السبت ١٦ آب (أغسطس) ٢٠٢٥

اَلذِي يَتَذَكَّر

إسلام محمد زكي زغلول

جدول المحتويات

سواد الشمس
الذي يتذكَّر
روح مرسومة
أثر الرماد
الأفق المهجَّر
لن يُغفر لك

(1)
سواد الشمس

في زاوية مظلمة إلا من ضوءٍ خافت يتسلل من سراج قديم، بات «أدهم» يدامر الليل كلَّه، يتقرَّع على فراشه بين سهادٍ متواصل، وأفكارٍ مزعجة. زاغ بصره من كثرة ما بَرِق، وانعكس على وجهه عبء الألم العميق الذي في قلبه يحمله.
في تلك الليلة العتماء انتبه أدهم إلى صوت خافت غريب؛ يصدر من غرفة أبنائه الضيقة. تجاهله في المرة الأولى، لكن الصوت عاد ليهز أعماق خوفه من جديد، هذه المرة بوضوح أكبر. بخطى متثاقلة حذرة تقدم نحو غرفتهم، وعندما اقترب وفتح الباب، وجد أبناءه الأربعة مستيقظين بعيون مفتوحة قلقة، نظر إليهم نظرة تهديد لا تخلو من قسوة. فلم يستطيعوا إخفاء رعبهم.. انتقلت عيونهم من وجهه المخيف وحدقت إلى يده بارتعاب.. لم يأت والدهم وحده.. في يده مسدس قديم يترنح بين أصبعه ببطء مفزع.

عاجله أكبر أبنائه سائلا في لهفة: أبي.. لماذا؟

لم يكن السؤال قد تلاشى بعد، حتى جاء الرد صاعقًا: صرخة ابنته قبل أن يوجه «أدهم» مسدسه نحوهم. بينما تلاشت كلمات الابن وصرخاتهم في أذن أبيهم، تجمّد الزمن في تلك اللحظة، استحوذت سحب الألم والقنوط على قلوبهم. حدّق أدهم في وجوه أطفاله الشاحبة، كما لو كانت تعكس فقدانًا لا يمكن استعادته، غرقت عيناه في بكائهم البائس، ثم ببطءٍ قاتل رفع المسدس وهو يتمتم بحرقة:

سامحوني.. لا أريدكم أن تكبروا في هذا الجحيم الخانق.. منذ رحيلها.

شد الزناد، غير أنه وقف متجمدًا للحظات وبكاء أبنائه يزداد كلما ثبّت فوهة المسدس نحوهم. في عمق روحه ثمة قرار مختلف ولد في لحظة الخوف المرعبة هذه. في لمحة بصر سقط على ركبتيه أمام أبنائه؛ وبصوت منكسر نادم قال:
اغفروا لي، لن يعاني أحدٌ من الألم بعد الآن.

تنفس أبناؤه الصعداء، حين أدركوا أن الخطر أخيرًا قد تلاشى، وأن النجاة كتبت لهم مع انتهاء نوبة أبيهم. تراكمت الدموع على خدي أدهم، بينما ارتجفت يداه، ثم ألقى سلاحه على الطاولة، وهدأ صراخ أبنائه فحل الصمت في المكان، وتوقف هو عاجزًا عن تفسير ما فعل.

غداة ذلك، في غرفته.. جلس على طرف السرير، يحدّق في الزاوية نفسها التي اعتادت أن تقف فيها كل صباح، تمشّط شعرها بهدوء. لم يحتج يومًا إلى الصور ليتذكرها؛ ذاكرته تحتفظ بتفاصيلها كاملة، كأنها أبدًا لم ترحل. كانت تسبق نهاره بخطوة، تفتح النوافذ، تشرع في يومها دون ضجيج، كما لو أنها تعرف كيف تمرّ بجانبه دون أن تمس هشاشته، تلك التي لم يعترف بها حتى لنفسه.

لم يرَ فيها مجرد زوجة، بل اتساقًا نادرًا في توقيت كلماتها، اتزان ردودها، قدرتها على جمع شتات الأشياء دون أن تُشعره يومًا بالفضل. بعد رحيلها، لم يخسر شخصًا فحسب؛ بل فقد التوازن.

وراح يكرر الأشياء -كما اعتادت أن تفعل- كأن التكرار سيمنعه من الغرق.

في الأيام التي تلت.. ظلَّ أدهم غارقًا في صراع داخلي مرير؛ يتساءل بشكٍّ عميق: إن كان قد أبقى على حياة أبناءه حقًّا، أم أنه فقط أطال أمد عذابهم؟ وهل يرديهم أم يتركهم فريسة للفقر، بلا أم ترعاهم، ولا قريب يمد يد العون!
تلك الأسئلة ترددت في عقله بلا هوادة، فقرّعت رأسه وزعزعت كيانه.

بينما يتغلغل أدهم في معاناته يومًا بعد يوم، زاره صديقه عمره المقرب «سمعان» بعد غياب دام عامًا كاملًا؛ قضى تلك الفترة في رحلة مع الكنسية في دير ناءٍ، بغرض التأمل في أسرار اللاهوت والإنسان. طرق الباب، وما إن لمح أدهم حتى قال على الفور:

لماذا يبدو وجهك شاحبًا هكذا، كيف حالك؟

نظر إليه بعينين يغمرهما الحيرة والتعب، ثم سرد ما جرى في تلك الليلة الحالكة. وختم حديثه بصوت مرتجف: لم أكن أعرف ماذا أفعل، بدت الحياة لي مظلمةً وكئيبة بلا مخرج! كل شيء ينهار ولم أعد قادرًا على السيطرة على نفسي.

عندما سمع سمعان هذا الحديث، انتابه القلق وتساءل باندهاش صادق: ولكن، كيف؟ كيف خطرت لك تلك الأفكار، وأنت أعقل وأدين الناس في زمن محنة الطاعون؟

فكر أدهم طويلًا قبل أن ينبس بحرف؛ باحثًا عن إجابة في دهاليز ذاكرته الضبابية، نادمًا على تلك الأيام التي كان فيها معالجًا في الكنيسة.

لا أعرف، في بعض الأحيان تحدث مني أشياء غريبة. ذات مرة كدت أن أعدّ طعامًا لأبنائي ممزوجًا بمنظف الأوعية.. المصيبة أن الأمر بدا لي طبيعيًا للحظة، ولم أدر كيف أوقفت نفسي. كأن شيئًا ما في داخلي يشتعل ويحترق، شيء يتحكم بي، لا أستطيع تفسيره أو تحديده، لكنه هنا.

أشار أدهم على قلبه فكشف ذراعه، فرفعها أمام سمعان بتردد وقال بصوت خافت:

انظر إلى ذراعي، في ليلة سابقة شعرت أنها ليست نظيفة، فغسلتها مرة بعد مرة. حككتها حتى كشطت جلدي، ظللت أفركها وكأنني أريد نزع شيء من تحت الجلد نفسه!

بعد أن أنصت سمعان لتلك الأمور المروعة، تجلّى قلقه تدريجيًا، وتحولت ملامحه، انبثقت على وجهه تعابير متناقضة من الحيرة والوجل، متسائلًا عن طبيعة ذلك الشيء الغامض -الذي يدفع صديقه إلى هذا الحد.

لم يكن يدرك تمامًا ما عليه فعله. تراوحت الأفكار في ذهنه، وظلت الأسئلة عالقة في رأسه، بعد أن غلف الغموض سلوك أدهم، ومع ذلك، كان هناك يقين واحد يسطع في عقله: لا بد أن يبقى إلى جانبه، مهما تكالبت عليه الأقدار.
نظر إليه طويلًا، ثم قال بصوت خافت يعبق بالشفقة:

أتعلم؟ ما زلت أرى ظلها يثقل كاهلك، كأنك لم تترك الحداد أبدًا.. وكأن ذكراها تعيدك كل ليلة إلى حافة الانهيار.

لم يجب أدهم، واكتفى بأن أطرق رأسه، وبكى في صمت. ربّت سمعان على كتفه وطرح إثر عجزه نصائح عفوية بالثقة، والتجاهل، والنسيان وغيرها، خُتمت بقوله:

سآخذك إلى الكنيسة، وليس لك أن ترفض.

تلك الجملة كانت بمثابة صاعقة انطلقت في لحظة هدوء؛ فمزقت صمت اللحظة، وأشعلت عقل أدهم ومشاعره، مما زاد حدة الخوف والرهبة التي كانت تتسارع في قلبه!

احتج أدهم -بطريقة جنونية: لا.. لا، الشياطين.. هناك... لا.. لن يأخذونني للجحيم!

صرخ مرتعبًا ومعارضًا، محاولًا بيأس تأنيب سمعان وتثنيته عن فكرة الكنيسة للأبد.

رغم جهود سمعان المستميتة لتهدئة صديقه إلا أن الأخير انزلق بمرور الوقت في دوامة من الذعر والهلع، وتوغلت الأفكار المظلمة في عقله أكثر فأكثر؛ تبتلع كل شعاع من الأمل. ودون وعي منه، بدأ صوت مظلم يهمس في روعه وينفث في قلبه سمومه، دافعًا إياه نحو الجنون.

ارتخت حبائل عزمه، ونزل الرعب قلبه، حتى بات يخاف من سمعان! صرخ متهمًا إياه بأنه يحاول إلحاق الأذى بأبنائه، ذهب للمطبخ وجلب سلاحه، وبسرعة ثبّته في رأس صديقه؛ وأمره بصوت متصلب أن يبقى دون حراك في مكانه.

وهكذا -دون سابق إنذار- تحول منزل أدهم إلى سجن مظلم، محاطٍ بجدران من الخوف والشك والجنون، بعد أن قيد العجز سمعان وسلمه لأدهم والمسدس.

وفيما كان أدهم يصرخ ويتلعثم بتهديداته، كان سمعان يكافح جاهدًا لتهدئته، ويخبره بأن كل شيء سيكون على ما يرام، وأنهما سيجدان مخرجا من هذه الفوضى. لكن كلما تحدث سمعان، كان الوهم يسيطر على عقل أدهم أكثر فأكثر، حتى تحول إلى مهووس لا يميز بين الحقيقة والخيال. وبينما غلب الخوف، أقدم على حجز سمعان داخل غرفة موحشة مظلمة.
صاح سمعان محاولًا إضاءة بصيص من النور في عقل صديقه: لماذا تفعل هذا؟ أنا لست خطرًا على أبنائك، أدهم. هل تستطيع أن تسمعني؟

لكن أدهم لم لم يبدِ أي استجابة، بعد أن ملأته الهواجس وغلفته الأوهام، وسكنت الأفكار السوداء عقله. ثم قال: لا تتحدث، أنت.. أنت تريد أن تؤذيهم، ابتعد.. أريدك بعيدًا عنهم.

مع مرور الدقائق، بدأ أدهم يتحرك بتوتر غير معتاد، يغسل يديه بلا توقف، يتأكد مرارًا من إحكام غلق الأبواب، بينما يتملكه الخوف، حاول سمعان بكل حكمة تهدئته؛ مؤكدا له أنه لا يشكل أي تهديد على أبنائه، لكن لا شيء كان يهدئ من روعه. وفي وسط هذا الضياع، رفَع سمعان رأسه إلى السماء، وتمتم بخشوع بعد العجز:

يا إلهي كيف الخلاص.. كيف الخلاص؟!

في عتمة الظلام الذي خيم على الغرفة وأطيق على النفوس، رأى سمعان بعينيه المذعورتين أشياء من حوله بدت كطقوس غامضة، خرجت من كابوس مفزع، بقع حمراء تبدو كآثار دماء، خرق محترقة، ودمى مكسورة بوجوه تشبه الطيور. في تلك اللحظة أمسى سمعان أسيرًا لأدهم، بينما كان أدهم أسير نفسه.

اقتاد أدهم أولاده المذعورين إلى أسرّتهم، ومسح على رؤوسهم بكفّ مرتجفة، هامسًا لهم بكل حنو:
لا تخافوا.. لن يقترب منكم أحد، أنتم بأمان.. الآن.

في اليوم التالي، حيث ازدادت هواجسه، عاد أدهم إلى الغرفة فوجد صديقه ما يزال جاثيًا على الأرض، يبكي بحرقة، يتمتم بأدعية مبعثرة. اقترب منه ببطء، وعلى وجهه مسحة من الحيرة والرعب، ولفّ يده حول المسدس؛ يبحث فيه عن يقينٍ مفقود.

وفجأة، دوّى صوت رصاصة؛ أصابت المكان برعشة، وارتجف الهواء نفسه للحظة وقت اختراقها جسد سمعان.

خرجت صرخة مكتومة من صدره، بعد أن سكنت الرصاصة كتفه، فتهدّل جسده، وسقط على الأرض متألمًا؛ يحدّق في أدهم بعينين غير مصدّقتين.

رفع عينيه بصعوبة، والدم يتسرب من كتفه، وصوته يرتجف بين الألم والخذلان:

لِمَ يا أدهم؟! أنا صديق عمرك، ورفيق دربك، أنا إشبين عرسك، أنا من وقف إلى جوارك حين مل منك الجميع، أتردّ لي الجميل هكذا؟!

تجمد أدهم في مكانه، وكأنما خرج من ذاته، لم يصرخ، فقط نظر إلى الدم، إلى صديقه، إلى المسدس.. ثم همس بصوت مشوّه:

لم أقصد.. أردت فقط أن يتوقف هذا الصراخ في رأسي.
اقترب منه أكثر، يزحف كأنما يتحسس طريقه في حلمٍ غريب، ثم نظر إلى الدم المتفجّر من كتف سمعان وقطّب حاجبيه بضيق.

ماذا فعلتَ؟ لماذا تُوسّخ الأرض؟ انظر.. الأرض ملأى بدمك!

نظر إليه بشيء من الذهول والاتهام، ثم أردف وهو يومئ برأسه كمن اكتشف الحقيقة للتو:

نعم.. أنت السبب، في كل شيء.
ثم، وبنبرة وادعة لا تليق بالموقف، أردف:
لا تخف.. سأعتني بذراعك. لا بد أن ينظف.
كانت عيناه لا تنبأن بالرحمة، وكذلك النصل الذي أمسكه بين أصابعه المرتجفة.

رفع السكين الذي لمع بريقه تحت خيط من الضوء تسلل من النافذة، وغرسه في ذراع سمعان وأخذ يكشط من جلده وينهل من لحمه دون حذر.

صرخ سمعان، صرخة هزّت جدران المكان:
أدهم! ما الذي تفعله؟! أفق!
لكن أدهم كان كمن انفصل عن هذا العالم، غارقًا في هواجسه؛ يبحث عن شيء لا يدركه سواه في جسد صديقه.
اقترب سمعان بيده المرتجفة نحو كتف أدهم راجيًا اياه، باحثًا عن خلاص. ومع تزايد الألم، استجمع سمعان كل ما بقي فيه من وعي وقوة، ثم انتزع يد أدهم من عليه بعنف، ثم ضربه في وجهه دفعة واحدة، صوت الاصطدام كان كصفعة تعيد الزمان لنصابه.

ترنّح أدهم، كأن صدى الضربة أيقظه للحظة، وفي غمرة هذا الارتباك، جذبه سمعان من ثوبه وجرّه نحو الخارج، ساحبًا إيّاه بما تبقّى من شفقة ووفاء، منتشلًا صديقه من براثن الهلاوس.

استعاد أدهم وعيه قليلا؛ فوجد نفسه مكبّلًا بسلاسل باردة تعض معصميه وقدميه. أمامه؛ تراقصت ألسنة لهب متلألئة من سقف كنيسة محفورة في ذاكرته، يعرف تفاصيلها كما يعرف وجهه.. إنها كنيسة القرية القديمة، تلك التي هجرتها الصلوات منذ زمن، وحفظت جدرانها صدى أنين الذين قتلوا فيها خطأً خلال سنين الطاعون الأولى؛ حين كان يُعتقد أن العذاب يُطهّر، وأن النار والسياط دواءٌ للجسد الموبوء.

وبعد أن توغّلا في أعماق الكنيسة ممرًا تلو ممر، وصلا إلى مكان غامض بالداخل، شعر سمعان وقتئذ بثقل أنفاسه، واجتاحته رهبة مفاجئة ، وهمس الهواء من حوله همسات غامضة بدت كصلوات وتراتيل من مكان بعيد. تلفّت من حوله، وقلبه يرتجف، توقف ثم انحنى بأدهم، ووضعه بتؤدة على الأرض، كمن يسلّمه لمصير أعلى منه وأقدس.
جثا على ركبتيه، وأطبق يديه بإحكام، وشبّك أصابعه المرتجفة، وبدأ يهمس بصلوات خافتة.. صلوات خرجت من أعماق الحزن، متضرعًا بإيمان يائس:

يا رب، أنك ترى ما لا نرى.. لا تتركه، لا تتركه يغرق في هذا السحر والمس.

ما كان يجهله سمعان وبقية الكُهّان أن ما يُرى على أنه مسٌّ شيطاني أو سحر، هو في الحقيقة: مجرد تجلٍّ لمرض نفسي معقد، اختلط فيه الخوف والوسواس القهري ومرارة الفقد، فتخبط العقل في ظلمات لم يعرف لها علاج بعد.
وفجأة، من ظلال الممر الطويل، خرج رجل يرتدي ثوب راهب، لم يره سمعان من قبل. خطواته كانت صامتة، كأن الأرض لم تشأ فضح حضوره. اقترب بروية، وحدّق في أدهم المستلقي بصمت، ثم قال بنبرة هادئة لا تشي بالاستغراب ولا بالخوف:
إن صاحبك باع روحه للشيطان وأسكنه جسده.

شهق سمعان، وتجمد في مكانه. كان يعلم أن صديقه يتألم، لكن الكلمات نزلت عليه كصفعة باردة، فانسلت من عينيه دمعة صامتة.
اقترب الراهب برفقة اثنين من مساعديه، وانحنوا برفق على أدهم. كشفوا عنه الغطاء ببطء، وبدت معالم جسده المشوه واضحة تحت النور الخافت:

علامات ناتئة، خدوشٌ والتهابات متناثرة، توحي بمعاناة طويلة، تحول فيها الجسد إلى ساحة لصراع داخلي عميق.
ارتجف سمعان من هول ما رآه، وامتقع وجهه حتى غلبه الغثيان، تقيأ وهو يبعد نظره في رعب، تحول جسد صديقه إلى مرآة دامية لا يقوى على رؤيتها. أما أدهم، فظل جامدًا، لا ينبس بكلمة، وجهه كتمثال أُفرغ من الحياة، عيناه تائهتان في فراغ غريب.
اقترب الراهب أكثر، ووضع يده على رأس أدهم، وبدأ يتلو عليه صلواتٍ بصوتٍ متصاعد، تتقلّب بين الرجاء والإنذار، ثم صاح بنبرةٍ تهتزّ لها الجدران:

هذا ما يصنعه الغياب عن النور.. هذا ما تفعله الروح حين تُرهقها الذنوب، هذا ما يفعله التجديف، والكفر!
لم يستطع سمعان أن يصمت، فاندفع قائلاً بصوت مكسور:

لكن أدهم… كان من أكثر أهل القرية إيمانًا، قولًا وفعلًا. أيها الراهب المبجل، لا يمكن أن يكون...
قاطعه الراهب بحدة، وقد تغيّرت نبرته كليًّا:

ما يسكنه الآن شيء ليس منه. قلبه تُرك مفتوحًا، فدخل ما لا ينبغي.
إنه بحاجة إلى ختم يُوقظه من هذا الظلام؛ فيبرأ.. ثم، بخطوات واثقة، دار حول جسد أدهم، يحمل أداةً معدنية مشتعلة عند طرفها، اقترب بها من صدره، فصرخ أدهم صرخةً اخترقت قلب سمعان، صرخةً لا توصف، كأنها خرجت من أغوار نفسه، لا من حنجرته.
وعاد الراهب مكررًا طقوسه المهيبة، ينكته مرة بعد مرة، مذيبًا صمته ولحمه، ورافعا صوته وألمه، بصراخ متتالي.
تجمّد سمعان في مكانه. قبض يديه بقوة محاولًا كبح انفجاره وحزنه، وعضّ على شفته حتى سال منها طيف دم؛ يعترض على صمته.
لوّح أدهم بزراعيه المرتجفتين، ومدّهما نحو أقدام سمعان بيأس، وقال بصوت مخنوق:
ألم أقل لك؟ الشياطين.. هنا.

وفي اللحظة التي انطلقت فيها كلماته، خفتت الأضواء فجأة من عينيه، ثم من سقف الكنيسة، وتبدّد كل شيء حوله.
الجدران، الأصوات، الضوء.. كلها اختفت، كأن المكان لم يكن، وكأن الكنيسة نفسها قد تلاشت في رمشة عين.. لم تُخرج النيران شيطانًا، بل أخرجت روحه، ولم يبقَ من أدهم سوى جثمان لا ينبض.

(2)

الذي يتذكر
طقسٌ قاسٍ قارصٌ، كما اعتاد أن يكون، في تلك المنطقة المُقفِرة من سُبُل الحياة، العامرة بالدماء والنسيان.
هواءٌ أثقلته الرطوبة، وثلجٌ ينزل كثيفًا كأكفانٍ بيضاء تُفصَّل للعابرين.
لم يكن في ذلك المكان لا دفء ولا ظلال، لا طعام ولا أصوات إلا صدى الخُطى.. ثم كان الجري.
لم يُعطَ أمرٌ، لم يُسمع نداء، بل انطلقوا فجأة كما لو أن توقيتًا ما في داخلهم قد دقّ.
نظروا جميعًا إلى أيديهم، ثم إلى بعضهم البعض، ثم اندفعوا؛ كأنما أفلتهم القمر! ركضوا كوحوشٍ هيجاءَ ضارية؛ حتى من لم تكتمل في قدميه النعمة، قد حبا وزحف بهمة عالية.
كان بينهم شخصٌ مختلف. اسمه لم يعد يذكر، لكنه يُلقَّب بين القلائل الذين يستطيعون رؤيته بـ«الذي يتذكر». رجل في منتصف الأربعين، كثّ الشعر واللحية، تتردد في عينيه ومضات شكٍّ لم يكن أحد يلحظها.
يتذكر بعض الأشياء، يعرف أن اليوم ليس هو نفسه الأمس، لا ينقطع خيط الزمن في داخله كما ينقطع في الباقين.
و«هرم الإله» كما يسمونه. قمة تعلو القمة الصخرية وتشبه الجبل. لا شاهد على بنائها، ولا حجة تُنكر أنها من نسل الأساطير!

كل من يعيشون هنا يركضون نحوه كلما سطع القمر.
في أعلى قمّته، هناك زهرة. زهرة واحدة. لم يرها أحد عن قرب، لكن الجميع يعرفها، كأنها مغروسة في ذاكرتهم.
قالوا: من يلمسها أولًا، لن ينسى مرةً أخرى.
قالوا: من يصل إليها، تُنقش الحقيقة على جسده بنور، لا بسكاكين.
جميعهم كان على أيديهم نصٌ منقوش. ليس بالضبط وشمًا، بل كأن الجلد نُقش نقشًا، بأدوات حادة فَقدت شحذها، فتركت الحروف مهزوزة، تنزف قليلًا كلما قرؤوها!
«الذي يتذكر» كان يرى الأمر مختلفًا؛ فلم يكن لديه نقش على يده، بل كأنه أزاله أو شفي منه. في دفتر صغير أخفاه تحت ملابسه كان يدوِّن -بعين تلاحق التفاصيل- ما يراه. كل مرة يتوقف فيها لثوانٍ، يقرأ، يتنفس، يحاول أن يستعيد خيط الزمن أو يربط بين خيوط الحقيقة.
في البداية، ظن أنه مريض لأنه لا ينسى، ثم أدرك أن المرض الحقيقي هو ما أصاب الآخرين.
مع اقتراب القمة، بدأت الفوضى. لم يعد الركض مجرد رغبة في الوصول.. صار المكان ساحة قتال؛ جيوش بلا رايات، جموع تتدافع، تتصادم، تتساقط.
الأنصال والخناجر والسكاكين تظهر، ولا أحد يتذكر من أين حصلوا عليها. أول من وصل إلى قاعدة الهرم سقط دون رأسه، تبعه الثاني، ثم أعقبه ثالث.
تعالت صرخاتٌ تتناسل من صرخات، وأنَّاتٌ من رحم الأنّات، تبع ذلك تساقطٌ كثيف للثلج والأجساد معًا.
«الذي يتذكر» كان وسطهم، لكنه لم يرفع يده، لم يشهر فأسًا ولا حجرًا. أخذ يتنقل بينهم ببطء، يتفادى، يدوّن، يرى كل شيء وكأنه خارج اللحظة.
نظر إلى إحدى الجثث، لمح فتاةً صغيرة لم تتجاوز العاشرة، ارتجفت يده، فتش عن دفتره وكتب: حتى الأطفال في هذا؛ لماذا؟

كان الهواء قرمزي برائحة الدماء، والثلج شاحبًا بأنفاس الموتى، والماء ممزوجًا بالعَرَق والألم.
الروائح تداخلت، اختلطت بدخان بارد، وبأنفاس مكتومة، والصرخات لم تعد تطلب الوصول، بل النجاة.
الكثيرون سقطوا دون أن يعرفوا من أسقطهم -حتى أولئك الذين ما زالوا يقاتلون؛ في ذروة الدم نسوا لِمَ يقاتلون!
عند ذروة المواجهة، تسللت لحظة غريبة لا تنتمي للزمن. توقف ثلاثة رجال فجأة، نظروا إلى أيديهم.
اعترف أحدهم بصوت مرتجف: توقف.. لقد خسرتُ.
نظر إليه الآخران وقالا: ليس هو المنتظر.
فترددا لحظة.. ثم مزّقاه.
«الذي يتذكر» شاهد ذلك، وسجّله.

مرّت تسع ساعات، أو أكثر.

لم يشعروا بالوقت؛ لأنه تمزق، كانوا يتبادلون الأدوار بين قاتل ومقتول، دون توقف.
لكن فجأة.. ساد الصمت. ارتفعت العيون نحو القمة. كان هناك رجل، واقف، بثبات، لا يرتجف من خوف، ولا يلهث من تعب.
توقف الجميع. صعدت الهمسات والأسئلة: من هو؟ متى وصل؟
قال أحدهم: إنه الأب، إنه الإله.
أما «الذي يتذكر» فقال في نفسه:
إنه يشبهنا.. إنه يشبهنا كثيرًا!
رفع «الرجل فوق القمة» يده وقال بصوت رخيم: انظروا إلى أيديكم.
أطاعوه جميعًا، ثم أعادوا أنظارهم إليه، وقالوا بصوت واحد:
أنت الأب.. أنت الإله.. أنت الأب.. أنت الإله.
لكن «الذي يتذكر» لم يردد معهم.
فتح دفتره، قلّب الصفحات، حتى وصل إلى أول صفحة كتبها، حين كان شابًّا.
وفيها جملة واحدة: إنهم سيعبدون من يصعد، ولو فوق أكتاف الجثث.
ارتفعت عيناه نحو «الرجل فوق القمة»، ثم استقرت على طيف ما في يديه، قبل أن يجول بنظرات حزينة متأملًا الوجوه؛ حتى انكسر رأسه تحت وطأة الفجيعة، وأطبق دفتي دفتره.

داخل كوخ صغير، مهجور من العالم، تقبع روحٌ معلقة بين لحظ ونسيان، بين حقيقة ووهم؛ الليل لم يكن أكثر ظلمة من ذاك الذي يحيط بذهنه. «الذي يتذكر» جلس على الأرض الباردة، يضم ركبتيه إلى صدره، يداه تغوصان في جبهته كما لو كان يحاول سحب الأفكار العالقة من أعماق عقله.
كان البرد حادًّا، أشبه بشفرة تشقّ الجلد ببطء لا يخلو من القصد.
في الخارج، الريح تلوِّن أطراف الأكواخ برقصٍ هستيريّ، تعوي كذئبٍ ضالّ ينوح على زمنٍ مفقود.
في الداخل، زحامٌ من الأفكار المبعثرة، حصارٌ بين بقايا كلمات لم تقال، وأوجاع لم تُشفَ؛ تتسابق في ذهنه، تتقاتل وتتدافع، حتى أصبح عقله ساحة مفتوحة لفوضى لا تنتهي.
جلس «الذي يتذكر» في ركن كوخه، جسده مطويّ على نفسه، يداه حول ركبتيه كطفلٍ خائف من الظلام.
تصببت جبهته عرقًا، رغم البرد، وحدقت عيناه في نقطةٍ لا مرئية على الجدار الطينيّ المتشقق. امتدت يده دون وعي نحو الوعاء الطينيّ الذي كان بجواره، شيء قديم احتفظ به منذ زمن لا يتذكره تمامًا. قبض عليه بقوة. ثم فجأة، أفلت يده. ارتطم الوعاء بالأرض وتفتّت إلى شظايا صامتة. حدّق في القطع المتناثرة كما لو كانت شظايا ذاكرته قد تتفتّت أمامه. تأمّل الغبار الذي ارتفع للحظة، ثم انخفض، كأن شيئًا فيه انهار وسكن في اللحظة ذاتها.

حين عاد له بعض الهدوء، بدأ يسترجع أيامًا ليست ببعيدة، حين كان العالم حوله يحترق، والناس يركضون نحو القمة بلا وعي. يعلم بأن الذاكرة تتبدد كل «خمس دقائق». لكن ذاكرته -تلك التي لم تنكسر- تختلف، فبوسعها أن تتراقص بحرية بين الفرح والحزن، بين النسيان والتذكر.
وبينما يلفظ ببطءٍ الزفير تلو الزفير، يحاول تهدئة النيران داخل صدره المستعر، تأججت الأسئلة في ذهنه:
هل يمكن للإنسان أن يتحرر من القدر المنقوش على يده؟ أم أن النقش حبلُ مشنقةٍ لا ينقطع؟
يعلم أنه لا بدّ أن يتذكر، إلا أنه افتقد الصوت الذي يؤكد وجوده، تلك الكلمة التي تثبّت قدميه فوق أرض تتلاشى تحت خطاه. رغم ذلك اجتاحه شعور الاغتراب، الوحدة بذاكرة تصرخ في العدم، ولا أحد يصغي.
وخاف أن يكون الاحتفاظ بالذاكرة هو سبب عزلته، وخاف بالمقابل أن ينسى كل شيء يومًا ما، ويصبح مثلهم، ظل، بلا صدى، وبلا معنى.
وبينما هو غارق في تلك الأفكار، ظهرت في ذهنه صورة «الرجل فوق القمة»؛ ذلك الغامض الذي يجلس مثل إلهٍ على عرش من الثلج والدم.
توقف الزمن فجأة، التقط أنفاسه بعمق، مدركًا أن اختلافه سيجر خطاه -لا مفر- إلى ذلك اللقاء الذي ليس منه مهرب، لكنه يدرك أنه -قبل ذلك- عليه فهم: ماذا يعني أن يكون هو «الذي يتذكر». ذلك الوحيد بين جموع تلهث خلف نسمة نسيان، يذود عن شيء لا تدركه أعينهم ولا تعيه عقولهم بعد أن صار نسيانهم درعًا يحمي من فوق القمة.
ثم سمع هذا الأثر الشجي، خافتًا أول الأمر، كنسمة تهب على رماد. ثم أوضح، أقرب، أحنّ -ومع ذلك غريب.
لماذا أنت وحدك دومًا؟
انتبه لكنه لم يفزع؛ لأنه يعرف هذا الصوت.
كنت تقول دائمًا إنهم سينسون، لكنك لم تكن تعرف كم هو مؤلم أن تتذكر وحدك.
«آيلا».. أحيانًا في الأحلام يأتيه صوتها، وأحيانًا في يقظته، والآن لا يفرّق.
هذه المرة كانت تجلس مقابله. وجهها كما يتذكره: عيون داكنة تحوي ظلالًا قديمة، شعر مغزول بليلٍ سكن الجبال. ترتدي ثوبها الرمادي الذي يشبه لون الثلج حين يختلط بالتراب.
مدّ يده نحوها، لكنها لم تكن هناك.
هل ما زلتَ تكتب على يدك؟
قالت ذلك بابتسامة خفيفة، فنظر إلى كفه، حيث اعتاد أن ينحت.. فلم ير هذه المرة كلمات.
نسي متى توقف عن النقش.. أو لماذا توقف.
هل نسيت ابننا؟
هذه المرة، صُدم.
التفت نحو الفراغ الذي جلس فيه طيفها، لكنه وجده خاليًا.
ابن؟ هل كان لي طفل؟ هل ولد حقًا؛ أم هي فكرة لم تنضج؟

نهض شيئًا فشيئًا، فتح الباب؛ لفح وجهه هواءٌ بارد. أمامه؛ كانت الأكواخ مبعثرة كأرواح بلا مأوى. في البعيد، ارتفع القمر شاحبًا، كعين فقدت نورها لكنها لا تزال تحدّق بلا هوادة.
داخل كل كوخ، ألسنة من اللهب تلتهم حزمًا من الحطب، وجلود غزلان ودبب تلتف حول أجساد تلقى من البرد التعب. لكن لا أحد يعرف لمن تعود هذه الأيادي التي أعدت الحطب، أو هذه العيون التي راقبت نومهم وتنتظر تيقظهم.
على جدران الأكواخ، وعلى جلود الغزلان، نُقشت رموز وكلمات، تُذكّرهم بأسماء مؤقتة، بمهام نهارية، بوجوه أحبوها ذات مساء. وكل محاربٍ يحمل على صدره قلادة عظمية، محفور عليها رموز لا يجب أن تنسى، يقرأها كل صباح كتعويذة: أنت الصيّاد. أنت ابن الريح. لا تنسَ أن تعود قبل الغروب! أنت الطبيب، أنت الحبيب!
والنساء، توشمن على أذرعهن رسومًا سوداء تروي لهن من حملن، من أرضعن، ومن تركن له خبز الذرة قرب النار!
الكلمات والرموز التي تُكتب لا تُحفظ، والأغاني التي تُردد وتسري من قلب إلى قلب لا تركَز، والحب طقس يلتقي فيه العاشقان كل ليلة لأول مرة، وكل صباح يتفرّقان بلا وجع، لأن لا أحد يتذكّر أنه كان يحب!
الزمن لا يتقدّم في هذه القرية بل يدور؛ لأنه حين تفقد الذاكرة، يصبح التكرار هو البوصلة الوحيدة.
أخبرته «آيلا» في إحدى المرات، عندما كانت ما تزال قيد الحضور: إنك الوحيد الذي يتذكر حقًّا.
لكنه الآن يشك في كل شيء. ربما ليست «آيلا» من تتحدث.. ربما هذا صوته، ربما هذا صدى عقله الذي لا يريد أن يعترف بالفقد، ورغم استسلامه واعتزاله طاردته كلماتها.
إذا كنت وحدك.. فابحث عن الذين لا يزالون يملكون بقايا ذاكرة.

ارتكز على حافة الأرض، غمس يديه في الثلج، يجمع بأصابع كفيه ما تبقى من إرادة، وتساءل إن كان بين هؤلاء من لم تُمحَ ذاكرته بالكامل، وكيف سيعرف؟ وكيف سيعثر عليهم؟ فمن يتذكر يخفي نفسه؛ لأن السلطة لا ترحم من يحفظ شيئًا من التاريخ.
شعر فجأة بالدوار كأن طنينًا اجتاح أذنيه، وكأن أحدهم يناديه باسمه.. اسمه الذي لم يسمعه منذ أعوام.
نادت «آيلا» بوضوح، كأنها تقف خلفه، وتلمس كتفه: تاكودا..
هو يعرف أن هذا اسمه.. أو هكذا كان يُقال له. حين سمعها تحفز فنهض، النداء كان واضحًا هذه المرة، ولم يعد يحتمل الدوائر ونكران ذاته.
سيبحث. سيجرّب. سيخاطر. ربما هناك بين الأكواخ، في عيون متعبة، أو في نظرة خاطفة، فربما يوجد آخرون مثل تاكودا؛ يتذكرون شيئًا. ليس عليه أن يهزم السلطة، يكفيه أن يُشعل شرارة، وآيلا -حتى لو كانت محض صوت؛ ستبقى الذاكرة التي تقوده حين يضل.

لم يكن الطريق نحو القمة وحده ما يخيفه.. بل الطريق نحو البشر. حين خرج تلك الليلة من الكوخ، شعر كأن الأرض تشد قدميه، لا لتثبّته، بل لتبتلعه.
كان الصقيع شديدًا، لكن برد الوحدة أشدّ. الأكواخ مبعثرة كقوارب انقلبت بها العاصفة، كأن الأرض نفسها رفضت أن تكون أمًّا لهذا التشوّه.
مضى تاكودا يتنقل بينها، كمن يبحث عن شبح. لا يسأل أحدًا، لا يهتف، لا يقرع الأبواب، بل يراقب.
كان يعرف أن الذاكرة، حين تصحو فجأة، ترتجف أولًا. وأن من يتذكر، لا يصرح، بل تظهر في ارتجافة العينين، وارتباك اليد حين تتحسس جرحًا قديمًا ما زال مؤلمًا. ظل يجوب السوق تقريبًا كل يوم، لا بحثًا عن شيء يُشترى، بل عن تصرّف غير مسموح ببيعه، لكن العيون منضبطة بنظراتها المألوفة، والأصابع ملتزمة بحركاتها المعروفة، والأفواه لا تخرج عن المفترض.
في أحد الزوايا، طفل يقلب عظمة غريبة الشكل، يشدّها إلى صدره ثم يعيدها إلى الأرض. يفعل ذلك مرارًا، كأنها شيء يخصّه، أو يذكّره بشيء لم يُخبره به أحد. لكن ما إن تقترب منه امرأة، ربما أمّه، حتى يترك العظمة كأنها لا تعنيه، ويبتسم ابتسامة مصطنعة، فيها ما يكفي من النمط ليمحو الريبة.
هكذا بدوا له، من «ربما» يتذكّرون:
كأنهم يعيشون تحت جلدين، أحدهما للناس، والآخر للذكرى التي لا يُسمَح لها أن تُقال.
الأسواق لم تكن إلا واجهة للمراقبة من «الرجل فوق القمة»، هذه المرة قرر أن يراقب هو ليساعد من يتذكر. وفي أحد صباحات السوق، ظهر رجال بملابس متماثلة، أقنعة رمادية، خطواتهم الثقيلة ترمي بصدى مهيب في الساحة، يحملون شيئًا يشبه الصندوق المائل على عربة خشبية.
توقفوا في وسط الساحة، ووُضعت أمامهم فتاة صغيرة لا تتجاوز العاشرة.
لم تصرخ لرؤيتهم، فقط نظرت حولها كأنها ضيّعت شيئًا ما.
اقترب أحدهم، يحمل جهازًا معدنيًا مدببًا، ذا أسطح خشنة وحواف حادة، مربوطًا بأحزمة جلدية مشدودة. ثبت الجهاز بقوة على جبين الفتاة، وغرزت الشفرات الحديدية في جلدها، وصحبها صوت صرير معدني مخيف. وفي تلك اللحظة، انقلبت عينا الفتاة، صرخت بصوت جرح القلوب، انهمر الدم من جبهتها، تلطّخت بها الأرض التي كانت تحدق فيها كأنها تراها للمرة الأولى.
ثم نُزع شعرها، وقُصّت أظافرها، وأُعطيت ثوبًا رماديًا باهتًا.
ساروا بها بعيدًا، كما لو كانوا يعيدونها إلى نسخة منها كانت منذ البداية مطبوعة على الامتثال.
صمت من بالسوق ولم يحركوا ساكنا رغم قلوبهم التي ارتعشت.
ولم يجرؤ أحد على الاقتراب أو حتى رفع صوته، وكأنّهم يخشون أن يُسلب منهم آخر شعور.
بينما تركت الفتاة بعيدًا وقد صارت بوجه وحشٍ يشهد على جرح لن يُشفى.
وفجأة، سُمع صوت عجوز متهدّج من طرف السوق:
كانت تشبه حفيدتي.. كانت..
ثم سقط على ركبتيه، يلهث كمن تذكّر دفعةً واحدة ما لا يُحتمل.
مدّ يده إلى السماء باحثًا عن شيء، اقترب منه أحد المقنّعين بهدوء، ومدّ يده نحو عنقه بحركة سريعة؛ فانكفأ العجوز بلا حركة. اقترب المقنع ووضع يده على جبين العجوز لثوانٍ، وهمس بصوت منخفض:
لم يُعد يحتمل أوهام الذاكرة.
وتركوه حيث هو. جثة فوق جليدٍ نقي.
مرّت امرأة قربه، غطّت وجه طفلها بكُمّ معطفها، وقالت هامسة:
الصمت لا يقتل أحدًا.. الذكرى هي السم.

ذات صباح، لاحظ تاكودا شابًّا واقفًا أمام عمود محفور عليه رمز قبيلته. بقي الشاب هناك طويلًا، أكثر مما يستدعيه التأمل أو الاحترام. أخذ يمرر أصابعه على الخطوط الباهتة.
اقترب، لكن الشاب، دون أن يلتفت، تراجع خطوة، ثم همس كأنما يخاطب الريح بكلمات لم تُسمع، ثم غادر، دون أن ينظر خلفه.

الأيام تمضي بركود، وتاكودا يبحث عن أثر، عن صمت مختلف، عن عين ترتجف ولو نصف لحظة، وبدأ يشك: ربما لا أحد يتذكّر، وربما من يتذكّر لا يريد.
في أحد المساءات، جلس عند طرف السوق، حيث تُلقى الأشياء التي لم تُشترَ، وتتوارى الوجوه التي لا ينتبه إليها أحد. ثم صوب سكة ضيقة بين خيمتين مائلتين، أبقى عينيه على شاب يجلس أمام نيران خافتة، يحدّق في كفه.
لم يكن هناك ما يثير الريبة، حتى فعلها الرجل فجأة: مدّ إصبعه، يمسح شيئًا غير موجود على الجلد، كمن يرى نقشًا لا يُرى.

كانت تلك إشارة كافية. تجرأ تاكودا وتهادى إليه بتروٍ، ثم جلس قرب نيرانه دون أن ينبس بحرف.
انتظر دقائق طويلة، رمقه الشاب بنظرة هادئة، وابتسامة مشدودة أكثر مما ينبغي،
والثلج يحيط بهما كقبرٍ مفتوح. بعد صمت طويل، تكلم الرجل لأول مرة بصوت خشن كالحجر:
أعرفك من نظرتك.. رأيتها من قبل.
أنت من أولئك الذين لم يتعلموا بعد أن الصمت فضيلة.
تاكودا:
أنا ظلُّ ذاكرةٍ تبحث عن شبيه، جئتُ لأبحث عمّن تبقّى.
ضحك ضحكة قصيرة ساخرة، ثم قال:
تبقّى! أنت تمشي على عظام، وتظنها ثلجًا.
لم يبقَ أحد، يا غريب، إلا من أحسنَ الاختباء.
تاكودا:
بل من أحسن الكذب.
عيناي لا تخطئ، وأنت تتذكّر.
توقفت يد الشاب عن العبث بالرماد. صمت لحظة، ثم قال بصوت واهن:
تذكّرتُ كثيرًا… حتى صرت لا أنام.
ثم أدركت، شيئًا فشيئًا، أن الصمت لا يُعاقَب،
لا يُساق إلى المشانق، بل يعيش.. كأن شيئًا لم يكن.
اقترب تاكودا قليلًا:
أعرف هذا الصمت..
أعرف كيف يشدّك لئلا تنطق،
وكيف تبدو النجاة حين لا ينجو أحد.
لكني جربت شيئًا آخر..
حين نبوح، نتشارك الثقل.
نقتسمه، فيخفّ.
رفع الرجل عينيه أخيرًا. نظر إليه دون سخط، دون ترحيب، ثم همس، كمن ينهزم أمام ذاكرته:
إن تبعْتُك، فليس ذلك لأني شجاع، بل لأني سئمتُ الاختباء من وجهي.
ثم صمت.
هذا الرجل كان الأول. لكن ليس الأخير.

خلال الأسابيع التالية، التقى بثلاثة آخرين.
امرأة طويلة القامة تدعى «رافين»، بشعر رمادي كثيف يشبه الغيم قبل المطر، كانت تمسك خيطًا من الصوف طوال الوقت، تعقده ثم تفكّه بلا هدف.
كانت تتحدث قليلًا، لكن كلماتها تنفلت بلا خجل:
الذاكرة.. لا تموت، تُخفى فقط.
هناك من يفرض علينا نسيانًا جديدًا مع كل «مئة نفس» يمر.
كانت قد فقدت أختها، أو تعتقد ذلك. لم تعد متأكدة.
لكنها، كما قالت: «في نومها حلمٌ لا يغادرها؛ ويمنعها من النسيان».
الثالث:
شاب يُدعى «مولهان»، بلحية غير مكتملة، وعينين تائهتين كمن لا يعرف وجهته ولا يثق بخطاه.
كان تاكودا قد رآه أول مرة عند جدار متهالك، يتوقف، يكتب شيئًا بسرعة، ثم يمسحه بكمّ معطفه كما لو كان يطمر جريمة.
راقبه لبرهة، ثم سأله:
ماذا تكتب؟
لم يلتفت مولهان، إنما أجاب كمن يحدّث نفسه:
تهاجمني الأفكار؛ أدوّنها، فيهمس خوفي: لا تنسَ الإعدام العقلي.
ثم استدار نحوه للمرة الأولى، وقال:
هناك كلمات لا يُغفَر قولها، ولا حتى تذكّرها.
وهل تنساها إذن؟
لا، أمحوها فقط؛ كي لا يراني أحد وأنا أتذكّر.
الرابع كان الأغرب.
رجل صامت لا يتكلم، لكن عينيه تقولان الكثير. أعرج، يحمل حقيبة من الخيش فيها أوراق ممزقة، ورسوم تشبه الوجوه.
سمّوه «النحّات»!
يقول عنه الناس: إنه مجنون. رآه تاكودا ذات ليلة يرسم على جدار طينيّ رجلًا بلا رأس فوق هرم. حين رآه، لم يتكلم. بعد أن أنهى النحات ما رسمه، وقف للحظة صامتًا، كأنه يستحضر سرًّا دفينًا.
التصق أكثر بالجدار، وخطّ دائرة مفتوحة نحو الأعلى، ثم رسم سهمًا يشير إلى الأعلى، وكأنها دعوة أو تحدٍ. رفع عينيه ببطء نحوه، وأشار إلى السهم، ثم انزوى في الظل كما جاء، ينتظر أن يقرأ رسالته.

لم يكن الأمر بسيطًا. لم تكن المقاومة فكرة تُشعل وتُنادى. كل من التقاهم كانوا على شفير فقدان عقولهم، أو فقدان الحياة. الخوف في أعينهم لا يشبه الخوف العادي، بل هو ذلك النوع من الخوف الذي يصيب المرء حين يتأكد أن الحقيقة موجودة، لكن ثمنها باهظ.
وبعد شهر في مساء يوم ما، جلسوا معًا لأول مرة. داخل كوخ معتم، تسرّبت الريح إليهم كجاسوس قديم. تاكودا، رافين، مولهان، النحّات، والشاب الذي كان اسمه «ديامي».
لم يكن اجتماعًا -كان أقرب إلى لحظة صمت بين أصوات تتكلم -في الأصل- في الداخل.
ثم بدأت رافين الحديث:
لا نملك ما يكفي من الحكايات لنقنع الناس، لكننا على الأقل نملك الصمت الذي يسبق العاصفة.
قال مولهان:
وحتى لو امتلكنا الحكايات ما زالوا لا يتذكرون؛ كيف نقنعهم بشيء لا يستطيعون أن يستمروا في الشعور به؟
ردّ تاكودا، ببطء، كمن يشرح لنفسه:
لن نقنعهم.. بل نوقظ فيهم ندبة.. الذاكرة أثرٌ لا يُرى، لكن يمكن تحفيزه، جُرحٌ ما زال حيًّا، ينتظر فقط من يضغط عليه.
في اليوم التالي، ذهب إلى سوق الأكواخ، حيث يتبادل الناس طعامًا بائسًا، وأقمشة مثقوبة.
جلس هناك، يعزف لحنًا غريبًا على آلة خشبية صنعها له النحات.
اللحن كان دافئًا، لا يحمل نغمة مألوفة، لكنه يوقظ شيئًا غائرًا. بدأ الناس يقفون. ملأتهم النظرات الحائرة، دمعت عيونهم دون معرفة السبب. هوت امرأة باكية، وصرخ رجل فجأة ثم سكت، وسأل طفل أمه: أين كنتِ حين سقط القمر؟! لكنها لم ترد!
عاد تاكودا إلى كوخه في المساء، وكتب بقطعة فحم على الجدار:
النسيان قوة السلطة، والتذكر بداية الثورة.

في الليلة التالية، ذهب تاكودا إلى الكوخ الذي صاروا يسمّونه «الحجر الرمادي»؛ إذ كان مميزًا بأحجار رمادية باهتة، تجمعت فيه خمس أرواح فقط. هم أول الغيث.
بدأ «ديامي» -الشاب الذي كان أول من انضم إلى تاكودا- الحديث بصوت واهن، لكن لا وهن في قلبه: إذا أردنا النجاة، نحتاج إلى أكثر من ذاكرة.. نحتاج إلى خطة، نحتاج إلى نار لا تموت.
أومأت رافين، ثم قالت وهي تمشط خصلات شعرها:
النار التي نوقظها يجب ألا تكون عشوائية.. نحن لا نملك أن نثور بعد، بل أن نتسرّب.
سأل مولهان، وبوجهه نصف ابتسامة ونصف خوف:
نتسرّب؟!
وافقت رافين:
نعم، نندس في الذاكرة مثل الفكرة الأولى.. دون ضجيج. نوقظ من نستطيع، واحدًا تلو الآخر، قبل أن يُمحى كل شيء مرة أخرى.

ظل تاكودا صامتًا ومستمعا لهم، لكنهم نظروه جميعًا بأعين مترقبة بعد أن انتهوا من جدالهم، فبان من انتظارهم لموافقته ورأيه أنه القائد، ثم قال: هناك شيء آخر.
سألوه جميعا في آن واحد: ماذا؟
الأشياء التي أخذوها منا، لن تسترد إلا بالقوة، في النهاية سوف نضطر إلى تزيين أيدينا بالدماء.
تباينت ردود أفعالهم، لكنه رأى أن هذه الحقيقة كان لا بد من قذفها بغتة، حتى تتعود عليها القلوب والحناجر.
ثم قرروا أولًا أن يراقبوا الأسواق للبحث عن التصدّعات في القشرة السميكة للنسيان.
من يتوقف أمام صوت غريب، من يهتزّ حين يرى نقشًا على الحائط، من يرتعش وهو يلمس راحة يده.

مع أولى خيوط الضوء، أطلت امرأة قصيرة من بين الوجوه، لا يشي جسدها الضئيل بصوتها الغليظ، كانت تجلس على حافة السوق، وبين يديها الساحرة تولد أساور صنعتها من جلد قديم نقشت عليه أسرارًا لا تفك.
كان اسمها نارا.
وحين سألها مولهان -متخفّيًا- عن معنى الرموز، نظرت إليه هنيهة، ثم قالت:
لا شيء يُقرأ حين لا نريد أن نفهم.
أمسك بالأساور، قلّبها، فرأى نقشًا خفيفًا خلف أحدها، بدا ككلمة «حرية».
سرعان ما اندمجت نارا في صفوفهم، لكنها لم تكن مجرد واحدة منهم؛ شيء ما في عينيها كان يوحي بإن اللهب قد استيقظ فيها قبل الجميع، وأن شرارتها ولدت لتشعل نيرانهم. لم تكن كسواهم. كانت أكثر جرأة، وأقل خوفًا.
تقول دومًا:
حين فقدت زوجي، قررت ألا أنسى.
صرخ فيها مولهان ذات مرّة: لكنك نسيت اسمه!
فقالت:
نعم، ولكني لا أنسى أنني فقدته.
كانت فلسفتها مختلفة. هي لا تحاول استرجاع الماضي، بل تنقش الحاضر حتى لا يُمحى.

ثم ظهر شخص آخر: سولان. رجل نحيل، بلحية طويلة شعثاء، تشهد على سنوات من علاج المرضى، وصلعة كليّة تعكس عقاب الذاكرة لمن لم ينسَ شيئًا منذ الصغر. الكل يعرفه، والجميع يراه. كل مرة ينظر إليه أحدهم يعرف قلبه الطيب ورغبته في مساعدة الجميع. تاكودا رآه يكتب على الثلوج بعصاه، ثم يمسح قبل أن يكتشفه أحد. حين اقترب منه، ارتعب سولان، ظنه واحدًا من «الحراس» الذين نسوا أسماءهم، ووهبهم «الرجل فوق القمة» ذاكرةً جديدة ليحرسوا «هرم الإله». قال له تاكودا:
أنا مثلك.
مثلي! ماذا تعني؟
لا تقلق أنا مثلك.. ما زلت أتذكر.
انضمّ سولان، لكنه كان مرتابًا ودائم الخوف، رغم نقاء قلبه وصدق سعيه للمساعدة.

بدأت الخطة تأخذ بعض الملامح. مولهان سيكتب على الجدران ليلًا شعاراتٍ لا تُفهم مباشرة، بل تترك أثرًا:
هل حلمت اليوم؟ ما اسمك قبل «مئة نفس» من الآن؟ متى بكيت آخر مرة؟
نارا تزرع أساورها في السوق، كل واحدة تحمل رمزًا مختلفًا.
بينما كانت رافين -بمساعدة الطبيب سولان- تحيك قطعة قماش ضخمة، تخطط لتعليقها على أحد الجدران الرئيسية، عليها جبلٌ من أجساد متراكمة، وعلى قمته يقف رجل يحمل سيفًا مكسورًا يقطر دمًا، متشبثًا بكرسي هشّ. جسده الضئيل يتزعزع وتهتز الأرض تحت قدميه. هذا القاتل، رغم دمويته، قابل للسقوط في أي لحظة، والثورة التي تُشعلها ذاكرتهم هي الريح التي ستحطّم هذا البناء القائم على الألم.
أما «ديامي» فقد سعى يتسلل بين أكواخ الحراس، ينصت لكلماتهم ويكتبها بكل حرص.
أما النحّات اختفى. ثلاثة أيام بلا أثر. وفي اليوم الرابع، وُجد رسم جديد على أحد جدران المذبح المهجور في أطراف الأكواخ:
صورة رجل يتسلق. كُتب بجانبه كلمة واحدة: «قريبًا».
وحين رأى تاكودا الرسم، أدرك أن النحّات لم يُخطف.. بل سبقهم بخطوة، وتبادر إلى ذهنه سؤالان؛ واحدٌ يصبو إليه قلبه، وآخر سوف يتحقق: هل وجد زوجته آيلا؟ أم عرف شيئًا عن القمة؟
عند الفجر، جلسوا جميعًا في «الحجر الرمادي»، على الأرض خريطة مرسومة، إشارات، خطوات أولى.
تاكودا أشار إلى القمة.
هناك البداية.. وهناك النهاية.
سأل سولان: كيف نصل؟
ساد الصمت.
ثم قالت رافين بصوت متعب وشاكّ:
هل سنكون مستعدين عندما يحين الوقت؟
لم يجب تاكودا. لكنه كان يعرف الإجابات. لأول مرة منذ زمن.. كان يعرف.

بدأ كل شيء بهدوء كما تبدأ العواصف. في فجر يومٍ شاحب، حين لا لون للسماء ولا دفء في الهواء، استيقظت الأكواخ على تزاحمٍ كبير وخبرٍ غريب، شعار كُتب على جدار مركز التوزيع الغذائي بخط فوضوي كبير: من يتذكر، لا يُطيع.
لم يُرَ من كتبه. لكن كل من رآه، وقف لحظة أمامه صامتًا. وكأن عصبًا ما في الرأس فجأة قد ارتجف.
في اليوم ذاته، اختفى سولان. كوخه كان خاليًا. أدواته مبعثرة لكن بعفوية.. لم يترك أثرًا.. إلا شيئًا واحدًا.. نقشًا صغيرًا حُفر على جدار الكوخ من الداخل: حين يسقط أول حجر، يبدأ الجدار بالحديث.
جلس تاكودا داخل «الحجر الرمادي»، نظراته ثابتة، لا ترتجف، لكنها مثقلة.
اختفاء سولان لم يكن مجرد فقدان، كان رسالة.
قالت رافين، وهي تمسح يديها من رماد نارٍ انطفأت للتو: لقد بدأوا يشعرون بالخطر. ليس لأننا خطيرون.
قاطع مولهان: بل لأننا مختلفون.. نحن لم نعد مجرد ذاكرين.
أضافت نارا: بل موقظون.
في اليوم التالي، حدث أمرٌ غير متوقع، في الرمال البعيدة وجدوا سولان مدفونًا في الرمال بالكامل ما عدا عينه، ظهرت جاحظة بشكل فج؛ كأنهم قبل أن يفعلوا به ما فعلوا قد أرعبوه رعبًا مميتًا!
قال تاكودا، ونظره يتنقل بينهم: ما حدث كان مبكرٌ جدًّا!
سألت رافين: وماذا سنفعل الآن؟
في تلك اللحظة لم يُتَح لهم الحزن، ظهر مولهان وأخبرهم؛ واحدة من أساور نارا، التي تُركت في السوق، وصلت إلى كوخ أحد الحراس.
رجل طويل، مشقوق الجبين، يقال: إن ذاكرته تحمل ألف أثر. اسمه «كمونجوي»، شوهد وهو يتأمل السوار، ثم يخبّئه، ثم.. اختفى ولم يُرَ مجددًا ذلك اليوم.
في الليلة ذاتها، اجتمع من تبقى تاكودا، رافين، نارا، مولهان لكن ليس وحدهم. ثلاثة آخرون انضمّوا، من أولئك الذين بدأت تتشقق ذاكرتهم تحت وطأة الأسئلة.
امرأة تُدعى «ويانيتا»، صوتها يخرج كأنها تغني حتى وهي تبكي، ورجل صامت يُدعى «ويكاسا»، يحمل خنجرًا صغيرًا لا يستخدمه، فقط ينظر إليه كلما نسي شيئًا.
وفتاة تُلقب بـ«بايا»؛ ذات ضفائر مشعثة، تبتسم فجأة، ثم تصمت فجأة، وكأن عقلها يتراقص بين نوبات ألم وفرح متلاطمة سرمدية.
قال تاكودا: لم يمت لأنه خسر.. مات؛ لأنه آمن، ومَن يؤمن لن يموت فينا أبدًا.
قال مولهان: لكننا لم ننتصر بعد كي نخسر مبكرًا جدًّا هكذا.
قالت رافين: وإن كنا نمشي نحو الهلاك؟ ربما كان هو الأنقى فينا.. وها هو تحت التراب.
صمتت نارا، ولم يعرف أحدٌ ماذا ببالها.
قال تاكودا: الشك يزحف إلينا وسيستمر، لكن الشك لا يقتل من يحمل الحقيقة في صدره!
انظروا إلى بعضكم.. أنتم لستم كما كنتم. أنتم أقوى، أعندكم شك؟
رحل سولان، نعم. لكنه أكد لنا بانضمامه لنا أننا نحمل شعلة الحقيقة. ونحن إما أن نحملها، أو ندفنها معه.. فهل أنتم ممن يدفنون النور؟
ردت نارا: لا.. نحن من يشعلونه، حتى لو أُحرقنا.
تكلم ويكاسا لأول مرة، وقال: فلنُكمل من حيث توقف.. ليكن دمه بداية لا نهاية.
تاكودا -بصوت صارم:
إذن، نقف الليلة، لا حدادًا، بل عهدًا.. على ألا يموت فينا من آمن، ولا يُكسر فينا من قاوم.

كانت الخطة بسيطة، لكنها محفوفة بالخطر: ليلة القمر الكامل، حين يخرج الناس كالعادة إلى «الهرم»، يركضون كالمنوّمين نحو الزهرة المزعومة.. ستبدأ «الصدى».
«الصدى» هو الاسم الذي أطلقته نارا على لحظة الارتجاف الجماعي، حين تُزرع عشرات الرسائل في عشرات النقاط، في السوق، قرب المياه، في المذبح، في الأكواخ، وفي خزانة الحراس.
هل تتذكر من كنت؟ من نسي، صار مملوكًا. الهرم لا يعطي.. الهرم يسرق.

فوق المواضع المترفعة ستصعد نارا ومن معها من المستيقظين الجدد صوتها سيصل بواسطة أبواق مجوفة وأقماع يدوية صنعتها بنفسها، كل منهم سيصدر صوته في توقيت واحد؛ ليصنعوا رجّة في زوايا الذاكرة الجماعية، رجّة نفسية بل زلزال داخلي.
لكن الخطر كان أقرب مما ظنّوا. في الليلة السابقة ليوم التنفيذ، اختفت بايا. وجدوا ضفيرتها مقطوعة عند باب الكوخ.
كُتب تحتها، بخط شديد الانضباط: الذاكرة خيانة.
عرف تاكودا أن هذه العبارة لم تُكتب عبثًا. كانت رسالة من الرجل فوق القمة. أو بالأحرى، من الحُجّاب الذين ينفذون وصاياه.
ورغم هذا ومع طلوع بدر القمر الكامل، بدأت الخطة. انتشروا في الظلال؛ ذهب مولهان إلى السوق، ورافين خلف التلال. غرست نارا رسائلها قرب الأكواخ، بينما ويكاسا دخل إلى صفوف الحراس متخفيًا.
أما تاكودا، فقد مشى إلى منتصف ساحة القرية ومعه النحات وديامي وغيرهما، وقف هناك، عاري الرأس، رافعًا يده، وفي راحته.. لا شيء.
وفي نفس الوقت بدأت الأصوات تخرج من الأبواق. دوت الكلمات في الأرواح كأنها همسات ملائكة منسية.
تجمهر الناس. بعضهم سقط أرضًا. بعضهم بكى. وبعضهم.. بدأ يتذكّر.
فجأة، هرع أحد الحراس، عاري العينين، ملوّحًا بسلاحه.
كان «كمونجوي». نظر إلى تاكودا، رمشت عينيه متوترا فلم يطلق؛ بل انحنى، وأسقط سلاحه أمامه.
تذكّرت.. تذكّرت أنني كنت أكره الدم.
اللحظة أصبحت ملحمة. من بين الجموع، خرج صوت أولى الكلمات:
لا نركض بعد الآن نحو القمة!
لكن الحراس تفرقوا يمنعون الناس من الحديث، أشهروا أسلحتهم المهيبة، فؤوس معدنية ثقيلة، رؤوسها حادة ومتقطعة الحواف، تشق شظاها العميقة اللحوم والجلود، محدثة جروحًا دامية لا تلتئم، تحمل معها آلامًا مستمرة. ولوحوا بها صوب الجميع.. فأصابوا وقتلوا بلا أي رحمة.
بخطوة حاسمة، تقدم أحد الجنود بسرعة، ووجه ضربة قوية صوب رأس «النحات»؛ فانشج، وتسربت منه الدماء بهدوء كجدول صغير يتسلل بين الصخور.
رأى تاكودا المشهد وصرخ في الناس:
قاتلوا.. قاتلوا.. قاتلوا.
بالفعل حاول الناس، ودافعوا عن أنفسهم بالحجارة والفؤوس -حتى هزموا بمقاومتهم معظم الحراس الذين صدموا من ردود الفعل، واستسلم منهم الذين تذكروا فجأة أنهم بشر.
وانتشر صدى الصوت من الأبواق ورددته الجموع:
لا نركض! لا نركض!
وحتى تلك اللحظة، لم يكن تاكودا يعلم.. أن من على القمة.. استيقظ. وأن عينيه كانتا تراقبانهم من اللحظة الأولى.

في تلك الليلة، تحرك الجميع نحو «هرم الإله» لكنهم لم يذهبوا كالمرة السابقة يقتلون بعضهم البعض، ويسعون وراء الزهرة والحكم، مشوا متصافين مع بعضهم البعض وقد تذكروا. حينما وصلوا أخيرًا وقف تاكودا قبل «هرم الإله» وقد كان على مرأى منهم؛ إذ تبعته جميع العيون والقلوب، صرخ في الجميع بالكلمات التالية:
هل سألتم أنفسكم يومًا لماذا لا تحلمون؟
وأنكم عندما تغلقون أعينكم.. لماذا لا تجدون شيئا بالداخل ينتظركم؟
أنا أعرف لماذا؛ لأنكم.. سرقت منكم الأحلام، جعلكم من فوق القمة لا تتذكرون.. حريتكم والماضي الجميل والوعر، خبراتكم السابقة أحبابكم الباقين والراحلين حتى أحلامكم سُرقت.
صمت، ثم أضاف:
أنا رأيت الرجل فوق القمة؛ كذب، شكك، وعرض. وعدني بإعادة من أحب.. إن نسيت.
إن من فوق القمة خائرٌ، وأنتم فقط سلمتم أنفسكم هربًا من ألم التذكر، وعناء الفقد، رضيتم بالوهم وبحياة رتيبة، رضيتم بالهوان، لكننا الآن نثور ونختر لأنفسنا الحرية.
هذه اللحظة لن تختفي، وإني أعدكم سوف نتذكرها بعد سنين؛ ونحن في حرية وحياة أفضل بكثير.
قالت العيون كل شيء، ثم صاحت نارا بصوت متحمس: لنتذكر.. لنتذكر.. لنتذكر!
وتبعتها الجموع في صوت واحد: لنتذكر!

وفي تلك الليلة، عندما أطلّ القمر من خلف الهرم، أضيئت أعلى الهرم نارٌ، الرجل فوق القمة استيقظ على الفوضى.
فشلت قواته -أولئك الذين نُقش على أذرعهم أوامر لا فائدة لها؛ لأنهم وجدوا شيئًا لم يتعلموا كيف يواجهونه:
الوعي.
كان الناس يقولون: أنا أتذكّر، كأنها صلاة.
وقف تاكودا عند سفح الهرم. وصرخ عاليًا:
إذا أردتَ أن نُصدق أنك على القمة.. انزل إلينا.
لم تمر ساعة إلا وصعد؛ معلنًا عن المواجهة الكبرى.

عند قاعدة الجبل، توقّف قليلون؛ منهم: نارا ورافين وديامي.
كانت وجوههم تحمل القلق، والخوف من فقدان القائد الذي قرر مواجهة الرجل الأعلى.
قالت نارا بصوت يملؤه الحزن: أتعلم يا تاكودا، بعضهم لن يأتي معك.
أجاب بصوت رخيم لكنه حازم: أعرف.. البعض يخاف الحقيقة أكثر من الظلام، والبعض يخاف الموت.
تسلّق تاكودا الهرم، الذي كان أكثر من مجرد كتلة من الثلج والحجر. بعد أن صار وحده جدارًا من الذاكرة، تحدٍ لأسئلة لم تجد جوابًا بعد، وجبلًا يحمل الراية على عنقه في كل خطوة. كلما اقترب ازدادت الرياح حدةً، وكأن القمة تنفث غضبًا تجاهه، تحاول أن تردعه عن المضي قدمًا.
تساقط الذين صعدوا واحدًا تلو الآخر، وسقط مولهان من ضمنهم؛ لم يكن الطريق مفروشًا بالأمان، على العكس كانت المخاطر تنبثق من كل زاوية. لكنه لم يكن مجرد متسلّق، بل كان روحًا تعانق الأمل والألم، تعانق الشك، وتصرّ على أن تصل.
سمع وهو يصعد الهرم حفيفًا غامضًا بين الصخور، وحجب عنه الضباب الكثيف كل رؤية.
في لحظة واحدة، تعثّر إثر انهيار صخر من أعلى على كتفه، فقبض على صخرة بيده الأخرى المتجمدة، انسحب الألم إلى معظم جسده، إلا أن نغمة دافئة من صوت آيلا عادت لتعانق روحه وتعينه: لا تستلم يا تاكودا.

وصل تاكودا أخيرًا إلى المدخل المؤدي إلى القمة، بوابة ضخمة، محفورة بعناية، تعلوها نقوش غامضة وألسنة لهب لا تبرح مكانها.
لمح هناك رجلا بملامح صلبة، وجهه شاحب لكنه لا يخلو من قوة الشباب، يرتدي رداء أسود مزينًا بالنقوش نفسها.
هذا هو الرجل فوق القمة.
ابتسم الرجل -لا فرحًا ولا كدرًا، بل أكثر تعقيدًا، ابتسامة من يحمل بين ضلوعه آلاف القصص. قال بصوت منخفض:
تاكودا.. أخيرًا وصلت.
تردد اسم تاكودا في الهواء، وكأنه وحي قديم.
أنت.. تعرف اسمي؟
أنا من منحك إياه.
صمت تاكودا اندهاشًا، ثم أضاف الرجل، بصوت مهيب كصوت يخرج من بئر عميق:
كنتَ هنا من قبل. كنت أنت من جلس على هذا العرش. كنت القمة. ثم اخترت النسيان.
تاكودا، الذي أُنهك من شكوكه، شعر بأن قدميه تترنحان قليلًا.
صوت الرجل كان ناعمًا، لكنه ثقيل، يغزو الروح ويسرق دفأها.
لماذا تركت كل شيء؟ لماذا عدت الآن؟
رفع تاكودا عينيه، نظر إليه مباشرة، وحينها رأى عينيه تهربان.
إن كنت أنا من جلس هنا، فلماذا لا أذكر؟
ابتسم الرجل، وقال:
لأنني صنعت لك نسيانًا خاصًّا. ذاكرة متقطعة. زرعنا لك فكرة أنك مختلف، لكنك لست كذلك. ثم ضحك ساخرًا وأردف: أنت فقط أكثر عنادًا.
اقترب تاكودا خطوة، وسأل، هذه المرة بصوت لا يحمل الرجاء، بل يحمل جرحًا قديمًا: أين آيلا؟
أجاب الرجل فورًا، بسرعة مريبة:
إنها هنا، حية؛ سأعيدها إليك، إن تراجعت.
تراجعت عن ماذا؟
عن تذكّرك.
ضحك تاكودا لأول مرة. ضحكة جافة، بلا دفء.
أتطلب مني أن أنسى لتعود؟!
بل لتعيش.
هنا، وقعت لحظة حاسمة، وأردف الرجل:
إنك لا تفهم. إذا وعيت كل شيء.. ستنهار. سترى أنك كنت السبب في موتها، في الفوضى، في كل شيء.
لكن تاكودا شعر فجأة بأن هناك شيء غير منطقي.
الرجل ينقل اللوم عليه في كل كلمة. مرة تاكودا هو الإله، مرة الحاكم، مرة السبب في الموت، ومرة هو صاحب الضحية التي تستعاد.
قال تاكودا، بهدوء هذه المرة: أنت تخافني.
ارتجف جفن الرجل، وعاود تاكودا.
أنت تخاف ممن يتذكر. لأنك لا تستطيع أن تنسى.
هنا صرخ الرجل فجأة، بانفعال غير متوقع:
كفى! أنت لا تعرف شيئًا! أنت طفل في حقل كلمات، وأنا من خلق هذه الأكواخ التي يسكنها الحمقى. أنا من علمهم أن ينسوا كي يبقوا هادئين، لئلا يُوقظوا ما في صدورهم، وكي لا يذكّروا بعضهم بما لم يعد ممكنًا!
ظل تاكودا واقفًا إلا أنه قال:
قلت أنك ستعيدها إليَّ.. آيلا.. مَن هي آيلا بالنسبة لك؟
ضحك الرجل مرة ثانية يتعجب من القول.
استفزت الضحكات تاكودا وقال صارخًا:
كنت تكذب.. أنت لا تعرف أين هي.
ارتفع صوت الهواء فجأة، وكأن الريح نفسها غضبت.
قال تاكودا:
في النهاية؛ الذاكرة ليست عبئا. هي الدليل الوحيد على أننا أحياء. وما زلنا هنا.
فمن أنت لتتجرأ أن تخلع على نفسك تاج الألوهية، وبأي نار أو طين خُلقتَ حتى تحكم أرواحنا؟ وكيف امتد ظلك إلى قلوبنا؛ حتى صرت تتحكم في مصائرنا، وتكتب أقدارنا على أيدينا؟

في منتصف النقاش، تدخل صوت من خلف الرجل:
أنت لا تعرف الحقيقة كاملة، يا تاكودا.
كان صوت نارا، التي وصلت بهدوء تام، بعيون تلمع بالغضب.
وأردفت:
الرجل الذي تقابله ليس فقط من دفن ماضيه، وتحكم في مصائرنا بطمع، بل هو من باع نفسه، بكل جشع، لكنه نسي أن لا أحد يبقى فوق القمة إلى الأبد.

صار الجو مشحونا كوتر قوس مشدود؛ كل كلمة تُلقى كسهم لا سبيل إلى رده. استمر «الرجل فوق القمة» في ضحكه، وقال:
أعتقد أنك لا تتذكر.. هذه ليست المرة الأولى التي تصل فيها إلى هنا.
اتسعت عينا تاكودا دهشة، لكن «الرجل فوق القمة» أكمل ليزيد من حيرته:
الحقيقة إنني أتحكم بكم، أجعلكم تثورون على حكمي، بل أغذي فيكم وهم العصيان، أجعلكم تقتلون بعضكم، تسعون نحو القمة، تلهثون صوب الزهرة، لتكونوا آلهة، بينما أكتفي بالمراقبة.
وبين طرفة عين وانتباهتها أخرج الزهرة من صندوق أمامه، ظهرت تلك التي كانت أعلى القمة، وكانوا يسعون نحوها، لم تكن من نسيج الزهور، بل من أسرار الأرض المكنونة؛ تشكّلت من صمت الياقوت، ونبض العقيق، لا يُعلم إن كانت قد خلقت من شظايا نجمة هوت إلى الأرض، أم أن يد إنسان صنعتها ونثرت فيها سحرًا غامضًا عظيمًا.. أمسك بها الرجل فوق القمة ومرر أصابعه عليها وهمس بكلمات..
ثم، دون تحذير، اندفعت نارا نحو تاكودا. حاولت أن تقيده، أن تبطئه، أن تسيطر عليه كما أُمرت. لكنه تراجع خطوة، نظر في عينيها، ورأى فيها تغيّرًا؛ فأدرك أنه تم التلاعب بعقلها. دفعها بعيدًا بحركة واحدة قوية، لكنها لم تكن قاتلة، بل فقط أخرجتها من المعركة.
سقطت على الأرض مغشيًّا عليها، ساكنة، لكن على قيد الحياة؛ عندها زأر الرجل فوق القمة، لا كحاكم، بل كوحش جريح يرى فريسته تتفلّت.
انقض على تاكودا، وبدأت المعركة بينهما مباشرة. لا سيوف تشهر. ولا دروع ترفع. فقط جسدان عاريان من كل سلاح إلا الغضب والعزم. ضربات بالأكف، ركلات بالأقدام، قبضات تهوى من أعلى إلى أسفل في الوجوه، وصدور تتلاقى كالصخور، ارتطم الاثنان حول بعضهما، والتفّا كما تدور الرياح الهائجة حول نيران الغضب. كان تاكودا يسقط ثم ينهض مزمجرًا في وجه قدره المزيف، وعيناه لا تعرفان التراجع. أما الآخر، فكل ضربة منه كانت تنطق بغرور مَن ظنّ نفسه إلهًا.
استمر الصراع طويلًا، حتى بدا وكأنّ الزمن نفسه قد توقف ليشهد تلك اللحظة.
حين بلغ كلٌ منهم حده، قفز تاكودا على خصمه، طرحه أرضًا، وقيّد حركته بقوةٍ لم تولد من الغضب، بل من الرغبة، من البقاء، من الجوع والخسارات، ثم قال:
هؤلاء البشر ليسوا ملكا لك، ولن يكونوا لك يومًا.
تراجع جسد تاكودا حتى حدود الانهيار، لكنه أبى أن ينهار. وفي سكون ما بعد العاصفة -حيث تتلاشى أصوات الأباطرة الكذبة- وقف تاكودا كالشمس التي تخترق رماد السحب، معلنًا بزوغ فجر جديد يشهد نهاية الاستعباد وبداية ولادة الحرية.

طقسٌ قاسٍ قارصٌ.. عادته أن يكون كذلك في تلك المنطقة المُقفرة من سُبُل الحياة، العامرة بالدم.
الثلج يهبُّ على الأكواخ، على الأجساد، على النقوش. ينظر الجميع إلى أيديهم.. أسفل «هرم الإله». فجأة رفعت الفؤوس، بقرت البطون، والدم امتزج بالثلج.
وفي الأعلى، لم يكن الرجل القديم هناك. كان تاكودا واقفًا وحده مندهشًا. يحاول أن يصرخ. يحاول أن يشير. أن ينزل، أن يحتكّ بهم، أن يقول: أنا لست الإله.
لكنهم لا يسمعون. لا يتذكّرون. كأن كل من حاول التذكر.. صار أسطورة.
وبينما تهبط الثلوج من السماء، توقفوا فجأة ورفعوا أعينهم نحو قمة الهرم وقالوا: أنت الأب.. أنت الإله.
نظر تاكودا خلفه؛ فإذا بالزهرة تنبض بنور هادئ ساحر.. لا يشبه نارًا ولا شمسًا، تأملها؛ وشعر برغبة خفية في الطاعة، في التبعية، كانت الزهرة في تلك اللحظة آسرة، جميلة، مغرية. عاد إليها وأحكم قبضته عليها ورفعها عاليًا، قبل أن يتراجع قلبه أو يتردد عقله، بكل ما بقي له من قوة هوى بها إلى الأرض محطمًا إياها، محطمًا معها ما كان يستعبده، ويستعبدهم.
تحطّمت، وتبعثرت شظايا الياقوت والعقيق في الهواء. ساد الصمت فجأة، ثم هبت ريح دافئة بدت كأنها تنشر خبراً جديدًا.
حين انكسرت الزهرة أخيرًا تحرر الناس. انزاحت السحب عن العقول. وعادات العيون تلمع من جديد، عادت أصواتهم، واستعادت أرواحهم الحياة.
نظرت نارا -التي استعادت هي الأخرى وعيها- إلى تاكودا بعينين دامعتين، ثم قالت: ألا تذكرني.. أنا آيلا.. زوجتك.
في نفس اللحظة تذكّرها، وقد تحرّر كليًّا كما تحرّر الجميع، ساعدته زوجته لينظر إلى الجموع أسفل الهرم مرة أخرى، ونادوا جميعا مهللين بكل حبٍّ: تاكودا.. تاكودا.. تاكودا.

(3)

روح مرسومة

بينما السماء الغائمة تمطر، والسحب بالمزيد تنذر، اقتربتُ منها، ووضعت معطفي على كتفها. فمدّت يدها؛ ولمّا لمستها، وجدتها شيئًا أسمى من البشر، أدركتها ملاكًا نزل من السماء؛ تنظر إليّ بعينين تحملان الرجاء، تنطقان بما تعجز عنه الكلمات.
بكيت أسًى عليها، لا أدري لماذا؛ شيء ما في قلبها كان ينادي قلبي، وشيء في قربها هدّأ حزني. وعندما استيقظت وجدت وجنتي مبللتين، وكأن الحلم تجاوز حدود المنام، وتسلل من عالم الروح والأحلام إلى عالم اليقظة!
ما رأيك يا أخي؛ أليس ذلك حلمًا غريبًا.. وساحرًا في آن واحد؟
ضحك أخوه ساخرًا: إنها أوهام.. وستدفعك يومًا إلى الجنون!
ثم أردف بجدية: أنت تهتم بالأحلام أكثر مما ينبغي، وأنت تعلم هذه ليست المرة الأولى التي تأتيك فيها هذه الفتاة.
انصرف هشام، وهو يهمس لنفسه:
لعلك محق يا أخي.. رغم ذلك- شيء ما بداخلي يرفض تصديقك.
كان الحلم ما يزال يحوم في ذهنه كطيف لا يتلاشى؛ يوقظ في قلبه ذكريات جميلة، ويقدح شجونُ أحلام قديمة، نامت طويلًا، والآن عادت.

انطلق هشام فجرًا إلى المحطة، والحلم ما يزال عالقًا في ذهنه كغيمة رماديى تابى أن تنقشع.. وبينما ينتظر القطار المتجه إلى كليته، لمح على رصيف المحطة رسمًا باهتًا لفتاة.. شبيهة في ملامحها بتلك التي رآها سابقًا في الحلم، محفورًا على لوحة إعلانات صدئة. توقفت أنفاسه رغم الضجيج والحركة من حوله، وأومأ: ما أغرب هذا التشابه!
كانت رائحة الفحم والحديد تعبق في المحطة، وقطرات المطر ترتطم على سقف الرصيف. جلس هشام على المقعد الخشبي البارد ينتظر قطار الفجر، وعيناه لا تفارقان لوحة الإعلانات المهترئة حيث لمح وجهها المرسوم.

وصل القطار أخيرًا وصعد إليه.. وبينما يبحث عن كرسيه انتابته صدمة جديدة توقف فجأة كانت هي. نفس الملامح، نفس النظرة.
رآها؟ حقًا؟ الفتاة التي تزوره في الأحلام تجلس الآن أمامه، من لحم ودم.
تمتم لنفسه، وقد تشوش الواقع بالحلم.
ربما كان أخي محقًا... سأجن.
فرك عينيه، لكن الأمل سبق العقل، شعر بقلبه يطرق صدره، يرفض ألا يكون الأمر حقيقيًا. حاول أن يلتقط أنفاسه، لكنها تقطعت، وهمس الصدى: نعم، إنها أمامك، حقيقة.
انطلق مسرعًا نحو المقعد المجاور لها، كمن يطارد شيئًا قد يتبخر! جلس متوترًا بعينين لا تستقران. تردد، حار كيف يبدأ، ثم دون مقدمات: أعرف أن ما سأقوله غريب، لكني رأيتك اليوم.. في حلمي.
رمقته بدهشة وقد انعقد حاجباها: رأيتني أنا؟
أومأ بهدوء، بنبرة صادقة رغم توتره: لا أعرف كيف أشرح لك، كان الحلم واضحًا جدًّا.. لذا بالتأكيد هي أنت.
لم تعلق، فقط أصغت إليه في صمتٍ، وهو يسرد تفاصيلها من الحلم، بصوت أقرب إلى من يقرأ من صفحة قلبه -لا من ذاكرته.
رغم تحفظها بدا انجذابها لحكيه، وتفاعلها مع تفاصيل حلمه، وقد بدت على وجهه علامات صدق لا لبس فيها.
ابتسمت وأومأت: حلم شاعري لطيف، كأنك أخرجت مشهدًا غراميًّا على مسرح قديم، لكن برأيك –ولا أقصد إحراجك- ما الذي يدفعني لتصديقك، ربما هي حكايةٌ ترويها لكل فتاة تقابلها؟
ابتسم بخجل، ثم قال:
ــ لو كنت أبحث عن إبهار فتاة، لاخترت قصةً أفضل من حلمٍ لا يمكن إثباته.
ضحكت ضحكة قصيرة، وقالت:
ــ يا لك من بارع في التملّص! وهل في هذا الردّ دليلٌ كافٍ؟
قال بنبرة خافتة فيها شيء من الرجاء:
ــ صدقيني لا أبحث عن حجة أو إثبات، فقط قلتُ ما رأيت.
من ذا الذي يستطيع أن يُثبت حلمًا لم يره سواه؟
مرت لحظة صمت، عجز عن قراءة ملامحها؛ أصدقته أم ملّت من حديثه.. بحث عن طريقة لقطع الصمت، ومد الحديث، وسأل: إلى أين أنت ذاهبة؟
أجابت ضاحكة: إلى مكانٍ رأيته أنا أيضًا في أحلامي.
ابتسم ثم عاد يسألها: إلى أين حقًّا؟
لم تجب، فقد كانت ترمق بافتتان جمال الشروق وتتأمله بصمت. الشمس تدلت مداعبة خديها بنورها؛ فزادت وجهها إشراقًا وسحرا.. لاحظ ذلك، فتركها منسجمة، وراح بصمت يتأمل ملامحها، فتاه في حضورها.
بعد أن سكنت لحظة الشروق، التفتت إليه وسألته: ما اسمك؟
كان ما يزال شاردا بها لكنه انتبه: هشام.. وأنتِ..؟
ابتسمت وقالت: نسمة.
فقال بإعجاب: اسم يليق تمامًا بك، أعني بخفتك.. ورقتك.
ابتسمت بخجل، فأردف هشام: وما أجمل هذا اللقاء! أشعر وكأنكِ جئتِ من مكانٍ بعيد.
نسمة -بابتسامة: ربما.. أبعد مما تتخيل.
ثم قالت: ترى ماذا تدرس؟
 أنا طالب في كلية الفنون.
قالت بدهشة:
 رائع، أنا أيضًا أحب الرسم
ابتسم وسأل:
ــ تحبين الرسم فعلًا؟
ــ كثيرًا، لكنّ يدي لا تتبع خيالي.. إن في الرسم قدرة على الخلق، وليس بوسع الجميع أن يمتلك تلك الموهبة.
تأمّلها قليلًا، ثم قال:
 ما رأيك.. أتسمحين لي برسمك؟
ارتبكت قليلًا، وخجلها لم يُخفِ فرحتها.
= ولماذا تريد أن ترسمني؟
 هل رسمك أحد من قبل؟
= لا، للأسف.
 إذن، لتكن هدية لقائنا.
ابتسمت ثم أومأت بالموافقة.

تناسى هشام أمر كليته واصطحب نسمة إلى مرسمه، جلست أمامه، وحل الصمت لكن العيون تكلمت.. تبادلا نظرات ترجمت مشاعر كل منهما، وخلال الرسم أخبرها عن أحلامه السابقة بها، فأنصتت بذهول وابتسام.
كان الوقت ساحرًا؛ كأن الحلم يكتمل على الورق. وبعد ساعات من العمل.. أنهى اللوحة وحين رأتها فاض وجهها بالفرحة، ثم شكرته مرارًا كأنها تلقت شيئًا لا يقدر بثمن.
قال بتعجب وتواضع: لا تشكريني فأنا من طلبت!
ودعته على وعد بالعودة غدًا لأخذ اللوحة، أما هو فذهب إلى فراشه كمن يحضر قلبه للغد.. أكثر من أي وقت مضى.

استيقظ في الصباح مثقلًا بالأرق، لكن قلبه كان خفيفا؛ تغمره سعادة غير اعتيادية. سيتقابلان اليوم أو هكذا ظن. جهز نفسه، وتوجه ليلقي نظرة أخيرة على اللوحة؛ ففوجئ بأمر غريب، هناك، في الزاوية السفلية من اللوحة، كُتب عنوان بخط أنيق، لكنه ليس من كتبه. توقف.. تساءل.. ثم قرر أن ينتظر.
مضت أيام، ولم تأت.. أصبحت الآن غيابًا يحتل أحلامه، ويوقظه من نومه. كان قد وجدها.. أخيرًا قد وجدها، والآن، لم يعد له إلا الانتظار فوق جمر من قلق.
لم يدفعه الفضول وحده، بل الحنين إلى لقاء لم يكتمل، قرر أن يذهب إلى ذلك العنوان، لا ليفك لغز اللوحة فقط، بل ليجدها، بأي ثمن!
سافر شريد الذهن تتقاذفه طرقات مجهولة، وتساؤلات متلاحقة، يبحث عنها في شوارع مدينة غريبة عنه، بخريطة لا يعرف إن كانت تقوده.. أم تضلله. في يده اللوحة، وفي قلبه أمنية: أن يجدها.

وصل أخيرًا إلى العنوان والبيت المنشود. البيت متهالك، نوافذه مغطاة بأكياسٍ رمادية، ويلفه سكون غريب وحزين. بدا كتلك البيوت التي يقال عنها مسكونة!
دق الباب فلم يفتح له أحد.. عبر الباب فوجد رجلًا مسكينًا بعينين متعبتين، ووجه حفرت فيه الأيام أخاديد من الألم. ، سلم عليه ثم أخبره بقصته.. فنظر الرجل إليه مشدوهًا: لا أعرف عما تتكلم.. فتاة جاءت إليك.. ووجدت عنواني لديك!
شعر هشام بارتباكٍ يمتزج بالضيق؛ فنزع اللوحة عن الغلاف، ومدها نحو الرجل وما إن وقعت عيناه عليها، حتى شحب وجهه، وارتجفت يداه، ثم انهار وسقط مغشيًّا عليه أرضًا. فحمله هشام بيديه وأجلسه على كرسي كان بجواره، وبحث -وقد ارتبك- عن شيء ليحضره لهذا الرجل كي يستعيد وعيه، ولم يجد!
أفاق الرجل من إغمائه، تنفس ببطء، ثم قال بصوت متهدج:
صدقتك.. نعم، الآن فقط. أشكرك.. حقا أشكرك، ولكني صرت في دهش أكبر، نعم.. نسمة هي ابنتي، ولكنها ماتت منذ أربع سنوات!
شهق هشام، وتراجع خطوة، ثم قال بذهول: ماتت؟ كيف؟ فمن رسمتُ إذن؟ من تحدثتُ معها؟
بعد صمت ثقيل قال الرجل: لقد رسمت روح ابنتي، نعم.. روحها.. لم تكن جسدًا.. لعله كان حضورها!! لعلها جاءتك لتمنحني عزاءً؛ بعد هذا الغياب الطويل.
أدرك هشام أخيرًا لم بالغت نسمة في شكرها.. وأنه لم يكن سوى رسول لحلم لا يخصه لأمنية لا تعنيه. تلبسه إحباط، وسكنه صمت ثقيل. تمنى لو أن ما مر به أخذ منحى آخر، تمنى لو كان حلمًا.

ترك اللوحة عند والدها، وعاد إلى مرسمه -بعد أن شوقته الأقدار- يثقل ظهره الخذلان، وانتابه غضب عارم أنه تم التلاعب به؛ جعله يبعثر بقدمه يحطم لوحاته.. ويقذف زهرياته نحو ألوانه، حتى انهى انفعاله العنيف بدفع رأسه في الحائط مرة بعد مرة.
سمع الجيران هذه الضجة والصراخ، فاندفعوا إلى شقته، فتحوا الباب فوجدوه فاقدًا الوعي، ممددًا على الأرض، رأسه ينزف ومحاطًا بدمه، استدعوا الإسعاف، ونقل إلى المستشفى على الفور.

في المستشفى كان أخوه يترقب بقلق بالغ، فهشام هو آخر من تبقى له في هذه الدنيا، وكل انهيار جديد يذكره بأنه على شفا فقده. خرج الطبيب من غرفة العمليات بوجه لا يبشر بخير. فلمح فيه نذير سوء، فتجمدت أنفاسه، وارتعد حين قال بصوتٍ منخفض:
حالة أخيك معقدة..
لكن سرعان ما استدرك الطبيب:
اطمئن، حياته ليست في خطر، لكن انهياره النفسي شديد، وقد يحتاج وقتًا طويلًا للتعافي... خاصة أن هذه ليست مرته الأولى. حين رحل والداكما، لم يكن الأمر سهلًا عليه.
سأل الطبيبَ إن كان بإمكانه رؤيته. فأجاب: نعم لكن دقائق فقط، لا أكثر.
دخل الغرفة، أمسك يد أخيه، وهمس: لا بأس، ستكون بخير، أنا هنا يا أخي.
ثم سأله ماذا الذي حدث؟
لم يرد هشام تعبًا؛ كانت عيناه زائغتين وصوته غائبًا وعاجزًا عن التفسير.
تذكر أخوه حين حذره ذات يومٍ، لكنه لم يصغ!
منذ وفاة والدينا وأنا أحاول أن أحميك، لكنك دومًا تبتعد لتعيش في عالمٍ لا يمكنني دخوله. خياليّ وجميلٌ.. نعم، لكنه هش. هش جدًا.
دخلت الممرضة بلطف إلى الغرفة: عذرًا، إن المريض بحاجة إلى الراحة الآن.

بعد أسابيع استقرت فيها صحة هشام.. ظلّ أخوه فيها يلازمه كظله، لا يغادره إلا على مضض، وكلّما لمح في عينيه شرودًا أو اهتزازًا، ألحَّ عليه:
تعالَ عِشْ معي.. أو اسمح لي على الأقل أن أبقى إلى جوارك في المرسم.
كرر الطلب مرارًا، بصيغ مختلفة، برجاء وقلق وصرامة أحيانًا، لكن هشام كان يرفض في كل مرة، بصمتٍ ثقيل، أو بجملة مقتضبة لا تحتمل النقاش:
أحتاج أن أكون وحدي.. أرجوك.
لم يكن الأخ راضيًا، بل قاوم، وعرض حلولًا وسطًا، لكن هشام بدا كمن قرر أن يخوض تعافيه أو حزنه وحيدًا وحده.
وبعد طول إلحاح، تنهد الأخ، ثم قال:
عدني فقط… ألا تكرر ما حدث.
أومأ هشام، بعينين تحملان وعدًا صادقًا لا حنث فيه.
وهكذا.. عاد إلى مرسمه، وحيدًا كما أراد، بينما ظلّ القلق يطارد خطوات أخيه.
عاش هشام في عزلة شبه تامة، عامًا كاملًا؛ يفكر في هذه المرأة التي شغلت باله، ومنذ أن سَلم لوحتها غابت، وغاب أيضًا كل حلم عنها!

يعلم أن اليوم يكتمل عامٌ على رؤيتها، ولكنه لم يكن يعلم أنها في هذا اليوم ستعود.. فجأة، مرة أخرى، بلا تمهيد، بلا صوتٍ مسبق أو ظلٍ على الجدار، ظهرت؛ كأنها انبثقت من العدم، من فراغ الزمن، واقفة أمامه بلحمها ونبضها، وعينها التي ما نسي قط بريقها. ظهرت من العدم.
توقف الزمن، تجمد هشام في مكانه، وعاد لفرك عينيه ثانيةً، وخفق قلبه بعنف، رمش مرتين، ثلاثًا، ثم بدأ يلتفت حوله كمن يبحث عن تفسير، عن شاهدٍ آخر يؤكد له أنه لا يحلم، أنه لا يهلوس.
حاول أن ينطق، أن يقول اسمها، لكنه لم يجد لصوته طريقًا.
ارتبك، اقترب خطوة، وكأن ابتعاده قد يضيعها مرة أخرى، كأن طيفها سيزول إن مرت لحظة دون أن يتلقفه.
أحسّ برعشةٍ تسري في أطرافه، وبمزيج من الخوف، والذهول، والشوق المدفون منذ عامٍ كامل. حن لقربها، فسبق صوت قلبه صوتها وقال: أنا.. أحبك.. أريد أن نكون معًا، بل.. لا أريد إلا أن نكون معًا؛ تصدع قلبي دونك، تشتت فكري في غيابك، فلا يسعني فقدك ولا يمكنني بعد أن وجدتك تحمُّل ابتعادك.
ابتسمت برقة وقالت بلهفة: روحي كذلك تمسكت بك من قبل أن تراك عيني، أحببتك حين كنت تحلم بي، بل أحببتك قبل أن تراني، وهواك تخللني واعتراني، وما أردت بأيٍّ مما حدث سوى وصالك، ولكن أمرًا يحول بين ذلك..
بلهفة: ماذا.. أي شيء يقربنا سأفعله..
أومأت نسمة: شيء واحد يفصلنا، اللوحة التي رسمتها لي لا بد أن تكون معك؛ وإلا لن نكون معا..
لم يسأل: أين كنتِ؟ ولماذا عدتِ؟ لم يطلب تفسيرًا. فقط قال: سأذهب، وأستعيدها.

لم يكن الفضول هو ما يحركه ويحرقه.. لو كان، لغرِق في الأسئلة، لا في قرار.

سافر هشام إلى والدها، وفي داخله تساءل: ماذا لو لم أستعد اللوحة؟ هل ستغيب للأبد؟ هل سأفقدها مرة أخرى حقًّا؟
استقبله الرجل هذه المرة بابتسامة ودودة، مختلفة تمامًا عن أول لقاء.
تبدّل وجه الرجل فجأة، وصرخ: لا.. لن تأخذها!
احتضن اللوحة كما لو كانت طفلًا.
تابع بانفعال: ابتعد! اذهب من هنا... اتركني وشأني.
نطق هشام بحرارة: أرجوك ؛ إنها لوحتي!
لكن الرجل أدار وجهه بحدة: ليس بعد الآن.. إنها ملكي منذ تركتها، ألا تفهم.. إنها الشيء الوحيد الذي جعلني أشعر أن نسمة لم ترحل تمامًا. كل صباح أضعها أمامي وأحدثها. أنت تطلب مني أن أفقد ابنتي مرتين!
فكر هشام للحظة: إذن دعني أرسم مثلها فأُعطها لك وآخذ الأولى.
تردد الرجل لحظة، ثم أومأ بالموافقة.
فتح هشام حقيبته، أخرج أدواته، وبدأ.. بعد محاولات كثيرة لم يستطع، لكنه استمر محاولًا فاستمر تعثره وفشله حتى انتهت أوراقه، همس لنفسه وهو يحدق في الورقة البيضاء: لعل الفرشاة تمقتني، لعل روحي غادرتني منذ رحيلها.
وكأن صورتها في اللوحة تزداد بريقًا كلما ازداد يأسه، كأنها تبث فيه رغبة مجنونة في استعادتها، مهما كلف الأمر. بعد أن ازداد توتره إثر فشله راودته فكرة مجنونة فجأة: أن يسرق اللوحة.. فإنه يتعجل اللحظات، ويخشي أن يفوته اللقاء، ولا أمر يشغله سوى محبوبته.
قال للرجل: سآخذها إلى مرسمي.. لأرسمها هناك.
رد الرجل مقاطعًا غاضبًا: إنها آخر صلة لي بابنتي، قلت لك لن تأخذها، لن تأخذها أبدًا.
انتظر هشام دقائق.. وتظاهر بأنه يحاول مرة أخرى، في تلك اللحظة قال لنفسه: لا، هذا ليس أنا... لم أعد أتحكم!
في تلك اللحظة -سمع نسمة في داخله تستنجد به: خذني.. لا تتركني محبوسة هنا.. أنا داخلك، لست معه.. لست ملكًا له.
استحوذت عليه الحيرة والحب المكتوم، وانفعل.. حتى فقد السيطرة، امتدت يده بلا وعي وأمسك الحقيبة، وضرب بها الرجل على مؤخر رأسه؛ فتسربت الدماء وفقد وعيه فافترش جسده الأرض. تجمد هشام لحظةً ذاهلًا مما فعل، ثم نظر إلى الدم، ثم إلى اللوحة بين يديه.. شكَّ للحظة أنه منذ البداية، لم يملك خيارًا بل لم يكن سوى مطيع لما أرادت. التقط حقيبته على عجل، وركض خارجًا، تاركًا وراءه فرشاته.. ودمًا.

ذهب إلى مرسمه يتحين أن تطرق حبيبته الباب أو أن تظهر مرة أخرى من العدم! جلس مترقبًا. كل صوت في الخارج جعله ينتفض. سمع طرق على الباب؛ قفز من مكانه، وهو يظن أنها نسمة، لكنه فتح الباب ليجد شرطيا:
أنت السيد هشام فؤاد؟
بدهشة أجاب: نعم، ما الأمر!
بحدة لم ينتظرها هشام: أنت مطلوب للعدالة، إنك متهم بجريمة قتل.
أخذه إلى التحقيق وأدين هشام بفعل البصمات على فرشاته وشهادات الجيران، ثم بعد ذلك أخذوه إلى المحاكمة، وحكموا عليه بالإعدام..
في اللحظة الأخيرة، قبل أن يسكن الجسد..
ظهرت نسمة وهمست: الآن.. ستبقى معي، إلى الأبد.

(4)

أثر الرماد

تسلل الفجر على استحياءٍ فوق جبالٍ لا اسم لها، زاحفًا بهدوءٍ فوق قممٍ من حجارة داكنة، خرجت من نومٍ عميقٍ لا تلوح فيه نية للصحو. وفي السفح، حيث الغيم يلامس الجذور، نامت غابةٌ كثيفةٌ تُدعى «الصخرة السوداء».
تصطف أشجار الصنوبر في محيطها كتفا إلى كتف، كجيشٍ قديم لم يُهزم يوما في حراسة المكان، تتراص في صمتٍ مهيبٍ لا يخرقه إلا أنين الريح حين يعبر بين أغصانها، ونور القمر المتسلل بين أوراقها.
في عمق الغابة استوطنت قبيلة «الحمراء»، وعاشت قرونًا في أكواخ بدائية بُنيت من خيزران مائل وسعف يابس، امتزجت قواعدها بفعل السنين بطين الغابة الذهبي حتى أصبحت امتدادًا للأرض نفسها.

وفي صباحٍ نادرٍ بارد، اجتمع القوم كأنهم خرجوا من الجذوع ذاتها. تزينت وجوههم بالرماد والحناء، وطُليت أجسادهم بلونٍ خفيف من ترابٍ مُرّ، وتقدم رجلٌ منهم نحو صنوبرةٍ عتيقة -بلغت قمتُها السحاب، وغرس في جذعها معدنًا مصقولًا مدبب الرأس، فثبت كما ثبتت تلك الشجرة أمام كل عاصفة مضت.
لم يسبب الطَّرقُ فقط خرقًا في الجذوع، بل سبب دويًّا في الضلوع. ارتجت الأرض تحت أقدام الواقفين، وسمع الزائرون –وكانوا غرباء– رجعَ المعدن لا في الآذان بل في القلوب.
وقف قائد الرحلة، رجلٌ يُدعى في دفاترهم «المستكشف»، لكنه كان هنا لا يحمل من الاستكشاف إلا الحيرة. طويل القامة، شديد القسمات، يحمل في يده خرائطَ وفي عينيه شكًّا، ويقف مراقبًا ما لا يفهم، تحوطه خُرافةٌ تمشي على قدمين، وتُترجِم له فتاةٌ جميلة من شعوب «الأندامان»، لم تكن تعرف من الأرض إلا الغابات، ومن اللغة إلا ما يصلح للبقاء.
حلق الغناءُ في الأعالي بلا كلمات، وتراقصت الخُطى بخفة على إيقاع غامض، وحين جاء الطعام، أُوتوا بأوعيةٍ من خشبٍ قاتم فيها شيء يشبه العسل، لكنه أثقل، أشد، وله طيفٌ رماديٌّ لا يُرى إلا في الظل.
ذاقوه، وما إن فعلوا حتى غشاهم سكْرٌ لا يقاوم. وفي اللحظة التي خيّم فيها الصمت، بدأت النحلة.
نحلةٌ تحوم في الأرجاء؛ طنينها مزعج، بث القلق في أرواحهم، تتحرك في دوائر فوق رؤوسهم كأنها تخطُّ في الهواء رموزًا، وتختفي ثم تعود.
جلست المترجمة عند محيط الدائرة من الخارج، بعيدًا عن العسل والرفاق، ترقُب الرجل الذي ما زال يدقّ المعدن. اقتربت منه بخطى مترددة، تسأله بلغة القبائل:
لِمَ تفعل هذا؟
رفع رأسه نحوها، ونطق بجملة غامضة بين الحقيقة والسر. حين سمعتها، ارتسمت على وجهها ابتسامة خاطفة سرعان ما تحولت إلى جمود، ثم عبوس، ثم ذُعرٍ.
لم تقل شيئًا. فقط ركضت. لم تستأذن، لم تُنذر، بل فرّت تاركة قلب المستكشف ينبض دون أجوبة، تبعها، وهو يتساءل: هل لدغتها تلك النحلة؟
وهتف قائلا:
هل هددتك هذه المرأة؟ تكلمي يا خرقاء!
فأجابته، والأرض تتفلت من تحت قدميها:
إنها ليست امرأة.. بل هو رجل!
وهل قال لك اهربي؟
لقد قال:
«من لا يبارك الأرض بصدق خطاه..
يتدلى كالثمرة المرة على غصن الغفران اليابس
وحينها يمكن أن يقدَّم للنار؛ ليتطهر مما تبقى فيه من كذب».
صمتَ المستكشف مذعورًا، خرجت الجملة وانغرست في صدره، ثم قال، بصوتٍ اختلط فيه الهباء بالعَرَق: لماذا؛ ماذا.. فعلنا؟
فقالت، وجسدها يرتجف: لم نفعل شيئًا. لقد وقعنا بين أنياب قبيلةٍ تأكل لحم البشر.
وقبل أن تُكمل، أخرج سلاحه؛ وأطلق لكنه لم يطلق الرصاص على الزعيم، ولا على الذين اقتربوا يتهيؤون للرقصة الكبيرة، بل أطلق رصاصة طائشة على قدم المترجمة.

صرخت، وهرولت، ودوّت الطبول، حتى بدت الغابة كلها تنبض كأن الشجرة العمياء فتحت عينيها، والسماء أذنت بالموت. اختنقت أنفاس الأرض وانقض ثقلها على صدورهم فتكبلت الخطى، واستحال الفرار. توقفت الطبول بعد رصاصةٍ خرقت قدم المترجمة، وعم سكونٌ مفاجئ، كأنما استُدعِي هدوء ما قبل العاصفة.
عاد المستكشف إليها بخوفٍ متثاقل، وهي راقدة على الأرض، طمر التراب ملامحها، عيناها زائغتان، أنفاسها متقطعة، وجسدها يرتجف. شعرت بالغربة؛ لم تكن جزءًا من هذا العالم، كانت تظن أن معرفتها باللغات تحميها من المجهول، وأمست الآن أمام طبيعة لا تعرف مفرداتها.
قلبه ما زال ينبض بشكلٍ أسرع رغم مأمنهم المؤقت، وعيناه تراقبان الأفق كأنها تبحثان عن شيء لا يظهر أو ترجوان ألا يظهر. سحبها وحده بصعوبة بينما تجمدت بقية الحملة بعيدًا.
ارتجت الأرض تحت أقدامهم بعنف مرة أخرى، واحتشدت في السماء سحب قاتمة، ناسجة عباءة الظلام، كاسية الأفق بليل غريب. وقف الزعيم «أكيتشيتا» وسط دائرة من أبناء قبيلته، رافعًا يديه نحو السماء كأنه يستمد طاقته من العاصفة نفسها، أو تنبعث من بين يديه. توهجت عيناه بشكل غريب، وصرخ بكلمات انسلت بين الأثير، تقسم على القدر أن يمضي وفق ما يشاء، فحملت وقعًا قويًا هز الكون من حولهم.
ازدادت الرياح حدة، واهتزت الأغصان مصدرة أنينا خافتًا، وانسحب الضباب ببطء من بين الأشجار، مطوِّقًا المكان بظلال الغابة الثقيلة. وتضرعت قبيلة الحمراء حول «أكيتشيتا» في حالة بين الخدر والصحو، يرضخون بكل خشوعٍ لهذه الطقوس التي لا يدرك معناها سواهم.
قال المستكشف بنبرةٍ متوترة: أنا آسف.. لم يكن ذلك هو المقصود.. كل ما أردته.. فقط.. أن أهرب من الموت.
أجابته بصوتٍ هشٍّ وحزين: لكنَّك لم تفر من الموت، بل أتيت إليه.. أنت هنا الآن في قلبه.
ارتد صوته إلى أعماقه، وأخذ يتأمل تلك الوجوه، التي بدت وكأنها تجسد الرعب، بل وربما الموت نفسه. على حين غرة، كأنما استجاب الكون لكل كلمةٍ نطقها الزعيم، عصفت الرياح بكل شيء حولهم، وانحنت الأشجار راكعة كما لو كانت تُبدي طاعتها للأمر، وابتلع الأفق نفسه في دوامةٍ من العتمة، وانفرجت السحب، ومعها اشتعل البرق بشكلٍ عنيف محوّلًا الظلمة إلى نهار مؤقت مرعب على هيئة ومضات.
في لمح البصر، هدأ كل شيء، توقفت الرياح، وسكنت الأرض، لكنهم خافوا أن يلي هذا الهدوء عاصفة أعتى وأقرب مما مضى، بالرغم من ذلك من فرط التعب ما استطاعوا إلا افتراش الأرض.

بعد أيامٍ من همس الظلام من كل الجهات، من بين أوراق الصنوبر وجراح اللحاء، من الأعشاش الفارغة، ومن أنين الأمعاء في البطون الخاوية، التفت الحملة حول نارٍ واهنة، تحرسها أجسادهم. النور يتماوج على وجوههم، كاشفًا الخطوطَ التي رسمها الجوع والخوف، ثم يخفيها كأنما يتردد في قول الحقيقة.
سكنت المترجمة على جذعٍ مائل، رأسها بين كفيها، عيناها تحدقان في دفترٍ صغير تكتب فيه جملًا مبتورة، كلمات تسرّبت إليها من شفاه امرأةٍ عجوزٍ في القبيلة عندما استقبلتها:
«يا ابنة الماء والظل..
ما كل قادم من البحر رسول نور
فقد يكسو الليل نفسه بثوب النهار
وتمشي الذئاب في جلد الضيوف
إياك أن تسلمي مفاتيح الأرض لمن لا ينشد أغانيها».
ولمّا رفعت عينيها، صادفت عين نعيم. كان يقف في الطرف الآخر من الدائرة، نصفه في الضوء، ونصفه الآخر قد ذاب في الظل. كان ينظر إليها نظرةً لا هي تحديق، ولا هي فضول، بل شيء بينهما.
اقترب منها بخطى بطيئة، وناولها كومة أوراقٍ خضراء ملفوفة بعناية.
لا تأكلي ممّا يقدمونه الليلة، الرائحة مختلفة.
نُطِقت الجملة بنبرةٍ ناعمة، كأنها رجاء أو تحذير. لكنها لم تأخذ الورق؛ نظرت إليه بريبة، وفي قلبها ارتفع جدار لم تدرِ كيف شُيّد.
سألته بنبرة غريبة:
أتعني أن في الطعام.. ما يضرّ؟
رد ببساطة، وهو يتراجع:
أعني فقط أن بعض الأيادي تطهو للنجاة، وبعضها للطاعة.
ومضى، تاركًا خلفه غصّةً في الهواء خرقت الفراغ إلى قلبها.
في تلك الليلة، لم يستطع أحد النوم بعمق. نهض أحد رجال الحملة، والتفتَ يمنة ويسرة، ثم رأى من بعيد ظلًّا ينزلق بين الأشجار.
دُهش، دقق النظر، فشاهد نعيم يبتعد، ممسكًا بكيسٍ صغير، يتحرك بخفةٍ لا تشبه خطواته المعتادة، ثم يختفي في الظلام وفي الافق.
فجأة، تقيّأ أحد الرجال قرب النار، ثم تهاوى أرضًا وهو يتلوّى، وقال بسخرية: أعتقد أن هذا تعبيري عن رأيي في وجبة العشاء!
خلال ساعات، تبعه اثنان آخران في نفس الألم. لم يجد الطبيب سببًا واضحًا لإعيائهم، ولم يجد كذلك الأعشاب التي أحضرها من القبيلة للتداوي.
تبدّلت وجوههم، أصبح نومهم جميعا متقطّعًا، والأعين معلّقة بوميض الألم. قيل إن الطعام لم يكن محفوظًا جيدًا، لكن المترجمة تذكرت ما قاله نعيم، وأن هناك ما هو أعمق من فساد طعام.
عند الفجر، علم المستكشف بتسلل نعيم، تقلَّصت ملامحه، لكنه لم يعلّق. التفت إلى المترجمة، وقال:
كنتِ محقّة. تصرفاته تُقلقني.
أنا لا أعرف إن كان خائنًا، ولكن.. حديثه عن الطعام، عن الماء، عن الطاعة.. كلها إشارات.
ولم تمضِ ساعة، حتى وُجد أحد صناديق المؤن مفتوحًا. ليس مكسورًا، بل مفتوحًا بعناية. النقص فيه بسيط، لكن كأن هناك من أخذ منه أشياء محددة، لا عشوائية.

عند الظهيرة، أُقيم اجتماع عاجل. جلسوا على الأرض، في دائرة، والنار في وسطهم تصطك. تأخر نعيم في الوصول. وعندما جاء، كان وجهه يحمل الشقاء، كأن الليل والليلة السابقة أكلا جزءًا من روحه.
فور وصوله، وقف أحدهم واتهمه مباشرة:
أين كنت البارحة؟ ولماذا فتحت صندوق المؤن؟
قالها بنبرة لم تترك لنعيم مجالًا للنفي؛ فصمت نعيم، ثم ابتسم:
الذي يسرق لا يعود للنار. والذي يخون لا يحمل العشب في جيبه.
إذن ماذا كنت تفعل؟
سرت إلى مكان لا تسمع فيه أصوات أحذيتكم الثقيلة.
ثار الجمع. قام اثنان وربطاه دون مقاومة. كان المستكشف واقفًا، عينيه على نعيم، وصدره يضطرب بشكٍ متسارع.
سأله:
هل تتعامل مع القبيلة؟ هل كنت تسرّب لهم عنّا؟
هزّ نعيم رأسه تعجبًا، وقال:
كلما هممتُ بأن أقول، أسكتني يقين أنكم لن تصدّقوا. فاخترتُ أن أخدمكم من بعيد. خطأ هذا أم صواب، لا أعلم.
لكن حارس الحملة صاح:
كاذب! أنت تدّعي الحكمة، لكنك تتستر على خيانتك!
وشدّه إلى شجرةٍ قريبة، وربطه بحبلٍ خشن.
لم يحتجّ نعيم، فقط قال:
الخائن يهرب. أنا هنا، أمامكم، فلا تصدقوا أقدام الظنّ حين تمشي فيكم.
تدخل شاب ساخر نحيف، يحمل كاميرا مهتزة بين يديه، هو ذلك الشاب الذي سخر من العشاء، قال ضاحكًا: نعيم، هل تعلم أن كلماتك تشبه أوراق اللعب؛ لا أفهمها! وكلما قلبت واحدة، زادت الورطة!!
في تلك اللحظة، رفع المستكشف رأسه بحدة وحدّق فيه بعينين مشتعلتين، ثم قال بصوت حازم:
كفى، لسنا في مسرح هزل. إن لم يكن لسانك عونًا لنا، فليصمت. وابتعد قليلا، قبل أن نفقد أكثر من صبرنا.
سكت الشاب، لكنه تمتم وهو يبتعد:
فهمت.. لن أمزح مجددًا، ولكن إن بدأ أحدكم يتحدث بالألغاز مجددًا، سأطالب بمترجمين إضافيين أو أوراق لعب جديدة على الأقل!

في الليل التالي، مرّ المستكشف بالقرب من نعيم. كانت النار ما تزال تتنفس، والسماء تنبئ بمطر قريب.
وقف أمامه، وقال:
إن كنت بريئًا، تكلم الآن. غدًا لن أسمح لأحدٍ بأن يقطع هذا الحبل من دون حكم نهائي.
رفع نعيم رأسه، والعبَرات حبيسة في عينيه. شق التعب وجهه بخطوط جافة تفضح أثر ليلةٍ أثقلته.
ألم تفكر في السبب الذي يجعلني أعود كل ليلة؟ أليس في كل رجل سرٌّ لا يُروى إلا حين يُفقد؟
ــ ما الذي كنت تفعله إذًا؟
كنت أُفاوض شيخًا من القبيلة. اسمه «كورا». أراد أن يساعدنا. كان هناك من ينوي أن يسلّمكم لمجموعة مقاتلين في الجهة الأخرى من الغابة. كان الوقت ضيقًا، فحاولتُ أن أشتري بعض الرحمة لنا. ليس منكم، بل منهم.
بعد لحظة صمت؛ سأله:
ولِمَ لم تقل لنا ذلك منذ البداية؟
لأن الخوف من أن تُتّهم قبل أن تُفهم، أشدّ من ألم الحبل. ولأنكم لو علمتم، لربما سكن الشك الجميع، وكنت أظن أني أقدر أن أتحمل ذلك وحدي.

في الصباح، كانت المترجمة تجلس قرب شجرة، تحدق في وجهه. لم يكن نائمًا، بل كان ينظر إلى السماء.
قالت له:
ــ ما اسمك الكامل؟
رد بهدوء:
ــ نعيم بن عيسى. لا أحد ينتظرني في الخارج، ولا أحد يعرف أني هنا. لذا فإن موتي لن يُحدث صوتًا وألما إلا في صدوركم.
ــ أتمنى ألا تكون كاذبًا.
ــ وأنا أتمنى أن تكوني قادرة على التصديق.

بعض الرجال بدأوا يلمّحون للمستكشف أن الحبل قد طال، وأن الوقت لا يرحم.
لكن المستكشف قال:
سننتظر يومًا آخر. فقط يومًا.. قد تكشف فيه الحقيقة عن وجهٍ لم نره بعد.
تركوا نعيم وحيدا يهلكه الجوع، وتخنقه عيون لا تُميز بين الحقيقة والسراب، وتنعته أفواه بالخائن، بينما هو في داخله يتخبط متسائلا: من هو فعلًا الذي سقط في أشواك الخديعة وظلال الزيف.
كلما مرّ عليه أحد، ألقى عليه نظرةً عابرة، ثم أشاح، وكأن في رؤيته نوعًا من الخزي، وكلما لمح وجهًا، ارتجف قلبه وتراجع خطوة، كأن كل ملامح من عرفهم قد اختزلت في قناع واحد.

في وقت الغسق، بينما كانت الشمس تنسحب ببطء، اقتربت منه تحمل كأس ماءٍ دافئ.
هل أنت جائع؟
نعم، لكن الجوع الذي ينهشني حقًّا جوع ليس في البطن، جوع في القلب.. أمضى وأشرس.
أطعمته قطعة صغيرة من خبزٍ جاف، نظر إليها وابتسم. تلك الابتسامة جعلتها تشعر بأن في هذا الرجل نبلًا مختنقًا تحت رماد الشك.
سألته:
ما الذي كنت ترجوه؟ لماذا خاطرت بهذا الشكل؟
قال بصوت عميق:
بعض الأفعال لا تكون فضيلةً ولا خيانة، بل محاولة لفهم النار دون أن نحترق.
لكنهم يرونك خائنًا.
وأنتِ؟
نظرت إليه بعينين ملؤهما الحزن والرحمة، وقالت بصوت خافت:
أعلم كم هو الألم الذي تعانيه.. وكيف يثقل الجوع جسدك وروحك. رغم كل شيء، لست خائنًا في عيني.

في الصباح، أرسل المستكشف رجلين لتفقد محيط المعسكر. ولم يرجع أحد منهما. لم تكن هناك جثث، فقط آثار أقدامٍ تنتهي عند نهرٍ ضحل. وبدأ الخوف ينسج خيوطه في النفوس.
عادت الأصابع تتجه إلى نعيم.
ربما دلّهم علينا. ربما أعطاهم موقعنا مقابل نجاته!
قالها أحدهم بانفعال، ثم أكمل: يجب أن نُنهي هذا، اليوم قبل الغد!
لكن المستكشف سكت، ولم يُصدر أمرًا.

في الليل، هبط المطر فجأة بغزارة، وهبت رياح باردة اجتاحت المخيم كله، وأطفأت معظم النار. وفي غفلةٍ من الجميع، اختفى أحد الحبال التي كانت تربط نعيم.
عندما اكتُشف ذلك، اهتاج الجميع.
لقد هرب!
اللعنة! لقد خدرنا ثم اختفى!
ركض الرجال بين الأشجار، يطاردون أثره. صيحاتهم ملأت الغابة. أما المترجمة فقد كانت واقفة عند جذع شجرة، تتأمل الحبل المقطوع.

صباح اليوم التالي، وُجد نعيم عند حافة المخيم، جالسًا على صخرةٍ مبللة، ينتظر. أحدهم رفع بندقيته فورًا، لكن المستكشف رفع يده مانعًا إياه.
سأله:
لِمَ عدت؟
قال نعيم، بنبرة لم تخلُ من هدوءٍ مريب: لأني لم أهرب.. كان لدي موعد حتمي. ذهبت لأقابل «كورا»، للمرة الأخيرة. أخبرني أن هناك انقسامًا داخل القبيلة. بعضهم يريد قتلكم، وبعضهم يرى أنكم جئتم بأمر أكبر منكم.
أمر؟ ما الذي تقصده؟
أقصد أنكم ربما لستم حملة استكشاف كما تدّعون. أنتم تحملون شيئًا يهدد هذا المكان. شيئًا لم تفهموه بعد.
تراجعت المترجمة خطوة. كانت قد سمعت هذا الكلام من نفس المرأة ذات يوم:
ليس كل من جلب الخرائط، جاء ليسجّل.. بعضهم يرسم قبورا بحبر ذهبي.

أمسك أحد الحراس «نعيم» وقذفه في حفرة عميقة، تحطمت قدمه إثر الاصطدام. صرخ عاليا فامتد صدى أنينه جميع أرجاء المعسكر، وانهار باكيًا من الألم، ووقف المستكشف ورجاله يستمعون إلى كلماته المتقطعة التي تنبع من انكساره.
«كورا» أخبرني أن.. بعض أفراد قبيلتهم.. يظنون أنكم.. تحفرون في مكانٍ مقدس، وأنكم لجهلكم.. تنتهكون.. شيئًا.. لا يجوز الاقتراب منه.
رفع المستكشف رأسه، وقال:
لكننا لم نحفر شيئًا.. كل ما فعلناه هو تسجيل ومراقبة.
وهنا تكمن الخيانة في نظرهم.
أي خيانة؟
ردّ نعيم، بصوت يحمل زفرات الجراح:
ربما خيانة الفهم. أنتم أتيتم تظنون أن كل شيء يُقاس بالخرائط والمقاييس. ولم تفهموا أن هناك أماكن لا يُقاس محيطها، بل يُصغى لقدسها.

في تلك الليلة، كانت المترجمة وحدها. تُقلب في دفترها، تُراجع الرموز هاربة من صرخات نعيم المؤلمة. وتحت ضوء النار، لاحظت جملةً لم تفهمها إلا الآن:
الذي يحاول أن يُنقذ الجميع.. قد يُجلد من أجل الجميع.
تجمّدت أنفاسها، ثم استجمعت شجاعتها. أدركت أن الجلاد قد يكون القدر أو صمت الجميع. بخطى متثاقلة، اتجهت نحو الحفرة.
اقتربت منه، وكان مسندًا ظهره للوراء. سألته:
هل تكرهنا؟
قال بابتسامة جافة:
أنا لا أكره أحدًا. ولكني تمنيت لو أن أحدًا سألني مبكرًا: لماذا تمشي وحدك كل ليلة؟
وسكت. فتراجعت باكية على عجزها عن إنقاذه.

ثم جاء الفجر؛ وفيه: رآه الجميع على حاله، جالسًا كما تركوه، لكن رأسه مائل. لا حركة، لا نفس.
ركضت المترجمة، ثم تراجعت ببطء.
عرفت أنه مات، وماتت معه الحقيقة، أو جزء منها. فلم يعرف أحد إن كان بريئًا، أو كان خائنًا بارعًا في التمثيل.
لكنهم كلهم حملوا ذلك الارتباك معهم في العيون، حين غادروا الغابة لاحقًا، وكأن وجوههم صارت مرايا.. وكل منهم يرى خيانته في ملامح الآخر.

سقط نعيم كما تسقط ورقةٌ خريفية لم يُكملها الضوء، لا صرخة، ولا مقاومة، فقط انطفأ. جلس كما اعتاد، مطأطئ الرأس، مشدود الظهر كأنه ينتظر جلدًا سوف يأتي. وعندما اقتربت، لم يكن فيها شك، بل رجفة من لا يريد أن يعرف.
أخرجوه من مكانه، فجثت إلى جواره، وضعت يدها على عنقه، ولم تجد سوى الصمت. الصمت الذي لا يليه نفس. تلى ذلك كلمتها التي تشبه نهاية القصائد المنسية.
قالت:
لقد مات.
قالتها، ثم لم تقل شيئًا بعدها.
وقف الرجال، كلٌّ منهم ينظر للآخر، كأنهم جميعًا ارتكبوا جريمة مشتركة لم يكتبوا فيها سطرًا، لكنهم وقّعوا عليها بالسكوت. لم يبكِ أحد، ولم يُظهر ندمًا صريحًا، لكن المستكشف أول من مشى بعيدًا.
دفنوه بين شجرتين متعانقتين، دون تأكد إن كان خائنًا. أو كان كالأنبياء الذين لم يكرموا في قومهم.

من بعد الدفن، تغير شيء بينهم. صارت العيون أكثر اضطرابًا، والهمسات أكثر تكرارًا، والخرائط تمسي كل ليلة أكثرغموضًا.
جلس المستكشف تلك الليلة وحده، يقلب دفتر نعيم الذي استُخرج من متاعه. لم يكن فيه شيء يُدين ولا يُنجّي، بل كلمات مبعثرة:
«نحن لا نخاف الغابة، بل ما نخفيه عنها.
إذا تنفّست الأرض، تنشقّ عن شبحها. ليس ليرهب، بل ليذكّر.
الأرض لا تقتل... بل تبتلع من يستفزّها».
قرأها بصوتٍ خافت، ثم أغلق الدفتر وألقاه قرب النار، ومضى بخطى مثقلة تاركًا الدفتر خلفه، لكنّ يدًا ناعمة امتدت إليه قبل أن تلتهم النار كلماته.

في اليوم التالي للدفن خيّم الصمت على النفوس، لكن سرعان ما تسلل الشك يعبث بالخواطر. تناثرت نظرات الريبة، وارتعشت الأيدي إلى أن انفجر أحد الرجال.
هي الوحيدة التي صدقته، الوحيدة التي وقفت قربه، وقدمت له الطعام.. ألا يستدعي هذا سؤالاً؟
أرادت أن ترد، لكنها شعرت أن كل كلمة ستُقطع إلى تهمة.
نظر المستكشف إليها، فوجد في عينيها برودًا لم يره من قبل. ليس خوفًا، بل شيء أقرب للانكسار.
قال:
نحن في خطر. وإذا كنا سنأكل بعضنا، فإن الخطر صار فينا لا خارجنا.
لكن آخر صاح:
بل إن الخطر كان بيننا، لكنّه ترك سمّه فينا قبل أن يُدفن!
*
زاد التوتر مع تغير وجه الغابة. ليالٍ باردة. أصوات مجهولة، لا تُشبه إنسانا ولا حيوانًا، وخيام تتمزق ليلًا دون أثر لفاعل.
بموت نعيم انكسر التماسك. صار كل رجل يرى في الآخر خصمًا محتملًا. قطعت الأحاديث والضحكات، ونام الجميع قرب أسلحتهم.
بدأ المستكشف يدوّن في دفتره، لأول مرة -لا حول الاستكشاف، بل حول النفوس!
في هذا اليوم عبر رجلان النهر لجلب عينات من الضفة الأخرى، بدا التيار هادئًا، وقف الطبيب يراقبهما من بعيد. بعد دقائق، شيء خفي هزّ المركب بعنف، صرخ أحدهما وسقط في الماء، حاول الثاني إنقاذ رفيقه، لكن يدًا غريبة أمالت القارب.
وقف الطبيب يصرخ: النجدة.. النجدة!
ركض الفريق نحو الضفة، لكن النهر ابتلع الجسدين في صمت، وسحبهما للأعماق دون مقاومة، وبلا أثر؛ كأن شيئا لم يكن. وقف الطبيب عند حافة النهر ويداه مبللتان من محاولة الإنقاذ، عيناه تحدقان في الماء، تفتشان عن ظل أو جسد يطفو، وتكرر المشهد في ذهنه.
استدار نحو الفريق، وصرخ بصوت متهدج:
لا بد أن نعرف من قتل رجليّ!
تصفّح المستكشف سجل الحملة، وجهه متجهم، وعيناه تفحصان الأسماء بعناية، توقف عند اسم: «غفير» الرجل الذي قذف نعيم في الحفرة. لم يُر منذ الأمس، ولم يسجل خروجًا. إحدى الخيام كانت فارغة؛ فسأل بصوت منخفض:
هل رآه أحد بعد الغداء؟
الأجوبة جاءت مترددة، لا أحد يعرف.
طرح سؤالا في غاية الغرابة:
الظل الذي رأيته… هل يمكن أن يكون بشريًّا؟
رد الطبيب بحزم:
بالتأكيد؛ كان بشرًا. ولم يكن من رجليّ الاثنين.
رفع المستكشف رأسه وحدّق في الخيام، عددها كما هو ثلاث وأربعون خيمة، واحدة منها كانت فارغة.
جمع سبعة من الموثوقين، وتوجهوا في صمت نحو أطراف المعسكر. خطوات منفردة على التراب قادتهم إلى قبر نعيم.
هناك، وجدوا «غفير». ممددًا، ساكنًا، كما لو باغته النوم. لكنهم عرفوا أن ما يَرونه هو موت.
لا طلقات، لا مقاومة. فقط جرح رفيع في عنقه، أشبه بتوقيع من قاتل أراد أن يُرى.
وعند رأسه، ورقة من دفتر «نعيم».
كيف وصلت؟ هل نُسيت في جيبه؟ أم أن أحدًا دسّها؟
في ذلك الوقت، اهتز يقينهم من الداخل. التف الرجال حوله:
أنت قائدنا… ماذا سنفعل؟ هذا تحذير. هذا توقيع ورسالة.
قال أحدهم:
– أقسم أن نعيم لم يمت... بل عاد. روحه تتقمص أحدنا، أو شيئًا ما.
صرخ آخر:
– إن كانت لعنة، فهي فينا، لا في الأرض!
انكمشت المترجمة داخل نفسها عندما علمت، ولم تقل شيئًا. لكن في داخلها، همست جملة من دفتر نعيم:
حين لا تُصدّق الحقيقة، تصير الخرافة خلاصًا!

في الليلة الأخيرة من الفصل البارد المتقلب، وقف المستكشف وحيدًا قرب نارٍ صغيرة. قرر أن يتخذ إجراءً.
جمع الرجال، وقال:
لن ننتظر. سنغادر فورًا. لن نبقى حتى تبتلعنا ظنوننا.
لكن الطريق لم يكن سهلًا. فقد انقطعت الإشارات، وابتلعتهم طرق لم يسلكوها من قبل، كأن «الصخرة السوداء» نفسها أعادت رسم خريطتها، أو أن ما عرفوه من معلومات عن الأرض والنهر والسماء كلها كاذبة.
اقتربت المترجمة منه وسألته:
هل تظن أننا أخطأنا؟
قال بعد صمت طويل:
نعم.
نظرت إليه وقالت:
أظن أن نعيم كان بريئًا.
رد بهدوء، وصوته بالكاد يُسمع:
أظن أن براءته لم تكن تعنيه، بقدر ما كان يُحاول أن ينبهنا.
ونظر في اتجاه قبره.
وأكمل:
أظن أن الغابة لا تقتل.. نحن من يفعل، حين لا نرى إلا أنفسنا!

التف الرجال حول نيران استراحة مؤقتة في صمت مطبق. كلٌّ منهم يمضي وهمُّه يتدلّى من عنقه، لكن السؤال الأكبر ظل يختنق في الحناجر: ماذا بعد؟
قال أحد الرجال بصوت هادئ:
ربما الغابة تحاول أن تخبرنا بشيء، ولكننا نسمعها بأذان مغلقة.
ضحك الشاب المتهكم وقال:
أعتقد أنها تريدنا أن نرقص معها بدلًا من الهروب!
ابتسمت بخفة، قبل أن يعود التوتر ليعانق المكان من جديد.
في تلك اللحظة، جلس المستكشف وحده، بعيدًا عنهم. يحدّق بعينين زائغتين في فراغٍ لا تُدرَك عجائبه، يتهرّب من أفكارٍ تتربص داخله.
ومع ذلك، حين اقتربت منه المترجمة، لم يتفاجأ. كان يعلم أنها ستأتي -فهي التي تتبعه كظلّ لا يضلّ أثره، تثق به رغم شكّه، وتنبض بالأمل الذي يرى في عينيه.
قالت بصوت منخفض، يكاد لا يُسمع:
أعرف أنك لا تنوي ترك هذا المكان.
رمقها بنظرة ثابتة، ثم همس:
هذا المكان لا يريدنا أن نخرج.
نظرت إلى عينيه باحثةً عن جواب مفقود لم يبح به، ثم قالت:
هل ما زلنا نبحث عن ثقافة؟
كان سؤالها وحيدًا، لكنه حمل كل الشكوك المتراكمة. لم يجب، بعد أن تلاشى يقينه، وتاه في شكوك وأسئلة لا تخصه.
قال في نفسه بصوت خافت: لم تكن هذه المهمة مجرد بحث، ثم أضاف: كانت الحملة شيء آخر.
سكتت لحظة، ثم التفت حوله وأضافت:
إذا كانت هذه مهمتنا الحقيقية، لم يكن يجب قتل نعيم.
 نعيم... كان يعلم شيئًا، لكننا تجاوزنا نقطة العودة. كل من حاول الفرار، قُتل أو عاد إلى حيث بدأ.

في تلك الليالي، تلاشت الحدود بين الواقع والخيال. مات أحدهم، ودُفن آخر، وغرق آخران. الحقيقة لم تأتِ واضحة، بل كطيفٍ يتجلى ثم يذوب. ظلّت الكلمات حبيسة الصدور، وارتفع الصمت كطبقة رماد تخنق كل شيء.
حين تحرك الفريق صباحًا، قادهم المستكشف بأقدام مترنحة. ومشت المترجمة خلفه، بقلب مثقل بأسئلة لا جواب لها. تعرف أن الحقيقة ستظهر في وقتها، لكنها لم تكن تعلم متى سيعترف بها من حرّفها.
تغيرت بوصلة الغابة منذ مقتل نعيم. الطبيعة الجميلة صارت تترصد وتحيك مصيدة. ورغم كل هذا، ظلّوا يتبعون المستكشف. لا لأنهم يثقون به، بل لأن لا أحد يملك وجهة غير وجهته.

وصلوا إلى أطراف الغابة البعيدة مرهقين، لا يدرون ما الذي جرّ أقدامهم إلى الأمام. رافق خطواتهم شعور غريب.. كأن ظلًا غريبًا يلاحقهم من حيث لا يرون.
عند لحظة معينة، سحب المستكشف خريطة قديمة من جيبه، وفحصها بعناية، وكما لو رأى شيئًا لم يره الآخرون. قال بصوت هادئ، مشوش:
نحن في المكان الصحيح، لكن..
ثم توقف، وأضاف: الطريق مغلق. لا أحد منا سيغادر إلا إذا فعلنا شيئًا آخر.
هنا، بدأ التوتر يتصاعد بين المجموعة. سألت بصوت خافت:
ماذا تعني؟
أجابها بصوت صارم، وهو ينظر بعيدًا في الفراغ، رافعا صوته ليسمع الجميع:
الطريق مغلق.. ليس بسبب شيء طبيعي. هناك من لا يريدنا أن نخرج من هنا. شيء ما في الغابة، أو ربما من خلفها، يمنعنا، لكني متأكد أننا مراقبون، وأن خطانا محسوبة بدقة.
ثم أشار إلى الخريطة، مضيفًا بنبرة غامضة:
هذه الخريطة تخفي أكثر مما تظهر، وهناك أماكن لم تُرسم بعد. أماكن لا يريد أحد أن نصل إليها.. ولكننا مضطرون لأكثر من المقاومة، إن أردنا النجاة.
ومع كلماته، ارتفعت همسات الشكوك في قلوب الجميع، بينما كانت الغابة تتنفس صهدًا حولهم، كما لو كانت ترفض وقع أقدامهم.

لم تعد المترجمة تحتمل التوتر المتصاعد والشكوك التي تلتهم قلبها. كانت الكلمات التي بدأ يرددها مؤخرًا تخيفها أكثر من أي شيء آخر، جعلتها تتأمل المدى الفاصل بين الحقيقة والسراب. ذلك الخط الرفيع الذي لا يُمسّ ولا يُفسَّر.
من حولها؛ بدت عيون الفريق مثقلة أيضًا بالتساؤلات، تتقاطع فيها الحيرة مع القلق، ومع كل غضبة من الأرض أو صرخة من السماء، كانت حقيقة هذا المكان تنكشف لهم رويدًا، تنزع عن وجهه قناع الجنة، وتبين نيته.
ورغم الشك، رغم الخوف، ظلوا متشبثين بالمستكشف ليقودهم نحو مخرج، أو خلاص.
في الطريق، خرج أحد رجال الفريق ليحصل على ماء من مجرى قريب. عاد وجهه شاحبًا، وعيناه تحملان دهشة عميقة. قال بصوت متردد:
هناك.. شيء.. في الماء.
اقترب الجميع إلى المجرى، لكن قبل أن يلمسوا الماء، اجتاحهم شعورٌ عكّر صفو الأمان. كانت المياه هادئة بشكل مريب، راكدة جدًّا مما جعلها غير صالحة للشرب. لمس أحدهم سطح الماء فارتجف: كانت درجة حرارته مرتفعة بشكل غير طبيعي، وهو أمر لم يعهدوه حينما كانوا هنا أول مرة.
وما إن ابتعد عن المجرى، حتى بدأ يحكّ يده بحدة، كأن شيئًا لدغه. نظر إلى جلده، فبدت بقع حمراء تنتشر بسرعة.
تراجع بخوف، وصاح بصوت مرتعش:
انظروا… جلدي! ما هذا؟!

اقترب الطبيب المساعد، عاين الطفح بسرعة، ثم رفع رأسه بقلق ظاهر، وقال:
هذه ليست لسعة حشرة.. هذه استجابة.. غريبة، أقرب إلى الحروق، لكن لا حرارة ظاهرة!
صمت الجميع، ثم جاء صوت الشاب الساخر من الخلف، قائلًا:
ممتاز! أقترح أن نؤسس مطبخًا هنا، الماء ساخن بلا نار، وبالنسبة للحم ربما نحصل عليه من المتطوعين!
لكن أحدهم همس بعنف:
هذا تحذير.
نظرت المترجمة للشاب الساخر بامتعاض، ثم استدارت نحو المستكشف وسألته بحدة:
ماذا يحدث؟
أجاب بتردد، وهو يتجنب النظر إليهم:
ليس هذا طبيعيًا.. دخلنا عمق «الصخرة السوداء» حيث كل شيء يخفي وجهه الحقيقي. ما نراه ليس الحقيقة.
لكنها شعرت بتغير غريب فيه. كانت كلماته تائهة، بلا هدف واضح، كتصرفاته. رغم ذلك، أصبح أكثر إصرارًا على المضي قدمًا.
في الأيام التالية، توالت الأحداث. اشتد العطش حتى أحسوا أن ألسنتهم تحولت إلى خشب جاف، تحولت كل فكرة إلى قطرة ماء تتبخر، وكل حلم إلى نبع بعيد المنال. تقلصت المؤن أمام أعينهم، حتى صارت كل لقمة مشتركة بين الجوع والخوف.
كل خطوة للأمام كانت غوصًا أعمق في الضباب الكثيف، عاثت الغابة في نفوسهم وحشة ووهنًا. تزايدت الهواجس إثر قلة الطعام، وأصبح الجميع يشعر بتغيرات غريبة في سلوكهم، وكثرت شكوكهم.
وفي إحدى الليالي، بينما كان الجميع يحاول النوم، قرر أحدهم مواجهة المستكشف. لم يعد هناك وقت للصبر عليه. قد اختفى لفترة طويلة، وازدادت التساؤلات. نهض الطبيب وذهب إليه في الزاوية المظلمة التي ينزوي فيها، مستعدًا للكشف عن الحقيقة.
قال وهو يشير إلى هدوئه الغريب:
ماذا تخفي؟
توقف المستكشف عن تحريك يديه، وكأن السكون قد جمد عقله. بعد لحظة رفع رأسه وقال:
أعلم أنك تشك، أيها الطبيب، لكن الأمر ليس كما تعتقد. نحن على حافة شيء عظيم، أبعد من حدود فهمك. فلا تسأل أكثر.
في تلك اللحظة، انتبه الفريق بأكمله، وأدركوا أنه لا نية له للرجوع.
لكن المترجمة، التي كانت تراقب بعين اليقظة، بدأت تفكر بجرأة للمرة الأولى: هل هو خائن حقًا لكل ما يسعون إليه؟ أم أن هناك شيئًا آخر في قلبه لا يستطيع التعبير عنه؟
وبينما يتقدم المستكشف مع فريقه في أعماق الغابة، نهش الصراع الداخلي عمق أحشائهم. ولم يعلم أن شيئًا ما بالفعل قد تغيّر فيهم.

لم تعد الغابة موحشة فحسب، بل صارت حاضرة، يقظة، تختبر صبرهم، تُنصت لأنفاسهم المرتبكة، وتؤجج خلافاتهم. كانت الأشجار باسقة كجدران صمّاء، جذوعها مغطاة بطحالب رطبة خضراء، تتسلل رائحتها العفنة إلى الأنوف. أوراق يابسة تئن تحت الأقدام، فيما تهادى ضوء الشمس كشرائط خافتة تتسلل بصعوبة بين الأغصان المتشابكة.
لم تعد المترجمة بمرور الوقت تثق بالخريطة، ولا بمن يحملها.
وقف المستكشف على سفح جبل يحدق في السماء، وعيناه لا تتبعان الغيوم بل فكرة ما. امتدت الغابة من مبتلعة ما خلفها من العالم، وغطّى الضباب كل شيء إلا صوته، حين قال بصوت خافت لا يتناسب مع الموقف:
نحن نقترب.
لم ترد، لكنها شعرت بانقباض، كأن قلبها ينكمش. منذ أيام وهذا الرجل لا يبدو كما كان، بل يزداد غرابة.
قالت بصوت مرتجف:
أنت تعلم أنني بدأت أشك فيما نفعله، أليس كذلك؟ أم أنك تفضّل أن نتوه أولاً ثم نتكلم؟
رفعت رأسها ببطء، وحدقت فيه بعينين تائهتين، خرج السؤال محمّلًا بأمارات احتجاج غير منطوق، لكنه موجه بدقة.
تأمل وجهها، ثم قال ببرود:
شكوكك ليست مفاجئة. لكننا ما زلنا في المنتصف، والمفاجآت الحقيقية لم تبدأ بعد.
ضحك الشباب الساخر خلفهم، وقال بنبرة ساخرة:
جيد! إذًا متى تبدأ جولة الهلوسة؟ فقط لا تقل لي أن الحقيقة وراء تلك الشجرة هناك، تلوّح لنا بورقة توت.
قالت ولسانها يلعق قلقها:
أنت متأكد أن هذا هو الطريق؟ نحن نُستنزف كل دقيقة. الماء ينفد، والإجابات أيضًا.
أدار الشاب عينيه وقال وهو يصفّر:
آه، نقص في الزاد، وضباب في الطريق، ومَن يقودنا لا يقول شيئًا إلا بالألغاز. ما ينقصنا فقط جَمَل وشاعر يبكي على الأطلال.
لم يكن المستكشف قد قدم إجابة واضحة. إلا أن الحيرة أثقلت قلبها، حتى بدت الغابة نفسها متواطئة معها ضد هذه الحيرة.
فجأة، انقطع الصمت بصوت ارتطام مكتوم، تلاه صراخ مفاجئ. هرع الجميع نحو مصدر الصوت، ليكتشفوا أن أحد أفراد الفريق قد سقط في حفرة ضيقة غطتها أوراق الشجر.
الحفرة كانت مموهة بعناية، تغطيها طبقة كثيفة من الأوراق الرطبة والعفن، وبجوارها طحلب داكن يلتف حول الجذور كأنه يبتلعها ببطء.
قالت المترجمة بخوف:
هذا لم يكن هنا من قبل.. نحن مراقبون.
ابتسم المستكشف، تلك الابتسامة المتذاكية، وقال:
لأن ما خلف هذه الأشجار، ليس مجرد طين مقدّس، بل شيء سيعيد ترتيب كل ما نعرفه عن الأرض والسماء؛ علينا أن ننتزع الحقيقة.
رفع الشاب الساخر حاجبيه وهو يشير إلى الحفرة:
– أنا أقترح أن ننتزع زميلنا أولًا. الحقيقة تستطيع الانتظار دقيقة!
أما هي فقد أثارت كلمات قائدهم انتباهها، ولم تكن لتسمح له بالهروب من الإجابة ككل مرة.
– أنت تُراوغ. كل مرة تهرب تحت عباءة الغموض. لا داعي أن نخسر أنفسنا ومبادئنا لنحقق النجاح!
صمت وكأن اللغة خانته.
وأردفت بكل حزم:
سأفترق عنك، وسأجمع من يشكك في نواياك وأرحل.
وأثناء جدالهم، انتبه أحد الزملاء إلى أمر غريب. أشار إلى جذع شجرة قريبة وقال:
هل... كانت هذه العلامة هنا من قبل؟
اقتربوا ليروا نقشًا حديث العهد يشبه العين، فجأة بدأت نفس العلامة تتكرر على أكثر من شجرة، مشكلةً دائرة غير مرئية حول موقعهم.
وبينما التفتوا، لاحظوا أن الأرض تغير لونها تدريجيًا داخل تلك الدائرة: التراب أغمق، والهواء أبرَد، وكأنهم عبروا دون أن يشعروا إلى مكان آخر داخل الغابة نفسها.
قال أحدهم بهمس مرتعش:
هذا من سحر أصحاب الأرض.
رد الشاب الساخر وهو يمضغ قطعة من علكته الجافة:
إن سمعتم عزف ناي من أي جهة.. لا تمشوا نحوه. هكذا تبدأ المآسي في القصص القديمة!
تدخل أحد أفراد الفريق، وقد بدا عليه التأثر والانفعال بشدة:
– نحن هنا لا نبحث عن كنز غامض. نحن هنا فقط من أجل المعرفة. من أجل شيء أكبر من كل هذا التوجس.
قالت المترجمة بنبرة لاذعة، ولكن أقل انفعالًا:
أنتم تتنكرون للحقيقة، وترفضونها، تخافون أن تكتشفوا أنكم جئتم للطمع ولا تأبهون للعلم.
سخر المستكشف، وقال:
العلم! ألا تعرفون أن العلم هو ما يدمر؟ أن العلم هو ما يفتح أبوابًا لا يمكننا غلقها؟ أنتم لا تدرون، ولكنكم ستكتشفون قريبًا.. قريبًا جدًا.
قالت المترجمة غاضبة: لقد ضقت ذرعا من هذا الغموض البغيض، لماذا فجأة تلبس ثوبا ليس لك، أفصح لنا، هل نحن في طريقنا للخروج من هنا أم إلى أي شيء تسعى؟

استتبت الشكوك في قلبها، وفي قلب الفريق على الرغم من أن لا إجابة واضحة بعد. في الليلة السابقة، جلس المستكشف وحده. كان يحدّق في خريطة ملأها برسومات حمراء، يهمس لنفسه:
هذا ليس مجرد طين... إنها البوابة. أستطيع أن أكون بداية جديدة، لماذا لا يفهمون؟ رفع عينيه نحو الظلام، وأردف بصوت خافت:
سأريهم، كلّهم.
تحول عن صمته بين غضب ودهش وقف: ماذا أقول لكم؟ هل حقًّا تريدون مواجهة الحقيقة، أسألكم سؤالًا واحدًا: ألم يتساءل أحدكم؛ كيف التأم جرحها في وقت سريع ودون أي تدخل منا؟
ثم هجم على بنطالها وشقه نصفين بكل قوة، وأشار إلى مكان الرصاصة التي كان قد أطلقها عليها بالخطإ، وقال: كيف ما زالت هذه الرصاصة هنا في قدمها، وكيف التأم جرح كهذا في أقل من يوم؟
وقف الفريق أمام هذا المشهد وكأنهم فجأة استفاقوا، اتسعت العيون، وتثبتت الأجساد.
وقال أحدهم: إنها الغابة، «الصخرة السوداء».. اختارت أن تعالجها.
دون سابق إنذار ارتفع عمود دخان أبيض كثيف، تهاوت من إثره أشجار الصنوبر واحدة تلو الأخرى من جهة اليسار؛ بدا بسقوطها كأنها ترسم طريقًا نحو مكان معين، وكأن الغابة تشير أخيرًا إلى جهة بعد أن تاهوا في الأرض أربعين يومًا.
بدأ المستكشف يتحرك نحو ذلك الشبح الدخاني، وظهر الطريق الذي يقوده بوضوح وقد افتُتح له حديثًا. لكن المترجمة شعرت بأن كل خطوة كانت تقربهم من فخٍ لن يمكنهم الهرب منه.
سأل أحد الأعضاء الذين كانوا يسيرون خلفه، وهو يرتعد: إلى أين نحن ذاهبون؟
أجابهم دون أن يلتفت إليهم، لكن صوته كان حازمًا، كصاعقة:
إلى حيث بدأ كل شيء.

أدركت المترجمة معنى ذلك أولًا.. والآن تدرك معنى الأنفاس الثقيلة للأرض تحت أقدامهم منذ البداية وإلى الآن، اعتقدت أن التربة نفسها تراقبهم فتنبذهم لعلمها بما في نفوسهم!
استمر الفريق في صمت نحو العودة محاطًا بجدران من الأشجار التي بدت وكأنها تنمو مرة أخرى لتسد الطريق خلفهم. ولن يعودوا قادرين على التراجع حتى لو أرادوا؛ لأن الغابة كانت تغلق الباب.
بينما كان الفريق يسير، بدأت أصوات الدخان الكثيف تعلوا شيئًا فشيئًا وتعود أدراجها نحوهم، ويزاد إيقاعها الغريب كلما اقتربت، وكأنها تنبئ بشيء ما. وفي اللحظة التي كانت المترجمة تلتفت فيها إلى الوراء، رأت شيئًا لم تكن تتوقعه أبدًا.
أحاط الدخان الأبيض الذي سموه الشبح بالطبيب الميداني، واختفى فجأة. لم يكن قد ترك وراءه أي أثر. كان قد اختفى في جو الغابة، وداخل هذا الفراغ كان يتردد صدى صرخات الطبيب، صرخات رعب من عمق قلبه، وما استطاع بقية جنود الحملة سوى أن يطلقوا طلقات عشوائية نحو الدخان في محاولة لنجدة طبيبهم!
سارعت المترجمة في الاقتراب من المستكشف، وهي ترتجف من الخوف.
قالت بصوتٍ منخفض، يكاد يضيع بين ضجيج الرياح: أين ذهب؟
لكنه نظر إليها بحذر، وعيناه تتنقلان بشكل سريع ومضطرب، ثم قال بنبرة حادة: لا تلتفتي وراءك.

قبل أيام فقط، كانت تقف بجانبه بثقة، تدافع عنه عندما بدأ أفراد الفريق يتهمونه بإخفاء المعلومات.
قالت: هو الوحيد الذي يعرف الطريق، ونحن هنا بفضله.
لكنها تخلت عن هذه الثقة منذ اليوم الذي اختفى فيه الطبيب دون اهتمامه، وتيقنت للمرة الأولى أن ما يعيشونه ليس خطأً في الحسابات، ولا خطأً في البوصلة.
لم تكن الغابة بالفعل كما وُصفت في التقارير القديمة. لا دفء استوائي ولا طمأنينة الحياة البدائية التي سعى إليها المستكشف، بل كان كل شيء فيها يعارض وجودهم كأنها أرض تطرد الدخلاء.
في الأيام الأخيرة، باتت الأمطار لا تهطل، بل تنفض، كأنما السماء تقذفهم غضبًا. الرياح لا تهب، بل تعوي في آذانهم طوال الليل، تنهش سكون أحلامهم، وتُبقي أعينهم مفتوحة حتى الفجر. الأشجار التي بدت في البداية مدهشة بعلوها، أصبحت تخنق السماء، وتحجب الضوء، وتضيق الطريق. مع كل خطوة، كان الطين يبتلع أقدامهم، يحاصرهم في قبضة تثقل سعيهم، وتكبل تحركهم، كأن الأرض تمدّ أذرعها الخفية لتعيقهم، ترتجف تحتهم بأنين خافت، تهمس في أعماقهم عبر الأرض: ارجعوا، فأنتم لستم منّا، لكنهم لم يعودوا.
أدركت المترجمة، قبل غيرها، أن شيئًا في هذا المكان يلعنهم. أن هذا المكان لا يقبلهم، يلفظهم ولا يحتملهم. رأته في عيون الحيوانات المفترسة التي كانت تحدّق بهم من بعيد، ثم تفرّ فجأة، في انقضاض الحشرات على المعسكر بأسراب لا تُعد ليلًا، فتغمر أجساد النائمين فتلدغ وتزحف وتخنق الهواء أكثر مما هو مختنق، وتحول ليلهم جحيما لا يطاق.

وذات صباح، حين انقشع الضباب أخيرًا، رأت الخيمة الكبيرة وقد نُصبت على تلة مرتفعة. كان المستكشف يقف هناك، يحدق في الوادي أسفلهم، حيث تنتشر القرى الصغيرة مثل جزر من الطين بين الغابات.
خرائطه كانت مفتوحة أمامه، والرموز التي كان يرسمها لم تكن طُرقًا وتضاريس، بل نقاطًا حمراء، واضحة، مثبّتة كأهداف تشير إلى خيام القرويين.
قال ببرود: الأرض تخبرنا بمكان الضعف.
ثم أدار رأسه نحوها وقال، بلا غضب، بلا حدة، كمن يلقي بيانًا عاديًا: إن أردتِ الذهاب الآن إليهم، فاذهبي. لن أمنعك.
ثم عاد ببصره إلى الوادي. صمت لحظة، ثم أضاف بصوت منخفض كأنه يُلقي صلاة:
لكن حين نأتي إليهم، لن نترك أحدًا.
لم يكن تهديدًا مباشرًا. لم يكن بحاجة إلى ذلك. فجأة، بدا لها كل شيء واضحًا. لم تكن الرصاصة التي أطلقها المستكشف على قدمها بالخطإ، ولم يكن المرض الذي أصاب بعضهم قبل أسابيع من طعام فاسد، ولا غرق اثنين في النهر حادثًا عرضيًا.
كانت الضغينة التي حملتها نفوسهم، والجشع الذي أعمى قلوبهم، والخبث الكامن في أفعالهم هو ما استدعى الرفض من هذه الأرض المقدسة؛ كل شيء في هذه الأرض يقاومهم، يلفظهم، يذكرهم بأنهم دخلاء، لا لأنها تهاجم، بل لأنها لا تنحني. الغابة لم تقتل أحدا، لكنها كذلك لم تحم أحدًا، لم تحتضنهم؛ لأنهم لم يأتوا ليعرفوا.. بل ليملكوا.
ومن بين البعثة، تبِعها أولئك الذين لم تتلطّخ نواياهم، من خجلوا من الصمت، ومن فهموا أخيرًا أنهم على وشك أن يكونوا جزءًا من جريمة.
ثلاثة من الفريق تحركوا فورًا إلى جانبها. كانوا من أولئك الذين احتفظوا بضمائرهم، أو ربما لم يعودوا يثقون بأحد. والبقية.. ظلوا مترددين. حتى انفجر أحدهم -الطبيب المساعد- في وجه المستكشف:
ما الذي نخسره؟ لقد اختفى نصفنا، ومات أفضل من فينا نعيم والطبيب وغيرهما! نحن نُطارد، ولسنا مكتشفين!
صمتٌ ثقيل خيّم على المكان. نظرات متبادلة بين الفريق، بعضها مملوء بالخوف، وبعضها بالشك، والبعض الآخر.. بالجنون.
تكلّم المستكشف أخيرًا، لكن نبرته لم تكن كالسابق. لم يكن قائدًا الآن، بل ظلًّا لذاته:
لن تخرجوا أحياء من هنا إن عدتم الآن. من يرحل.. فهو العدو، كنت أعرف من البداية أنك ستكونين عقبة.
ردت بكل حزم: هذا المكان.. ليس لنا. سأقود من يريد النجاة، ومن أراد الاستمرار فليتحمل العواقب.
الآخرون -من ضحكوا حين أُضرمت النار، من رأوا في الخرائط ملكًا وفي الأرض غنيمة- بقوا مع قائدهم، ينتظرون ساعة الهجوم.
أخرجت دفتر نعيم، قد كانت فيه إشارات، لم يفهمها المستكشف عندما طالع الدفتر، لكن فهمتها هي.. ركضت إلى من آمنوا بها وأشاروا لها بنية من معها. إلى القرويين الذين استقبلوها في بداية الرحلة بالأغاني والزهور، والذين كانت تترجم لهم وعود السلام من شفاه كاذبة.
وصلت إليهم قبل الغروب بلحظات، لم تكن بحاجة للكلمات، فقد رأوا الحقيقة في عينيها الدامعتين. أخبرتهم أن ما سيأتي ليس شراً عابراً، بل إرادة شرٍّ مقصودة، حملتها البعثة منذ أن وطأت أقدامها هذه الأرض.
وقبل أن تغيب عن آخر بقعة من السهل، التفتت إلى الأسفل. هناك، عند الخيمة، كان المستكشف واقفًا، وأمرهم بأن يشعلوا النيران في أطراف الغابة، أشعلوها ظنًّا أنهم يطهّرون الطريق للسيطرة. احترقت الأشجار وهي تصرخ دخانًا أسود، سمّموا الجداول بمخلّفات معسكرهم، وألقوا نفاياتهم في مجرى النهر المقدّس.
لكن في الليلة التالية، انقلبت الريح، وجاء المطر كالسياط، فأخفى كل طريق.
ومن تلك اللحظة، لم تعد الغابة تحترق.. بل بدأت تحرق.
انفجرت صرخة من عمق الظلام. لا تشبه صوت إنسان، إنه صوت الشبح، صوت زئير الغابة التي استيقظت غاضبة، وفي وسط العتمة قادم إليهم.
ارتجت الأرض فجأة تحت أقدام المستكشف، وانشقت كأن قلبها انفتح، وانفجر عمود الدخان الأبيض مرة أخرى من تحت جذع شجرة عملاقة، يكاد من يرها يعرف أنها شريان حياة هذه الأرض وأن الدخان حارسها.
اندلعت المعركة، وانقض رجال الحملة على المترجمة، استهدفوها بشكل واضح، لكن القرويين تدفقوا أمامها كالسيل؛ وذادوا عنها؛ سلاحهم البسيط لم يقوّد شجاعتهم، صاروا درعًا بشريًّا متحدًا؛ صامدين حارسين القرار الذي اتخذته في وجه الخراب مخالفة جماعتها.
أطلق المستكشفون الرصاص بينما هاجم القرويون بالنبال والرماح. لكن الطبيعة كانت مع أصحابها، ومع كل من سقط من المعتدين، بدا أن الأرض تبتلعه بهدوء، كأن الغابة نفسها تميّز، وتحكم على من يُفسد وينوي الخراب بالمحو.
عندها صاح المستكشف كأنه لا يكلم البشر بل موجها صوته للكون، وقد انقلبت ملامحه:
أنتم لا تفهمون! هذه القرية ليست مجرد أطلال.. إنها المفتاح. وأنا الوحيد الذي يستطيع فتحه.
صرخ أحد رجال الحملة وهو يهجم:
فتح ماذا؟ جحيم الأرض؟!
وفي لحظة بدا فيها كل شيء مشدودًا إلى حافة السكين، ساد صمت خاطف، كأن الغابة نفسها انتظرت قرارًا. ثم.. اندلع كل شيء.. صوت الطلقات مزق السكون تهاوى عدد من القرويين سريعًا، وعبقت في الهواء رائحة الدم قبل أن يملأ الدخان أرض المعركة. اندفع رجال الحملة دون تردد، يطلقون النار بكثافة، بلا رحمة وبلا نغمة واضحة. وسط الفوضى، ارتفع صوت جهوري ثابت وواضح: إلى السلاح! دافعوا عن الأرض!
ظهر الزعيم أكيتشيتا بقامته الطويلة وملامحه الحازمة، يحمل رمحًا خشبيًّا، ويتدلى من كتفه جلد نمر قديم، وتقدم وسط إطلاق النار بخطى مهرولة واثقة لا تتباطأ، صرخ مجددًا: هذه أرضنا المقدسة.. لن تؤخذ منا!
تحرك القرويون خلفه من كل جهة، لم يكون مسلحين كما خصومهم، لكنهم عرفوا التضاريس، خرجوا من بين الأشجار، من خلف الصخور، ومن أطراف النهر وكأن الأرض أرسلتهم.
في الجانب الأيسر من الغابة تحركت بخفة بين الأشجار مجموعة من شباب القرية قادهم «كورا» الذي ظهر منتقمًا للقرية ولنعيم، اقتربوا بخطوات محسوبة، وتجمّع الآخرون من الجهة المقابلة حول قوات المستكشف، فجأة أطلقوا الحجارة من الأعلى، فتشتت انتباه المستكشفين فاندفع الذين جاءوا من الجانب الأيسر يحملون الفؤوس والعصي، يهاجمون بحركات سريعة ومنسقة، يشوشون صفوف الخصوم؛ فأجبروهم على التراجع.
بين زحام المعركة، احتدم القتال بين الزعيم أكيتشيتا والمستكشف، كان الزعيم يلوح برمحه بحركات دقيقة وقوية، حتى أسقط خصمه أرضًا. فجأة، لمح أحد رجال المستكشف فرصة سانحة، ورفع سلاحه ليطلق رصاصة قاضية على أكيتشيتا.
لكن قبل أن تصدر الرصاصة صوتها، اندفع الشاب الساخر فجأة من بين الحشود، قفز بسرعة خاطفة أمام الزعيم، محاولًا صد الرصاصة بجسده.
صُدم الجميع من جرأته، لكنه لم يكتفِ بذلك، بل بلمحته الفطنة، أمسك بذراع الرجل الذي أطلق النار، وبقوة دفع خاطفة وجّه له ضربة مفاجئة على رأسه جعلته يصرخ ويتراجع، ثم لف جسده حول ذراع الرجل وقضى على مقاومته بكسر ذراعه.
وهو يبتسم بخفة ويقول بصوته الساخر المعتاد:
توقّف، لا تقتلني، أنا فقط هنا لأجعلكم تضحكون!
اندفع نحوه أكيتشيتا بإعجاب وقال -وهو يلتقط أنفاسه:
أعظم الفرسان قد يتخفى خلف ضحكته، لقد برهنت اليوم أنك نبراس البطولة الحقيقية،
ابتسم الشاب الساخر، وقال:
في الأزمات يا زعيم، حتى الضحك سلاح.
انتفض الزعيم غاضبًا، مقرّرًا أن ينتقم لشجاعته ونبل روحه. كل خطوة له كانت نداء بالتقدم والمقاومة، وكل صرخة كانت شحنة عزيمة.
أما المترجمة التي ارتدت لباس نساء القرية وتزينت برمادهم، كانت تقود من لا يستطيع القتال، وتساعد المرضى، وتعيد تنظيم الصفوف؛ كلما التفتت رأت الزعيم في قلب الحدث، لا يتراجع، ورغم الجراح ظل واقفًا، تساعده الرياح تارة يقاتل عنه عمود الدخان الأبيض تارة أخرى.
فاق المستكشف من إغفاءته ثم وقف أمام الجميع فاتحًا ذراعيه، مبتسمًا رغم الدماء على وجهه، قائلًا بصوت صارخ: لقد اختارتني.
انشقت الأرض تحت قدمه مرة أخرى، لكن هذه المرة ابتلعته واختفى. انغلقت عليه كما لو لم يكن هناك شيء إطلاقا. وترك صراخه النادم كذكرى عنه أخيرة للجميع.
اندفع القرويون نحو من بقي من الحملة وقاتلوا بما توفّر لهم من عتاد وعزيمة، سقط الكثير منهم لكنهم صمدوا أمام رغبة الغزاة، وحين هدأ كل شيء وبقيت آثار الدماء والأجساد في ساحة المعركة، لم يبق حيٌّ من رجال المستكشف.
جلس الزعيم أكيتشيتا على صخرة يتنفس بصعوبة؛ آثار التعب واضحة عليه. اقتربت المترجمة وسألته بصوت خافت: هل ربحنا؟
أجاب الزعيم: هذا يوم لنا، وغدا سيكون لنا أو علينا؛ سيأتي بعدهم من يعرف الطريق.
في اليوم التالي، شكرتهم المترجمة على حمايتها ثم أوصلوها ومن معها إلى حافة الغابة، وجوههم شاحبة وعيونهم تحمل ثقل ما مروا به، لكنهم كانوا ممتنين لحياتهم رغم كل شيء.
وفي كل مكان حطّت فيه رحالها بعد ذلك، كانت تروي القصة -لا لتُفِهم، بل لتحذِّر. أما المستكشف ومن تبعه، احتفظت بهم الغابة المقدسة كجزءٍ من سرها الأزلي.

(5)

الأفق المهجَّر

عندما وقفوا معًا وسط الحطام، رغم النجاة غمرهم اليأس، وتبادلوا نظرات الوحشة والبؤس.. كل واحد منهم شعر بوحدة قتالة لم يبددها وجود الآخرين.
تنفست رضوى بصعوبة، وسألت بصوت منكسر: هل يمكن أن نعود إلى «دلادة»؟
أجاب خليل بحزن عميق: لا يمكننا؛ لم تعد لنا حياة هناك.
وأضاف صالح بصوت مكتوم: كل ما فعلناه لم يكن كافيًا!
نظرت نادية حولها بعينين ممتلئتين بالأسى: لقد فقدنا كل شيء، حتى أنفسنا.. لم يتبق لنا إلا الهرب!
اقترح صالح البدء من جديد في مكان آخر. لكن خليل رفض الفكرة بحزم: إننا ضائعون في عالم لا مأوى لنا فيه؛ أين نذهب؟!
سألت رضوى -بينما الدموع تنهمر من عينيها: نعم.. في هذه الحال، ماذا نفعل؟
أجابت نادية بصوت هادئ يحمل شيء من الصبر: نستمر، نستمر في الصمود، ونتمسك بالأمل؛ لأنه لا خيار.
قال صالح بصوتٍ هادئ، يحمل في طياته مقاومة خفية:
ربما لا خيار، لكن في قلبي ما أزال أرى سببًا يجعلني أتمسك بالبقاء.
ساد صمت بعد هذه النقاش، ثم واصلوا سيرهم وسط الركام، محاولين إيجاد بصيص من الأمن في عالمهم المغمور بالظلمة إلا من نيران تضوي فوقهم.

في قرية «دلادة» الجميلة، المنغمسة بين التلال الخضراء والغابات الندية، عاش صالح ورضوى. نفسان تشابكت مصائرهما، واجتمع قلبهما بالحب منذ أن تعرّفا على بعضهما البعض في أيام الصبا، ونمت رابطتهما وتقوّت مع مرور السنين، حتى أدركا أنهما مخلوقان أبدًا لبعضهما.
مع نضجهما.. حلم صالح ورضوى بمستقبل مليء بالحب والسعادة، تخيّلا حياة قادمة كزوجين. ووضعا خططًا للزواج، بقلبين ممتلئين بالأمل، وعقلين متلهفين للآتي.
لكن أحلامهما تحطمت عندما حل الغزو على أرضهما بغتة، ملقيًا بظلال الخوف والألم على قرية كانت يومًا ما سالمة. فجأة، تمزق عالمهما الجميل بفعل فوضى الحرب، مخلفة دمارًا وموتًا حولهما وداخلهما.
في ظل الإذلال، أمام قتل الغزاة لنا بلا رحمة، التحق صالح بالمقاومة، واضطر لترك حبيبته رضوى متوجهًا من قلبها لقلب المعركة. بعد أن عاهدَها على العودة إليها حيًّا يومًا ما.
في هذه الأثناء ظلت رضوى تترقب، وقلبها مثقل بالقلق والخوف على توأم روحها. راقبت بعجز مشاهد الحرب وقد حمي وطيسها، وقريتها تتناوبها نيران التهجير والتجويع، حتى تلاشت من ذاكرتها السعادة لحظة بعد لحظة، وتبددت أحلامها الوردية بغتة.
لكنها تشبثت بالحب رغم من البعد، وتمسكت بالأمل في توقف الحرب، وألا يطول الموت حبيبها أو الضرر، مؤمنة بأنهما لا بد سيجتمعان يومًا ما، وسوف يتجاوز حبهما الزمن والمكان. كان هذا بالنسبة لها.. الحياة؛ الحلم الوحيد في زمن الحرب.
كان حال الحرب شنيعًا؛ تتساقط الصواريخ في أحضان الصغار، وتقصف البيوت على ساكنيها العزل، فيموتون فيها كما باتوا، ولا مأوى ولا مشفى يلجأون إليه. دمرت المستشفيات وقتل كوادرها الطبية، والناس جوعى لا ماء ولا خبز ولا زيتون.
وفي يوم مبارك مزج أحد المهرة علف البهائم ببعض البهار وأكله، فاقتدى به الناس، بينما لم يجد آخرون سوى أوراق الشجر؛ لسد رمقهم!
تعودت رضوى هذه العيش كما اعتاد الناس، حتى جاء اليوم المشؤوم، وتعرضت لما كانت تسمع عنه، وتخشاه أكثر من الموت، اعتدى عليها جندي من جيش الاحتلال. فتحطمت براءتها بقسوة لا توصف.
كافحت رضوى -التي انكسرت وصاحبتها الصدمة نفسية- لتجد بعض الراحة أو ما يشبه التصبّر في وسط ألمها. اهتز إيمانها في الإنسانية وجوهرها، واهتز إيمانها في الله، وابتلعها الظلام حتى لم تجد في نفسها أي قوة، كان في السابق يهون عليها أن هذه النيران لا تطولها وحدها، لكن حينما حدث ما حدث شعرت بأنها وحدها في الجحيم. لم يبق لها إلا أن تتصبر بحبيبها المقاوم صالح-الذي يمكن ألا يقبلها بعد الآن، وبدأت تتشكك أيضًا؛ هل ما زال يتذكرها ويحبها؟ ثم تسلل الشك إلى أبعد من ذلك.. إلى صورته.. إلى وجوده، إلى حياتها كلها!

