الأربعاء ٢٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨

من كفِّ جَدّتي

بقلم: لميس حجة
(إذا كان الشتاءُ
فأدفِئوني
فإنَّ الشيخَ يهدِمُهُ الشتاءُ)
من بيتِ عزلتي قصدتُها
سعيتُ في دروبِها
من كفِّ جدّتي
(وسْطَ الزحامِ والضجيجِ) خِلْتُني
هَرَعتُ فانزلقت
بَصَّرتُ في ردائِها
جَدَدْتُ خلفَ صوتِها
أهيمُ في عُجالةٍ
على خُطى عَطالَةٍ
كأنني المجنونُ
أو بشَطرِ قلبِهِ العُضالْ
وحُبِّهِ المشؤومِ والسؤالْ
مشيتُ بين الشمس والظلالْ
وكانَ للنهارِ ساعتانْ ويُطفَأُ الزوالْ
بين الزقاقِ والزقاق خُطوتانْ
وفي الوصيد طفلتانْ
تلهُوانِ تعثُرانِ تنهَضانْ
وشرفةٌ وشباكان
يعابثان عابرَ الطريق
بوجهِ شادنٍ يطل من ستائر الحرير
يضمِّخُ الهواء بالعبير
لبرهةٍ وجيزةٍ من الدوار لا تطول
فالذي يراهُ لا يفيق من ذهول
وقد هوى لتوه من سُلَّمٍ
تدلى من حرائق البخور
ثم اختفى كما بدا
وظلَّ خاتَمِ العقيقْ
في بَنَانِ شهرزاد
يطرزُ الحكايا في البلاد:
(هناك في حدائق الفردوسْ
مع السواقي والورود عاشقان
مُتيَّمانِ مُغرمانِ مُدنفان
وُقهرمانةٌ عجوز
وتاجرانِ من بغدان
وطفلةٌ صبيةٌ غنوجْ
لغائبٌ عن الديار في البحار
وثمَّ زوجةٌ وحاسدٌ غيور
وظامئٌ إلى الجهاد في الثغور
هناك ما يعجُّ
من بدائعِ الدهور)
عبرتُ في الطريق
وكف جدتي المعروق
يدور بي كطلسم مسحور
أخُبُّ في الركائبِ العتيق
يحيط بي الحمامُ
كالمُبَلبلِ المَشُوق
وغامضُ الحجارة الجليلة
تقودني بصمتها
وتفتح الدروب
لعاشق مريد
بصحن مسجدٍ
يحاور السماءَ كي تفيض
للشَّقيِّ والعَصيِّ والعنيد
بالرحمة الجميلةْ
رأيت فيما قد عرفتُ
بابَها الشرقيَّ و(الأصيلةْ)
ورحلةَ الدروبِ والحواري
ولُحمةَ العمارةِ الحميمةْ
كأنما أدورُ في خميلة
من غابةٍ لغابةٍ
فلا أضلُّ أو أَضيعُ
أو يَقَرُّ لي قَرارْ
َوجَدتُني فُجاءَةً
أمامَ بيتِ جَدِّيْ
في الجوارْ
لكنني في لحظتي
(من وَحشت)
بدوتُ ثَمَّ بُرهةً
كأنَّني دخيلةْ
(وقالوا غريبٌ طارقٌ
طَوَّحَتْ بهِ
متونُ الفيافي
والخُطوبُ الطوارحُ)
في ساحةِ الديارِ ما جلَستْ
من مَشْتَلِ الأزهارِ ما قَطفتْ
هريرُ قطِها العجوزِ (ما يريمُ قُربَ الجبِّ)
ما سَمعتْ
أتابعُ النافورةَ الصغيرةْ
في خَرِّها البَطيءْ
وبابَ قبوِ( المونةِ) الوَطِيءْ
ومَطلِعَ الأدراج
ونجمتان تعلوان زُخرُفَ الشبَّاكِ والأقواس
وما امّحى مِنْ وردِها والآسْ
وغيمةً كبيرةً من الغياب
