

رجلٌ يُحيي ورَجلٌ يُميت
واسيني الأعرج وجوزيف زيادة بين الوفاء والغدر
"أتمنّى أن يأتي بعدي من يُنصفني"، مقولة لِمَي زيادة، دفعت الروائي واسيني الأعرج، من خلال ثلاث سنوات من البحث الدؤوب عن مذكراتها؛ ليحقق أمنيتها، فهل أنصفها واسيني الأعرج كما تمنّت فعلًا؟
الرّوائي المبدع واسيني الأعرج لم ينصف مي زيادة فقط إنما أحياها في قلوبنا من جديد، بحلّة إنسانية إبداعية، عندما كرّس وقته وجهده طيلة ثلاث سنوات من البحث عن مخطوطة مذكرات زيادة الضائعة "ليالي العصفورية"، التي سجّلت فيها يوميّاتها فترة حجزها في مستشفى الأمراض العصبية والنّفسية فيبيروت، حيث زجّها بها الشخص الأقرب على قلبها، والذي عوضًا عن منحها الحب التي أمِلَته، منحها الموت المتجدد بأبشع أشكاله، عندما غدر بها، وانتهك إنسانيتها وكرامتها، فانتفض الإنسان والأديب في شخص واسيني الأعرج وفاء لها، وما فعله واسيني عندما عثر على يومياتها أعاد ترتيبها وترميم ما فقد من كلمات محتها دموعها وهي تروي بياض صفحاتها، تبثّ لها حزنها وقهرها مما ألمّ بها طيلة ثلاثمائة يوم في سجن العصفورية.
حرص الأعرج على كسب ثقة القارئ عندما ألقى بين يديه تجربة مي ومعاناتها، كحقيقة معاشة وملموسة؛ ليتماهى في واقعها المؤلم الذي عانته، والظروف البيئية والاجتماعية على تماس زمكاني كان سببًا فيما وصلت إليه زيادة، فمهّد في الفصل الأول في كتابه "ليالي إيزيس كوبيا: ثلاثمائة ليلة ولية في جحيم العصفورية"، من خلال حديثه عن الجهد الكبير الذي بذله بمساعدة الباحثة روز خليل للاستدلال على مكان المخطوطة والتوصل إلى المفردات
المفقودة منها.
على الرغم من انشغال الكثيرين بمأساة مي زيادة، ومحاولتهم إنصافها، إلا أنها بقيت في إطارهم سرًّا دفينًا تلاشى مع تاريخ عيشها حية في حقبتها، في حين أن واسيني الأعرج أحيا مي في مذكراتها فجعلها الراوي وجعلنا نستمع لها وهي تحكي وجعها وذكرياتها ومغامراتها في حركة سيكولوجية تتعمق في باطنها مخرجة أهواءها ورغباتها حتى وإن كانت صادمة للقراء في بعض المواضع، بهدف التعرف على ما خفي من جوانب في شخصيّة مي، مستعينًا بإبداعاتها، ومحيطها الأدبي وتشابكه مع حياتها، وتفاعلها مع المؤثرات المهيمنة في ذلك الزمن، ودورها في وضع الخطوط الحمراء لها.
لقد تجاوز واسيني الأعرج التنقيب في حياة مي النفسية والاجتماعية والأدبية؛ لينتج نصًّا يرتقي لمستوى مي الإبداعي، إنما قارب بين أدبها وتاريخها؛ ليشكف علاقات النص الأدبي بمجتمعها الذي ولدت فيه، وبلور هذه العلاقات؛ ليمنحنا منتجًا أدبيًّا حول مي في إطار مروية تاريخانية، سعت إلى قراءة كل ما أنتج عن مي من وثائق وقصاصات صحافية، وشحن هذا الخطاب بطاقة جمالية إبداعية.
إن هذه الرواية إنما هي بمثابة دراسة تلقي الضوء على الثقافة السائدة في تلك الفترة الزمنية، التي تظهر من خلال النص الأدبي الذي عالجه واسيني، فالأدب لم يميز رواد النهضة الثقافية الذين تمركزوا في صالون مي الأدبي من الذكور، ولم يرتق بمستوى تفكيرهم أو علاقاتهم أو رؤيتهم للمرأة، إنما وجدناهم يتقبلون فكرة "الجنون" عن صديقة وأديبة كبيرة مشهود لها بثقافتها العالية وأدبها الراقي، فنجدهم يتخلون عنها وينقلبون ضدها، ليكشف "الجنون" بذلك عن مرض دفين عند الرجل الشرقي نفسه، يعكس عقدة ذكورية متأصلة عصيّة على الحداثة، لا ترى في المرأة إلا أداة متعة لا اعتبارًا وجوديًّا لها، ولم يكن تناص واسيني مع "ألف ليلة وليلة" عفويًّا، إنما موجّهًا هادفًا، يمنح مي مساحة من البوح كما شهرزاد؛ لتنقل مأساتها، وتصور ألم اللحظات التي عجزت فيها عن مقاومة الفناء والتشبث بالحياة، بعد متوالية من الصدمات النفسية الحادة التي لازمتها، من وفاة أبيها وأمها وصديقها جبران، واستغلال أقرب الناس لها، ابن عمها جوزيف زيادة، الذي أحبته ووثقت به ولجأت إليه ليكون سندها في تلك المحنة الصعبة من الفقد المتوالي، لكنه استغل محنتها النفسية للإيقاع بها وغدرها وإيصالها للعصفورية بغرض الاستيلاء على أملاكها، فأنكر إنسانيتها واستباح آدميّتها بذكوريته المتسلطة وسلطته الاجتماعية وعقليته المتخلفة، دون أدنى اعتبار لإنسانيتها، وصِلَتِها به، أو لمستواها الثقافي ووضعها الأدبي والاجتماعي، وهي التي كانت تظن " أن هذا لن يحدث إلا للأخريات، وها أنا ذي أواجه الكابوس نفسه، لا فرق بيني وبين أي امرأة عادية"، هذا فضلًا عن المؤسسة الطبية التي احتجزت مي، والتي لم تكن سوى مؤسسة عقابية تستمع من طرف واحد "جوزيف" وتحكم بناء على ذلك، مما أصابها بحالة اختلال شعوري وهي تنكمش على ذاتها وتصبح سبع وعشرين كيلو، فتتحول من إنسانة بكامل ألقها، محور اهتمام والتفات الأنظار إليها، إلى كائن ضئيل معزول، أدخلها في حالة فصامية اكتئابية تكشف أزمة مي مع الآخر من خلال شكوكها حول محاولات قتلها بالسم، لنجدها وقد تفاقمت حالتها مع نهايات حزينة رافقتها حالة الاكتئاب السوداوي التي أدخلت مي في اضطرابات داخلية وميول عدمية، نتيجة الضغط
والعنف الممارس ضدها.
إن أجمل ما في هذه الرواية أن واسيني ترك مي الراوية تبوح بصوتها، دون أن يستلم هو زمام اللغة كراوٍ عليم، جاعلا من مي بطلة رواية مفعول بها، إنما دخل إلى دواخلها النفسية وسلمها مقاليد اللغة لتعبر بتكثيف رشيق ينقل حكاية تراجيدية تخللها الكثير من الجروح والكدمات والصدمات، لتكون الرواية وثيقة تاريخية أدبية إبداعية تعكس دواخل مي النفسية الوجدانية قبل أي شيء آخر.
لقد تمكن واسيني بوفائه الكبير لكل جزئية في حياة مي أن يكشف عن بؤرة المأساة الحقيقة لها والتي تمثل مأساة أي امرأة مثقفة متعلمة أديبة لكن في داخلها أنثى تبحث عن الحرية والحب في وقت تربّت فيه منذ نعومة أظفارها بين جدران العادات والتقاليد والحلال والحرام الذي قيد أنوثتها ومنعها من اكتشاف الحياة بطرق صحية سليمة، مما حدفها مخطئًا إلى حائط أعوج تستند عليه، فانزلقت في متاهة ذكورية عمياء طعنت في عقلها وكرامتها، عوضًا عن احتوائها ولملمة أحزانها ورتق جروحها، لتجد في موتها الراحة والحرية التيبحثت عنهما دون جدوى في عالم مشوّه مريض، ومحيط بارد لم يتمكن من منحها الدفء الذي نشدته طيلة حياتها.