
يجمع العالم في واحد
ليس على الله بمستنكرأن يجمع العالم في واحد
قال ذلك أبو نواس في مدح الفضل بن ربيع، فالحديث هو عن المفرد الذي يمثل الجميع، لأنه يجمع مآثرهم وأفضالهم كلها.
اتُّهم المتنبي أنه أخذ معنى أبي نواس، وذلك في قوله:
ولقيتُ كل الفاضلين كأنمارد الإلهُ نفوسَهم والأعصُرانُسقوا لنا نسقَ الحساب مقدَّماوأتى فذلك إذ أتيت مؤخَّرا
(البديعي: الصبح المُنْبي عن حيثية المتنبي، ج1، ص 472).
فالمتنبي يظهر ابن العميد أنه جمع في علومه علوم أرسطو والإسكندر وبطليموس، بل لقي بلقائه ( أي الممدوح) كل من له فضل وعلم من المتقدمين، فكأن الله أحياهم ورد عصورهم حتى لقيتهم كلهم. يعني أن فيه من الفضل ما كان في جميع الفضلاء.
ومعنى المتنبي يمكن أن نرجعه أيضًا إلى ابن الرومي حيث قال في ممدوحه:
فلو حلفتُ لما كُذِّبت يومئذٍأني لقيت هناك العُجمَ والعربا
وهذا التمثيل للجميع يذكرنا بقولة جرير:
إذا غضبتْ عليك بنو تميمحسبتَ الناس كلَّهمُ غضابا
قيل إن هذا البيت أفخر ما قاله العرب.
من أجمل ما قرأت في هذا الباب- أبياتًا من مرثِيَة لأوْس بن حَجَر، وهو شاعر جاهلي فحل رثى فيها فُضالةَ بن كَلَدَة:
أيتها النفس أجملي جزعاإن الذي تحذرين قد وقعاإن الذي جمع السماحة والنجدةوالحزم والقُوى جُمعاالألمعي الذي يظن بك الظنكأن قد رأى وقد سمعا
فالبيت الأخير يشير إلى الفقيد الألمعي أي الذكي المتوقد الحديد اللسان والقلب، فهو يتظنن الأمور فلا يخطئ، وكأنه كان قد شاهد وقد سمع الحدث.
المفرد هو العالم كله صورة تتردد في الشعر في العصورالأدبية المتأخرة:
يمدح الشاعر الدمشقي فتيان الشاغوري (ت. 1318 م) ممدوحه، فيقول:
يا من هو العالم في دهرنايحويه جسم واحد في مكان
ونجد مثل ذلك في مبالغات الرثاء، فيقول أبو مسلم العماني (ت. 1919):
عجبًا من نفسه تحملهفتية وهو على الكون اشتملْجمع العالم في حيزومهأترى العالمَ في القبر نزل
ثم إن أدونيس كتب مجموعة شعرية وسمها بـ (مفرد بصيغة الجمع)، وفيها تشابك صور ورؤى انطلقت من مفرد- هو الشاعر، ومن يدري فقد يمثل بها جمعًا.
أما في القرآن:
فلا بد من الإشارة إلى هذاالتمثيل حتى ولو اختلف في مؤداه، وذلك فيما ورد في الذكر الحكيم:
مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ- المائدة، 32.
وهذا المعنى ورد مجازًا لبيان أهمية ما يصنعه الإنسان للإنسان خيرًا أو شرًا.
كذلك ورد في القرآن:
إن إبراهيم كان أمّة قانتًا- النحل، 120 ومن التفسير لهذا الجزء من الآية:
أي قائمًا مقام جماعة في عبادة الله.
وروي في الحديث الشريف: "يُحشر زيد بن عمرو بن نُفَيل أمّة وحده" ففي موقع الشبكة الإسلامية islamweb.net رقم الفتوى 108641 يشرح ذلك بأنه يبعث وحده كما تبعث كل أمة بمجموعها، وذلك لمكانته عند الله.