لعله سراب
يطوف في وجوم
وقفت في عباءة السكون
أُديرُ مقلتانِ أو حُلمان يعبران
مشارفَ الفناءِ والخلودْ
أغوصُ في صيرورة الوجود
لكنّها عوائدُ الليمون والنارنجِ والأجاص
تخلصتْ بطيئةً لقلبيَ المسكونِ بالأشباحِ والجليدْ
وعادتِ الحياةُ من جديدْ
تضجُّ في (البيوتِ ) كالأجراسْ
وغادَرت عَصائبُ الغبارْ
من مكتباتِ الحائطِ المَنْسِيَّةِ الإطارْ
وحائلِ السجادِ والأستارْ
وعادتِ الخالاتُ والعمّات والجارات
ومُثلجُ الشرابِ في (الكاساتْ)
وخَفقَةُ العودِ البهيجِِ والآهاتْ
في مُلْتَقى (القَبولْ)
على سُرادقِ الربيعِ وردةُ الفصولْ
وزنبقُ الحياةِ في الجذور
ياأنتَ، هل هجرتْ سُقْيَها!
أمْ أنّها تَحُول
(ودِّعْ ُهريرةَ إنّ الركبَ مُرْتَحِلُ
وهل تُطيقُ وداعاً
أيها الرجلُ)
صعدتُ (للمُربَّعِ) الكبيرِ حيثُ جدّتي تنامْ
وجسميَ الصغيرُ قربَها يلوذْ
ومُفزَعاً وخافِتاً بدفئِها يعوذْ
من طائِفٍ من جانْ
يَحومُ في المكانْ
ويغزُلُ الأشْراكَ في طِرادِهِ
لِيُوقِعَ البناتِ والصِّبيانْ
في قاعِ بئرها بمائِه الرَجْراجْ
سمعتُ مُبهَما حديثَهُ المِغناجْ
وغلَّ يستريح
في الحقِّ
في غَيابةِ المحيطِ
في النسيانْ
وقفتُ
في نَصاعَةِ السطحِ المُضيءِ في المساء
رأيتُ جدتي تُتَمتِمُ الدُعاءْ
وتَرقَبُ السماءَ في الغروبْ
والطيرَ والحمامَ إذ يؤوبْ
لبيتِ جارنا معَ الأذانْ
وهَدْأَةَ المدينةْ
إبّانَ يقطُرُ الأمانْ
ويَنزِلُ السلامُ للقلوبْ
مع الظلالِ والطيوبْ
ويحضُنُ المدينةَ العتيقةَ التقيَّةَ اللعوبْ
سمعتُ صوتَ قلبِها الحزينِِ والدَؤوبْ
أقْرَأتُ سيفَ الدولةِ السلامْ
وعينَهُ التي مفتوحةً تنامْ
على الثُغور والعَتادِ والبِلادْ
قصدتُ قصرَهُ الّذي أَضَعْتُ في الرهانْ
فما عَرفتُ مطلقاً
أأينَ كانَ كيف كانْ
وأين سارَ؟ أو أراحَ مدَّهُ،
ومن ملا بلاطَهُ؟
ومن تُرى الغريبُ! دقَ بابَهُ
ومن ترى المنكوبُ والمنهوبُ
من هوَ المَدينُ والمُدانْ
(ولو أنَّ شيئاً يُستطاعُ
استطعتُهُ
ولكنّ ما لا يُستَطاعُ
شديدُ)
طوَّفتُ ناظري
في مُطلَقِ المدينةْ
مسحتُ دمعةً من مُقلَتي
ودمعةً من خدِّ جدّتي
وكنتُ قد ظننتُ أنني دفنتُها
من ألفِ عام
وأظلَمَ المكانْ
بقلم: لميس حجة

 الأصيلة: حارة في حلب القديمة
 القبول: اجتماع شهري دوري لمجموعة من النساء تجمعهن قرابة أو معرفة
في حلب القديمة ولا تزال له بقية


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى