

«يسوع الفداء» صلاة شعرية معلقة بين الجلجلة والقيامة
قراءة تحليلية في قصيدة الدكتور حاتم جوعيه
في زمنٍ أُطفئت فيه الشموع في القلوب قبل الكنائس، وفي عصرٍ باتت فيه الخطيئة تلبس أثواب الحداثة، وتُبرر القسوة تحت عباءة الواقعية، تنبعث قصيدة الدكتور حاتم جوعيه،"يسوع الفداء”، كأنها صلاة قديمة جديدة، تُستعاد لا من كتب اللاهوت وحدها، بل من عمق التجربة الوجودية، ومن وجدان مصلوب على أسوار هذا الشرق الجريح.
ليست القصيدة نشيدًا فصحيًّا يُتلى في مواسم العيد فحسب، بل هي فعل إيمان، ومرآة شعريّة تُجسِّد مسار الفداء من مذود بيت لحم إلى خشبة الجلجلة، مرورًا بالدموع والمسامير والصليب، وليس انتهاءً بالقيامة، التي لا تتحقق عند الشاعر إلا حين تُفكّ قيود المقهورين، ويستعاد رجاء الشعوب الظامئة للخلاص.
المسيح كحلم وجودي: بين التجسد والتحرير
يفتتح الشاعر قصيدته بنداء ينتمي إلى نبرة الابتهال لا الخطابة:
يا إلهَ الفِدَا وحُلمَ الوجودِ
جئتَ بالحُبِّ والسَّلامِ الوطيدِ
هنا يُستدعى المسيح لا كرمزٍ لاهوتي مجرد، بل كحلم وجوديّ، كحقيقة تجسّدت وسط فوضى الخلق، لتعيد للكون توازن
فـ”الفداء"في رؤية الشاعر ليس عقيدة محصورة في الكتب، بل ممارسة يومية تُترجم في الحب اللامحدود، والسلام المتجذّر، والانبعاث من رماد الجمود.
بين الميلاد والقيامة: تواتر الضوء في مفاصل القصيدة:
يمرّ الشاعر في سرد شعري لا يخضع لمنطق الخط الزمني الصارم، بل يخضع لانسياب النور بين المحطات المقدسة.
كانَ في مذوَدٍ وفي بيتِ لحمٍ
حَمَلُ الرَّبِّ… مُدْرَجًا في المُهُودِ
إنه حمل الله، لكنه أيضًا الطفل البشريّ، الذي اختار مذودًا لا قصرًا، وفقرًا لا غِنى، ليبدأ رحلته نحو الصليب.
وفي مشهد الميلاد، كما في مشهد الفداء، يعيد الشاعر بناء العلاقة بين السماء والأرض، بين المجوس الذين أتوا من البعيد بنور النجم، وبين الراعين الذين سمعوا البشرى في البراري، وكأن القصيدة تصير جسرًا بين الأعالي والمُهمّشين.
الصليب: طهارة الألم وجغرافيا المقاومة
ما يجعل القصيدة ذات طابع نبويّ وإنسانيّ، هو تحويل الصليب من أداة عذاب إلى أيقونة خلاص، ومن سلاح قهر إلى راية مقاومة روحية
واحتضنتَ الصَّليبَ دونَ انحناءٍ
دمُكَ الغالي قد بذلتَ بجُودِ
في هذه الأبيات، يتجاوز يسوع صورة الحمل الوديع ليصير بطل الفداء، لا بحدّ السيف، بل بعمق الجُرح.
وهو لا يقاوم الشرّ بشرٍّ مضاد، بل يحتضن الموت لينتصر عليه، ويستحيل الدم النازف ماءً حيًّا يغسل به الخطايا، كما يغسل العطاش في الصحارى المعنوية.
