحية. ففي أحد المواقف، بعد تعرضها لانتهاك جسدي، تقول البطلة:

«قالوا لي: تستحقين ما حدث، من طلب الحرية يتحمل الثمن. لم يسألني أحد: ماذا جرى؟ أو من الجاني؟ بل حاكموني قبل أن أعرف كيف أدافع عن نفسي».

هذا المشهد يتجاوز كونه اعترافًا شخصيًا، إلى كونه شهادة على ثقافة تلوم الضحية وتبرئ المعتدي، ما يجعل من المجتمع سلطة رمزية تضغط دون أن تتلطخ يداها مباشرة.

تحضر في الرواية مؤسسات الدولة – كالمدرسة، والدار، ومكاتب الرعاية – بوصفها كيانات بيروقراطية باردة، تؤدي دورها دون عاطفة، ولا تمنح أي معنى للكرامة أو الرعاية.

تقول البطلة عن دار الأيتام:

«كانوا يطعموننا كالدواب، لا أحد ينظر في عينيك، ولا أحد يسأل لماذا تبكي. كل شيء يمضي كما لو كنا أرقامًا على ورقة، بلا قيمة».

وفي هذا التصوير، يتجلى بوضوح النفي الرمزي للذات من قبل مؤسسات يفترض بها أن تكون مصدر الأمان.
حتى حين تعتقد البطلة أنها وجدت في الحب مهربًا، يتحول الرجل إلى شكل آخر من السيطرة. فتقول، واصفة أحد علاقاتها:

«أرادني أن أكون ظلّه، لا صوت لي ولا رأي. كنتُ مجرد مرآة تعكس له صورته المتضخمة. لم يحبني، بل أحب شعوره بالسلطة عليّ».

الحب هنا يضاعف القيد، حين يُعاد إنتاج منطق الهيمنة العائلية في علاقة عاطفية.

من أكثر أشكال السلطة حدةً في الرواية، هو سيف الفضيحة المسلط على رقاب النساء. تقول البطلة:

«كلما أردتُ أن أصرخ، قالوا لي: اصمتي، لا تفضحي نفسك. وكأنّ الصمت شرف، والصراخ عار».

هكذا تتجلى آليات القمع الثقافي التي تجعل من الصمت فريضة اجتماعية، وتمنع الضحايا من الخروج من دوائر الألم.

المحور الخامس: الكتابة كفعل مقاومة – من التدوين الشخصي إلى التوثيق الوجودي

في رواية "أدركها النسيان"، تبدو الكتابة وسيلة تعبير أدبي أو تطهير داخلي من زاوية ، لكنها في زاوية أعمق ، تصبح فعلًا وجوديًا مقاومًا للنفي، واستعادةً رمزيةً للكينونة. البطلة تكتب لأنها تواجه خطر التحول إلى مجرد أثر، إلى هامش في ذاكرة الآخرين، أو إلى رقم في ملفات مغلقة.

تقول البطلة في موضع شديد الدلالة:

«حين أمسكتُ القلم لأول مرة، شعرت أنني أتنفس. لم أكن أكتب، كنتُ أعيش من جديد».
هذا الاعتراف يضع الكتابة في مرتبة الأوكسجين، فهي ضرورة بيولوجية تقريبًا، شرط للبقاء.

وتقول أيضًا:

«كلما كتبتُ، استعدتُ جزءًا من نفسي. كنتُ أرتب الفوضى التي في رأسي، وأضع للوجع أسماء، وأجعل للماضي نهاية».
الكتابة هنا عملية ترميم نفسي وعقلي، تُحيل الألم إلى معرفة، والفوضى إلى بناء سردي ذي معنى.

في مجتمعٍ يُحبس فيه الصوت، وتُمنع فيه المرأة من البوح، تصبح الكتابة مواجهة رمزية للمنظومة بأكملها. ولهذا تقول البطلة:
«كنتُ أخاف أن أموت صامتة، ألا يعرف أحد أنني تألمتُ يومًا، أنني حُرمت من أشياء كثيرة. الكتابة كانت وسيلتي لأقول: أنا هنا، مررتُ من هذا الطريق».
إنه إعلان وجودي، مقاومة ضد الاختفاء، وتثبيت للحضور الفردي في وجه ثقافة تنكر الفرد وتُقدس الجماعة.

الرواية ، توثق تجربة أنثوية فريدة، كما أنها تُمارس ما يمكن تسميته بـالتحريض الناعم، حيث تُقدّم النموذج لا بوصفه استثناءً، بل جزءًا من نمط متكرر في الواقع. بطلتها تشبه نساء كثيرات صمتن. الكتابة إذًا تحرّك الأسئلة في ذهن القارئ:
– كم امرأة مثل هذه عاشت وماتت دون أن تقول كلمتها؟

– وكم مرة خذل المجتمع ضحاياه ثم صمّ أذنيه عن الصراخ؟

وهكذا، فإن الرواية، وإن بدت صوتًا فرديًا، إلا أنها تُراكم ذاكرة جمعية أنثوية، وتُؤسس لوعي نقدي اجتماعي عبر السرد.

خاتمة:

في ظني أن "أدركها النسيان" شهادة مكتوبة على قسوة الواقع حين يصطدم بجسدٍ هشّ وقلبٍ وحيد. استطاعت سناء الشعلان أن تُنطق الألم دون صراخ، وأن تُعري القهر دون ادعاء بطولي، فجاء نصها مشبعًا بالشجن، محكمًا في بنائه، صادقًا في بوحه، حادًّا في نقده.

تنقلت الرواية بين الأزمنة كأنها تعبر خرائط الوجع، وبنت شخصيتها النسوية على رماد الخذلان، لكنها لم تسقط في هاوية الاستسلام، بل استعادت ذاتها بالكلمات. وفي استخدام اللغة، نجحت شعلان في صنع سرد شعريّ النَفَس، عميق المعنى، تتجاور فيه الهمسات مع الصرخات المكتومة.

إنها رواية تُكتب من الداخل، تقف على تخوم السيرة والتخييل، وتستدعي القارئ لا ليتعاطف فحسب، الرواية تحرض القارئ ليفكر، ليسأل، وربما ليغيّر.

"أدركها النسيان" عمل أدبي يظل في الذهن كوشم، لا يُمحى بسهولة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى