

أحلام يافا وياسين
يافا فتاة فلسطينية في السادسة عشر من عمرها تعيش مع أمها وأخيها الأصغر ياسين في حي القصاصيب بمخيم جباليا شمال قطاع غزة تدرس يافا في الصف الثاني الثانوي في إحدى المدارس هناك وقد أظهرت نبوغا وتفوقا في دروسها ما أهلها للحصول على لقب الطالبة المثالية لعامين متتاليين ,بينما أخوها ياسين والذى يصغرها بعامين فهو الآخر يتميز بالألمعية والذكاء الحاد .لقد فقد الأخوان والدهما في سن صغيرة قبل عشرة أعوام في القصف الهمجي الإسرائيلي الذى طال قطاع غزة فى عام 2014 فتألم الجميع لفقده وتأثرت نفسية يافا كثيرا بفقد الأب الذى تركها صغيرة لم تشبع بعد من حبه وحنانه وتباينت مشاعر الأسرة وقتها بين الحزن والفخر بالشهادة حيث كانت موتته مدعاة للفخر والاعتزاز بين أبناء القطاع وصورة من صور البطولة فقد أخبرتها أمها بملابسات موت أبيها إذ بينما هو عائد من عمله وجد اثنين من الشبان أصيبا بقذيفة صاروخية أطلقتها طائرة حربية إسرائيلية فهب مسرعا دون أن يخشي طلقات الرصاص لنجدة الشابين واقتادهما على وجه السرعة بسيارته إلى مستشفى كمال عدوان لإسعافهما وتمكن من إيصالهما بسلام إلى المستشفى وبينما هو عائد إلى البيت استهدفته قذيفة أطلقتها طائرة حربية إسرائيلية كانت تتربص خروجه فأردته قتيلا واستشهد في الحال.
ومنذ ذلك التاريخ اتخذت يافا قرارها بأن تصبح طبيبة عندما تكبر لتسير علي درب أبيها المناضل ولتخفف أوجاع الناس الذين اثخنتهم الحروب و المآسي لقد أرادت لنفسها أن تكون ملاك رحمة في وطن مقهور ينزف من ظلم المحتل وأن تخفف عن الجرحى والمصابين فنحن نقف فوق أرض مغتصبة يجثم عليها احتلال غاشم مهووس بإراقة الدماء
لقد كان لحادثة استشهاد والد يافا أثره الكبير في تحديد أولوياتها وتوجهاتها عندما تكبر وتتخرج من الجامعة، أما ياسين فكانت أحلامه هو الآخر نابعة من محنة وطنه وهو أن يصبح صحافيا لينقل هموم وأوجاع قطاع غزة المقطوع والمعزول عن العالم أجمع، لقد أبلغا الأم بأمانيهما وأثنت عليهما و من وقت لآخر كانت تنهل من أرشيف الزمن المختزن في ذاكرتها المليئة بصور ومشاهد من النكبات الكثيرة التي مرت علي هذه الأرض المكلومة وتحكى للأبناء عن ذكريات طفولتها وصباها مع الاحتلال ذكريات لم يعاصراها ولم يعرفاها ولكنها تتكرر في كل فترة وفي كل جيل بأيدي نفس المجرمين الذين استباحوا دماء أصحاب الأرض
وكيف أن هذه الأم هي الأخرى قد استشهد والدها على يد العصابات الصهيونية ومضت تقول لأولادها. لقد كان أجدادكما يسكنان في مدينة يافا وتم تهجيرنا منها بالقوة الجبرية وسحل والدي أمام عيني حتى الموت لأنه رفض المغادرة وانتهى بنا المطاف إلى النزوح قسرا من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب في جباليا ولكني لم أنس مدينتي يوما ولذلك اسميتك يافا على اسم مدينتنا السليبة التي شهدت مولدي وطفولتي وصبايا
استمعت يافا إلى هذه الأحداث المؤثرة والمؤلمة التي أججت نقمتها على المحتل الغاصب وزاد تصميمها هي وأخوها على النجاح والتفوق ليواجها هذا المحتل بسلاح العلم فقالت يافا لأمها إنها ستذاكر دروسها وتتفوق في تعليمها لأنها تريد أن تصبح طبيبة جراحة تجرى الجراحات والإسعافات للحالات الحرجة فهذا هو التخصص الذى يحتاجه وطننا ويحتاجه شعبنا، وتحمست الأم لتطلعاتها ووعدت بأن تقف إلى جانبها بكل ما تملك وكل ما تستطيع حتى تحقق لها أمانيها بأن تصبح طبيبة تخفف عن هذا الشعب المكلوم الذى ارتبط قدره بالتضحية والنزيف من دماء أبنائه .فكل تجاربنا الحاضرة والماضية مع اليهود أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أنهم أهل خبث وشر ليس لهم عهد ولا ذمة ولن نأمن على أرواحنا طالما ظلوا جاثمين على هذه الأرض هكذا قالت يافا تحدث أمها ومضت تقول لذلك يراودني الأمل في أن أصبح طبيبة مشهورة لخدمة أهلنا وقت الخطر وأن يذيع اسمى وينتشر في الأوساط العلمية كأفضل طبيبة في جباليا، وأن تكون لي أبحاثي في هذا المجال مثل عالمنا الدكتور سفيان عبد الرحمن تايه ابن جباليا الذي صنف ضمن أفضل اثنين من الباحثين في مجال الفيزياء لذلك فأنا أتعجل اليوم الذى أصبح فيه طبيبة تداوى الجرح وتخفف الألم فالمآسي والمذابح في وطننا لا تهدأ والدماء تراق بغزارة فوق هذه الأرض المقدسة ، وإذا بالأم وقد ربتت على كتف ابنتها وكررت وعدها وتصميمها بأنها لن يهدأ لها جفن إذا كان في العمر بقية حتى تراها بالبالطو الأبيض.