اللافت أن الشاعر يصرّ على حضور الصليب لا كذكرى بل كمعاشٍ يوميّ:
وصليبُ الفداءِ ما زالَ رمزًا
لعذابِ الشعوبِ … بل للصُّمودِ
إنه الصليب الفلسطينيّ، الصليب العراقيّ، الصليب السوريّ، الصليب الأرمني، الصليب العربيّ، الصليب الإنساني، المصلوب في كل بلدٍ نُكبت فيه الحقيقة، وجُلدت فيه الكلمة، وسُفك فيه الطهر باسم الرب أحيانًا، وباسم السوق أحيانًا أخرى.
يسوع كقصة حب راديكاليّة للإنسان
يمضي الشاعر في عرض المسيح كذروة للحب الإلهي، لا ذلك المترفع عن الأرض، بل المتجسد في كل مظلوم وجائع ومصلوب:
أنتَ عَلَّمتنا المَحبَّةَ بذلٌ
دونَ أخذٍ تبقى وَدُونَ حُدودِ
بهذا البذل، ينقلب منطق العالم: فالذي يعطي هو المنتصر، والذي يغفر هو الأقوى، والذي يُحبّ دون شروط هو المُخلِّص.
وفي قلب هذا المنطق، تنبثق رؤية شعرية للمسيحية لا كمجموعة تعاليم بل كعقيدة فعل، وعقيدة تجسّد: حيث المصلوب يسكن في كل إنسان منتهَك الكرامة، والمسيح لا يقوم إلا حين ننهض عن غفلتنا.
رؤية سياسية باطنية حين تصير القصيدة فعل مقاومة:
ورغم غياب المباشرة السياسية، إلا أن القصيدة تحمل خطابًا نضاليًا ضمنيًا، يربط الفداء بالتحرير، والقيامة بالخلاص الجمعيّ:
"منكَ يرجُو الخلاصَ..هلْ مِنْ مُجيبٍ
والصَّدَى تاهَ في الفضاءِ المَديدِ"
تُطرح الأسئلة الكبرى بصوت الشعوب لا الكهنة، وتُنادى السماء من الأرض، وكأن القصيدة تستنطق يسوع المصلوب في وجع الشعوب العربية.
نعم، هو المسيح الفلسطينيّ، لا بالهوية الجغرافية وحدها، بل بالتاريخ الذي ما زال يعيد صلبه في القدس ورام الله وغزة وحيفا.
الأنوثة المقدسة: مريم كأم ومعنى وأرض: -
لا ينسى الشاعر أن يُسند القصيدة على حجر العذراء، فهي ليست تفصيلًا عابرًا بل الحاضرة في كل مفصل:
"وسَلامٌ عليكِ أيَّتُها العَذراءُ
… ما زلتِ خيرَ أمٍّ وَلُودِ”
في هذا السلام، تُغلف القصيدة بالحنان والدفء، ويُعاد إحياء صورة المرأة الأمّ، التي ليست تابعًا في مشهد الخلاص، بل شريكة الصليب، وسيدة الحضور، ومحراب الحنان.
الخاتمة: الشعر كقيامة والقصيدة كأيقونة مفتوحة: -
لا تنتهي"يسوع الفداء"عند القيامة كحدث لاهوتي بل تمتد إلى خلاص الإنسان، كل إنسان، من الجحيم المعاصر:
"لا خلاصًا سوى صليبكَ يبقى
يا رجاءً لنيلِ كلِّ الوعُودِ"
هنا تُختصر القصيدة، وتتلخّص النبوءة، وينفتح الأمل، لأن الخلاص لا يكون بسلطةٍ ولا بطائفة، بل بصليبٍ من نور، يمرّ عبر الجلجلة، ويُنصب على تلال هذا الشرق النازف، تمامًا كما نُصب على تلال الجليل منذ ألفي عام.
“يسوع الفداء"ليست فقط قصيدة عن المسيح، بل عن الإنسان، عن الوطن، عن الأمل حين يُصلب، والحب حين يُجلد، والخلاص حين يُنهض من بين الرماد.
هي قصيدة تُتلى لا من فوق المذبح فقط، بل في قلب السجين، وعلى شفاه أمّ تنتظر عودة ابنها من منفًى أو معتقل.