أما ياسين الأخ الأصغر فهو حاد الذكاء ولا يقل تفوقا عن أخته الوحيدة, وكان لديه طموح جارف منذ الصغر بأن يصبح صحفيا لامعا عندما يكبر لينقل الأحداث عن كثب في مدينته التي أطبق عليها الاحتلال الحصار والعزلة وقطعها عن العالم الخارجي وحول أهلها لفئران تجارب لكل جديد في ترسانته التدميرية حتى أن هذا الصبى المولع بالعمل الصحفي كان وهو ما يزال في الصف الرابع الابتدائي يدعونه بالصحفي الصغير حيث كان يرتدى سترة الصحفي المكتوب عليها كلمة PRESSفي احتفالات المدرسة والتي اشترتها له الأم في عيد ميلاده لتشجعه على مواصلة الحلم و كان يرافق وهو في هذه السن الصغيرة الصحفي سامر أبو دقة الذى زار مدرسته ذات مرة وعبر له عن رغبته بأن يكون مثله عندما يكبر، ولكن بعد نحو عشر أعوام من أحلام يافا وياسين وتحديدا في العام 2023 أطلقت كتائب القسام الذراع العسكري لحركة حماس عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر ردا على انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي فى الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفى المقابل أطلق الاحتلال المدعوم أمريكيا عملية عسكرية في قطاع غزة أطلق عليها السيوف الحديدية وقصف القطاع بشكل همجي مستهدفا كل مناحي الحياة والبنية التحتية ولم يستثنِ كبيرا أو صغيرا أو رضيعا من القصف الوحشي فهاجم المشافي والمدارس والملاجيء وخيم الإيواء وقد تكثف القصف العنيف على المناطق التي شهدت مقاومة للاحتلال مثل جباليا التي تسكن فيها يافا وأسرتها حيث ضربت الأحزمة النارية أحياء كاملة فطال القصف منزل يافا وتهدم المنزل فوق رؤوس العائلة فاستشهد ياسين وأمه وبقيت يافا محشورة لساعتين تحت ركام المنزل إلى أن تمكن الأهالي من إخراجها حية، كان وجهها معفرا بالتراب وأثار دماء تسيل من رأسها وظلت تبكى وهى مذهولة لا تصدق ما حدث لها ولأسرتها، كان المشهد رهيبا ومرعبا بحيث لم يستوعب عقلها ما حدث لذلك رأيناها تسأل مسعفيها في ذهول عن أمها وأخيها وعما إذا كانت ما تزال على قيد الحياة أم طالها الموت.
ثم قالت والدموع تسيل من عينيها ممزوجة بالتراب خبرني يا عمو هل ما أراه هو الواقع أم أنني أحلم ثم أخذت تصرخ بعدما شاهدت جثمان أمها وأخيها والشباب يحملانهما إلى مثواهما الأخير. فانتابها الوجوم وكأنها تحلم وغابت عن الوعى لفترة من قسوة الصدمة. وحاول المحيطون بها إفاقتها ولكنها كانت تفيق للحظات تسأل عن أمها وأخيها وتعاود الانهيار، وسرعان ما أفاقت لتسال عن السبب فى كل ما جرى وعن الذنب والجريمة، لماذا يحصد هؤلاء الصهاينة أرواحنا ويستكثرون علينا الحق في الحياة؟ وظلت تصرخ وتحسبن وتشتكى إلى الله وقد أعياها البكاء والنحيب فاستسلمت للنوم وفى المنام استحضرت صورة أمها وهى تعدها بأن تقف إلى جوارها لحين تحقيق أحلامها هي وأخيها حتى تصبح شخصية علمية معروفة مثل العالم الدكتور سفيان عبد الرحمن ووعودها لياسين بأن تظل في ظهره حتى يصبح صحفيا شهيرا مثل أبو دقة ولكن الاحتلال لم يستثن أحدا الدكتور سفيان المثال والقدوة قد استشهد في القصف، والصحفي أبو دقة استشهد أيضا و أخوها استشهد قبل أن يحقق حلمه في توثيق النكبات التي يعيشها هذا الشعب بل إنه هو نفسه تحول الى نكبة جديدة والأم التي قطعت الوعود وكانت صادقة في كل ما وعدت بأن تبقى إلى جانبها قد غيبها الموت ولم يبق من أهل يافا على هذه الأرض سواها تقف وحيدة على أنقاض الحلم لتبقى شاهدة على الأحلام الموؤدة وانتهاك حرمة الحياة على هذه الأرض المقدسة، ولكنها برغم كل ذلك تابي أن تستسلم لليأس أو القنوط، ومازالت متمسكة بالحلم وبالأمل إرضاء لدماء الراحلين رغم قسوة ما نالها، ففي الأمل انتصار علي غطرسة الطغاة والمستبدين، فروحها صلبة خرجت شامخة من تحت الأنقاض أقوي من أن يهزمها موت أو تتقبل هزيمة وأقسمت علي الصمود والمقاومة حتي الرمق الاخير وإن لا تنسحب من أرض المعركة وإن تظل حارسة لحبات التراب التي تحتضن رفات الآباء والأجداد وأن لا تمل من الصمود