وبينما كانت «دلادة» تلتهمها الحرب التهامًا، كانت على الجانب الآخر من حدودها قرية أخرى تسمى زفزاف، واجهت تطهيرًا واسعًا؛ هلكت القرية، وتهدمت بيوتها، ومحيت آثار الأولين والآخرين فيها، ولم ينج منهاا إلا فئة قليلة من الناس، كان من بينهم زوجان: خليل ونادية..
نزحوا مبتعدين عن الهلاك، وبينما كانوا يعبرون غابة مظلمة، تحطمت الأشجار فجأة من خلفهم، كان زحفا مدمرًا للغابة حتى خيل لهم أنه زحف من قِبَل يأجوج ومأجوج وقد خرجوا من جديد. تساقطت الأشجار واحدة تلو الأخرى كأن الأرض تنهار. فهربوا مسرعين، متعثرين في الظلام المخيف وفي خوفهم، واختبئوا من مجهول لا يرى.
صرخ خليل بصوت مرتعش: ما هذا؟
فأجابت نادية؛ تهذي من شدة الرعب: إنهم العَجاج.. مخلوقات نجسة تلتهم هذه الغابة المقدسة!
وبينما كانوا يحاولون الفرار، نظروا خلفهم فرأوهم بشرًا مثلهم، لكن الرجال منهم يلبسون ثيابًا نسائية جعلتهم كالمخنثين، فجأة انهال هؤلاء الرجال بالضحك؛ مما أرعب خليل ونادية والجميع أكثر فأكثر، وظلوا يشهرون هذه الثياب النسائية محاولين إهانة من تبقى من أهل «زفزاف»، ثم أطلقوا عليهم الرصاص بوحشية، وقتلوا منهم عددًا غير قليل.
كانت أسلحتهم مدمرة للشجر والبشر، لكن حين بدا الأمر وكأنه انتهي، ظهرت بضعة من أهل «دلادة» وتبادلوا الضربات، محاولين بشجاعة حماية أهل «زفزاف» العُزّل، واستطاعوا الهرب بعد أن كبدوا العدو خسائر بشرية لم تكن متوقعة. أتعب الإرهاق إثر الجري العدد القليل الذي بقي حيًّا من المقاومة وأهل «زفزاف»، لكنهم استمروا في الفرار حتى وصلوا إلى مكان آمن.. بعد أن التقطوا الأنفاس نظر أهل «زفزاف» إلى المقاومة بعيون مليئة بالامتنان والتقدير لشجاعتهم وتضحيتهم.
قالت نادية بفخر وتقدير: لولاكم لما كنّا أحياء.
وفجأة ظهر أحد أفراد المقاومة، وقال: رضوى، هل هذه أنت؟
ثم أنزل وشاح وجهه، وأردف: أنا صالح.. صالح.. زوجك!
نظرت رضوى المتعبة، وقد انبعث في وجهها حياة بعد رؤيته: صالح حبيبي، أنت حي، الحمد لله.
واقتربت منه، واقترب منها وكادا أن يتعانقا، لكن صالح يعلم أنهما لم يتزوجا بعد. قال صالح: ماذا فعلت بنفسي، كيف تركتك وحدك، وكيف وصلتِ إلى هنا؟!
قالت رضوى: أنا كذلك لست راضية ببعدك، لكنني أعلم أنك تفعل ما هو صواب، بعد أن رحلتم للمقاومة حاول الناس أن يعيشوا قدر ما يستطيعون، لكنهم بلا حول تضوروا جوعًا، وتعفنوا جثثًا، وما بين جريح وقتيل، حتى قال الأحياء: إن من مات نجا، ولعلك قد سمعت عن أفعال العَجاج، فإنني كنت منهن، هؤلاء النسوة الذين اغتصبن.
سمع هذه الكلمة فقطب وجهُه وتقلص بشرُه، وغاضت بشاشته من بعد رؤيتها بمعرفه خبرها، وأجهش بكاءً.. وانكسر فيه شيء جديد.
وربَّتت رضوى على كتفه، وقالت: قد قدَّم كلٌّ منا ما يمكنه مجاهدةً وتطهيرًا، فتصبر!
ودار بينهما سجال شابهُ اليأس والكآبة، فتدخلت نادية وزوجها في الحديث محاولةً التقليل من الحزن تارةً ومشاركة أحزانهما تارةً أخرى، وتناقشوا فيما يجب أن يفعلوا. قرر الجميع أن يسيروا في الظلام خوفًا من عودة العدو التي لا تتوقف، وساروا بخطوات متثاقلة واهنة طويلًا، حتى وجدوا مغارة بدت لهم كملاذٍ وحيد وسط الجحيم. قرروا أن يحتموا بها قليلًا، لكنَّ الأيام مرت بهم فظلوا فيها، وسكنوها سنة، وبعدها نزحوا لبلد أخرى كانت قريبة من الحدود.

(6)
لن يُغفر لك

كانت الشمس في عنفوان صعودها حين دلف «آري» -العبد السابق والمقاتل المنكسر- إلى أطراف الواحة الكبرى، تلك التي يخشاها الناس ويسمّونها: «نبع الغفران». تُروى عنها أسطورة قديمة؛ أن بها شلالًا تتدفق مياهه من نبع سري، يُقال: إنّه يغسل الذنوب كما يُغسَل الطين عن الأقدام، ولكن رغم هذه الهبة العظيمة فإن الوصول إليه حيًّا أمرٌ شبه مستحيل.
سار حافيًا يتجرع غصص الكمَد، يلهث، ويمتعض أسفًا، ويناجي إلهه ندمًا، وقد استوبل عاقبة أمره، واستوخم سوء فعله. همس لنفسه وقد أطرق رأسه:
حسبي هذا الماء، إن اغتسلت فيه، فما عليّ بعدها من بأس. أُطفئ فيه لظى ما كان، وأستجمع روحي المبعثرة بنقاءٍ من العذاب.
مرّ بجانب السوق النخاسي، وهناك لمحتْه «ليلى»، الجارية التي عرفته حين كان عبدًا شرسًا في دار السلطان. اقتربت منه بتردد، وهمست:
أتراك إلى الشلال ذاهبٌ؟ أتراك تطلب التوبة؟
أحنى رأسه أكثر، وأجاب بنبرة حزينة:
«ليلى»، لقد بلغت روحي الحلقوم. ما عاد في القلب من شر، وما في الجسد من عناد. سأذهب تائبًا وخاضعًا.
لكن ابتسامة خافتة، كظل هارب، مرّت على فمه دون أن ينتبه. رأتها «ليلى»، فاض في ذاكرتها ماضيه، ذلك الذي كان فيه صوته مطيةً للخديعة، وابتسامته شَرَكًا لا يراه إلا من نجا منه. ثم قالت بصوت مسموع، دون أن تُخفي احتقارها:
لا أحد يتوب ضاحكًا يا «آري».
عاجلها برده:
لو كنت أعلم أن قتلي لنفسي سيبعدني عن الجحيم؛ لقتلتها دليلًا على توبتي، فلا النار أريد.. ولا العيش هكذا يُحتمل.
أكمل مسيره وفي الطريق.. في ظل نخلةٍ على مشارف النبع المقدّس، كان هناك طفل صغير يطارد خيال فراشة. اسمه «رافي». لمح «آري» بثيابه المهترئة وسيفه المحلّى بنقوش غريبة. سأله، ببراءة:
إلى أين تذهب يا سيدي؟
توقّف «آري»، نظر إليه، ثم جلس القرفصاء وقال بنبرة متواضعة:
إلى ماءٍ يطهّر القلب يا بنيّ. مكانٌ إن اغتسلت فيه، طهرتَ من الذنوب كلها.
انبهر الصبي بعينيه الواسعتين، وقال:
هل أستطيع أنا أيضًا؟ أبي يقول: إني كثير الخطايا؛ لأني ألهو كثيرًا وأسرق التمر.
بابتسامة باهتة تلوح على طرف شفتيه، ربّت «آري» على رأس الصبي؛ وقال:
سيغفر لك الشلال.. كما سيغفر لي.. بل سيغفر للجميع.
ثم ترك الطفل خلفه، وواصل المسير.

حين بلغ الشلال، بدا له كفم الأرض، ينبوع خضرتها وحياتها، رأى الأزهار الوارفه والأشجار الشامخة وعطرهما الندي، وسمع أغاريد الطيور التي ملأت الجو بألحان الطُّهر، وهي متوشحة بألوان السِّحر؛ فاطمئن قلبه وهدأت نفسه. وقف أمامه بكل إجلال، نزع ثيابه، فتسلل بريقٌ خافت عند خصره، ظهر مفتاح صغير، نظر له ثم إلى الشلال مرتين. لكنه لم يخلعه، بل خطا به داخل الشلال واغتسل، مسح وجهه بمائه البارد، وناجى ربّه بكلمات الانكسار والخضوع.
يا ربّ.. هذا جسدي قد اغتسل، فاجعلني من الناجين.
ثم بعد برهة خرج من الشلال، ضاحكًا:
أتساءل لِمَ يخلق الرب مكانًا مثل هذا يغتسل فيه الناس.. فيتطهروا من ذنوبهم، وتمحى خطاياهم، وكأنهم بعثوا من جديد!
حسنا! سأعود غدًا.. وبعد غد.. أتمرغ في الخطايا وأغتسل بضحكة متعجرفة، آه.. ما أغبَى هؤلاء.. الذين لم يأتوا، ولم يتوبوا، ولم يعودوا!
التفت إلى ظلالٍ خلف الأشجار فرأى «رافي» الصغير، الذي تبِعه خفية، رآه يغتسل ويضحك، وسمع همهماته، ثم عاد إلى قريته وأمه، وفي قلبه فكرة:
«إن طهّر الماء رجلًا مثله، فربما أنا أيضًا.. كلما سرقت تمرة، واغتسلت طَهُرت».
وهكذا، في تلك اللحظة، لم يدرك «آري» أنه ورّث الخداع، وعلّم الكذب باسم التوبة.

عاد «آري» من موضع الشلال، يحمل على وجهه ابتسامةَ مَن خدع القدَر. رغم أنه لم يكن خفيفًا من الخطايا أو خاليًا منها، بل كان أثقلَ من ذي قبل؛ لكنه آمن أن الماء قد محا كل شيء.. كل شيء سوى طبعه.
تهادى الليل حين وطئت قدماه درب «أرمال»، مدينة السوق واللذة والعبيد. عند بوابة المدينة، استقبلته أعين عرفته، وجباهٌ انحنت له خوفًا أو شهوة أو كليهما. لم تمضِ ساعات على عودته حتى جلس في بيت «زنوبيا» -صاحبة أشهر ماخور في المدينة- كأنّه لم يغادره يومًا.
سمعتُ أنك بكيت في «نبع الغفران»، أهذا صحيح؟
ضحك بسخرية، ثم قال بصوت أجش:
بل أبكيته قبل أن يغسلني. غسلت ما تراكم من ذنوبي.. أما قلبي، فهو كما هو.
كيف فعلت ذلك؛ وأنت تعلم أن من عاد من هناك، عاد والصوت الغريب يهمس في أعماقه؟
إنك مجنون يا «آري» لتذهب إليه بلا خوف!
بل إن من يخاف من خرافة، ومن لم يجرؤ، هو المجنون الجبان.
قالت «زنوبيا» بتأمل:
أتعلم؟ كلنا نؤمن بشيء.. أنا أؤمن بالخطيئة الجميلة، وأنت تؤمن بالغفران السريع. الفرق؟ أنك تكذب على نفسك.. أما أنا فلا.
نظر «آري» بعيدًا للحظة، ثم ردد بهدوء:
ربما.. ربما أنتِ على حق، يا «زنوبيا». أنتِ تبيعين الخطيئة لمن يدفع. وتحتفين بالفساد، وأنا.. أتبرّأ منه بدموعي. فرقنا فقط في الأقنعة، لكن الوجه.. واحد وقبيح.
على الأقل، أنا أراه كما هو. أما أنت، فما زلت تطليه بالماء وتدعو ذلك طهارة!
«آري» -بابتسامة جافة:
وما الطهارة.. إلا مهربٌ مؤقتٌ؟

مرّت أيام، ثم أسابيع، و«آري» يعود أكثر فأكثر لما كان عليه... بل لما هو أدنى منه. لم يعد ذلك المقاتل الذي يبطش دفاعًا عن سيده، أو قومه، أو حتى نفسه؛ بل صار سفّاحًا يذبح لمن يدفع أكثر، ويتجوّل في الأسواق متباهيًا برؤوس أعدائه، متفاجرًا بجرأته على الذهاب إلى «نبع الغفران» دون خوف.
في مجلس الخمر ذات مساء، بعد أن عاد من معركة شرسة. جلس بصمت، يتأمل جُرحًا غائرًا في ساعده. مرر أصابعه عليه ببطء، ثم قال:
هذا الجرح.. من رجلٍ مات. قتلتُه؛ لأنني رغبتُ في زوجته. قتلته كما يقتل الذئبُ الجائع. وغدًا.. أغتسل.
رفعت «زنوبيا» كأسها، نظرت إليه بنصف ابتسامة، وقالت:
سمعت عن الأمر. «ليلى».. أما زلت تحب تلك المحظوظة؟
لم يجب فورًا. ارتشف جرعةً وافرةً، ثم قال بثقل:
أحب؟ هاه.. لا أحب غيرك يا زنوبيا -تمامًا كما يفعل الجميع هنا!
ضحك الجميع. لكن «زنوبيا» لم تضحك، بل ظلت تحدّق في عينيه باغتياظ.

وفي الليل، حينما سكر في حضن إحدى الجواري، همس:
غدًا أعود إلى الشلال.. أزيل ذنوبي وأبدأ من جديد.
وكلما اغتسل «آري»، اعتقد أنه خدع صكوك الغفران.. لكنّه كان يغرق نفسه أكثر في مستنقعٍ من الوهم!
في اليوم التالي وفي أحد الأزقة، حاول فتًى ساذج سرقة كيس نقوده، أمسك به وبينما كان يهمّ بقتله، توقف فجأة، وتذكّر «رافي».. الصبي الذي وعده بأن الغسل في الشلال يطهر من الذنب مهما كان.
قال لنفسه، وهو يعمق سيفه داخل الفتى الأحمق:
لو رأيتني الآن يا «رافي».. أيُطهر الشلال من قتل فتًى في مثل عمرك؟
وانفجر ضاحكًا، ضحكات مجلجلة شقّت سكون المكان.. ظانًّا أن الماء لا يحاسِب من يغتسل فيه، بل ينسى.

ذات صباح، دخل المعبد المهجور الذي يقع على طرف السوق، وهناك وجد الكاهن، شيخًا أصابه العمى، قالوا: من كثرة البكاء على الخطايا التي سمعها!
قال الكاهن وقد سمع وقع خطواته:
آري.. عدتَ إلى الفسق والدماء، أليس كذلك؟
جلس أمامه، دون خجل، وأجاب:
لا بأس، الشلال ما زال هناك.. سيغسلني غدًا.
هزّ الكاهن رأسه، وتمتم:
ومن قال إن الشلال ما زال يطهّرك؟ لعلك في كل مرة تُغمس فيه، يزداد ماؤه نجسًا..
قاطعه آري، مغتاظًا:
إنه ماءٌ مبارك كما أخبرتني، لا يتنجّس. وأنا أملك طريقه، وسأغتسل متى شئت.
أطرق الكاهن برأسه، وقال بنبرة مرعبة:
ربّما.. لكنك لن تعرف طريقه إلى الأبد. وربما، يتغيّر الماء، يختفي، أو يوقف الربّ سريانه..
أومأ «آري» بسخرية وخرج من المعبد، يضحك كعادته.. لكنّ الضحكة، هذه المرة، كانت أقلّ اتساعًا، وكأنّه سمع صوتًا خافتًا ناحية قلبه!

لم يتوقف «آري» عن سفك الدماء بعد كل غسل، بل زاد في طقوسه؛ حتى بات ماء الشلال مألوفًا له أكثر من وجوه البشر، وكأنه موضع تطهيرٍ بعد كل ذبح. غير أنه ما تطهّر قطّ، ولا نُقّي. بل كان يخرج منه أكثر تعطّشًا، وأشد فتكًا من أي وقتٍ مضى.
لكنه، في إحدى المرات، لم يكن وحده. كان هناك من يراقب. بينما كان يغتسل على عجل، تتسابق أنفاسه وتضطرب يداه، لمح الكاهن واقفًا عند حافة المكان، صامتًا، بعينين ثابتتين كالصخر يَشهد ويُدين كل شيء.
قال «آري» بصوت متهكم، وهو يسكب الماء فوق رأسه:
أتيت لتراني أتطهّر، أم لتتطهر أنت؟
آثر الكاهن الصمت إلى أن اقترب منه بخطى بطيئة، فأردف «آري»:
أخبرني أيها الكاهن، أتدينني على توبتي؟
أجابه العجوز، وعيناه العمياء تحدّق في روحه لا جسده:
لستُ أُدينك.. أنت من دان نفسه؛ منذ أن ظننتَ أن الرب يُخدع بالماء.
قال «آري» ساخرًا:
سرُّ طريق الشلال سيبقى بيني وبينك، فلا تخف..
اقترب الكاهن أكثر، وقال بصوتٍ حاد:
جعلت الماء ممرًا لخطاياك. جعلت التوبة خدعة. رأيتك تبكي، فبكيت معك. أما الآن، فإني أبكي على الشلال، لا عليك؛ لأنه تلوّث بنيتك وروحك وجسدك.
دون وعي اقتربت يد «آري» من خنجره، وصرخ:
أنت السبب. أنت من دلّني، ثم وقفتَ الآن تلعنني.
ابتسم الكاهن ابتسامة حزينة، وقال بصوتٍ خافت -كأنما يخاطب الغائب:
لأنك لم تبحث عن خلاص؛ ومن استخفّ بالغفران، أُغلق عنه بابه.
في تلك اللحظة، التهبت عروق «آري» غيظًا، واتقدت عيناه شررًا، لم يجد مهربًا من صورته في عيني الكاهن، تلك الصورة التي كشفته وعرّته. سحب الخنجر من غمده بسرعة، وانقضّ على الكاهن، وغرسه في صدره بلا تردد.
لم يصرخ الكاهن إثر الطعنة، بل واجهها بأنين خافت، وتمتم بصوت بالكاد يُسمع:
النبع.. لن.. يغفر.. لك.
ثم سقط على الحافة، وانزلق إلى الماء بانسياب رهيب، كأن الشلال آوى جسده. احتضنه، غمره، وابتلع أثره في صمت جليل.
وقف «آري» متجمّدًا. يحدّق في الدم الذي شقّ صفاء الماء، فأفسده. مد يده.. حاول أن يغتسل. لكن الماء كلما مرت اللحظات صار أكثر حمرة وقتامة وثقلًا؛ كأنّه لُعِن، وما عاد بإمكانه أن يطهره أو يطهر أحدًا.
سمع الصوت مرة أخرى، يتردد في رأسه، لا يدري إن كان من فم جثة الكاهن أم من تخيلات نفسه:
لن يُغفر لك.
ارتد للوراء في ذهول، يحدّق في الجسد الراقد وسط الماء، غير قادر على تمييز الموت من الحياة. لم يعرف حقًّا إن كان هذا الصوت من الكاهن أم من وهم اعتراه. تلوث نبع الغفران بالدم، وصار شاهدًا على أول نفس تزهق في حضرته.
في الأعلى، فوق الصخور، حامت الغربان بنعيب جاف، وفي الأسفل استلقى الكاهن ساكنًا، متخذًا من الشلال كفنا ومدفنًا، وشاهدًا ومرفأ.
في تلك الليلة، وللمرة الأولى منذ زمن، غفا «آري» بجسد مُنهك وروح مُربَكة. وفي نومه رأى «رافي». كان الصبي يقف داخل الشلال، يغتسل بنفس الطريقة التي فعلها هو، ويتدفّق على رأسه ماء الشلال الممزوج بالدم، ثم التفت نحوه، حدّق بعينين ثابتتين وقال:
هل محوتُ ذنبي... أم نسختُ ذنبك؟
فزع «آري» من نومه.. تنفس بعنف، وتحسس بيده خصره حيث المفتاح، ولم يعرف إن كان حلمًا أم محاكمة.

لم يعُد «آري» كما كان. لم تعُد خطواته واثقة، ولا عيناه صافية كما عهدها من عرفه. كان يسير في الأرض وتنأى عنه، كأنها لا تعرفه.
الشلال، نبع الغفران، صار في ذاكرته خندقًا من الدم، وصوت الكاهن يتردد بلا انقطاع: لن يُغفر لك. كانت هذه الكلمات تلاحقه كما يتبعه ظله في وضح الشمس، لكنه ظِلّ ثقيل، كصخرة أبدية فوق كتفيه.
حاول أن يعود إلى حياته القديمة -مجالس اللهو، منازلات السيف، الخمر، الغواني- لكنه لم يستطع أن يضحك ضحكة كاملة، ولا أن يثمل حتى النسيان. صار لكل شيء طعم فاسد. وقال في نفسه متمنيًا في لحظة صدقٍ نادرة: يا ليت النبع يغير ما في القلب، كما يمحو الذنوب!
وصل إلى بيت «زنوبيا»، فهشّت له الوجوه، وتراقصت الأجساد والأنخاب، لا يعرفون بعد أن الفارس اختل توازنه. جلس هذه المرة ساكنًا في الركن، ينظر إلى الجدران، فلا يرى فيها إلا طيف الكاهن، ينظر إلى الكؤوس، فلا يرى نبيذها بل دم الكاهن، مخلوطًا بنظرات من مرّوا في طريقه وسقطوا على يده. ازدادت الضحكات من حوله، صار صوتها صفيرًا في رأسه. تحسّس سلاحه فلم يجده. تحسّس قلبه.. فلم يجده.
اقتربت منه «زنوبيا»، التي كانت ترمق توتره بصمت، ومالت برأسها عليه، وقالت بنبرة باردة:
سمعت أن هناك فتًى يطوف المدينة يسأل عنك. طويل، نحيف، عيناه مثل عينيك حين كنتَ عبدًا.. اسمه «رافي» ابن تلك الجارية التي ضحكتَ على حُزنها بينما تقتل زوجها ذات يوم.
لم يردّ «آري». تجمّد كأسه في يده. نظر إليها نظرة طويلة، ثم شرب دفعة واحدة.. وهرع خارج المكان، يده على فمه، مختنقًا من الرقص والضحكات، ومن الوجوه التي تحاصره. هام على وجهه في الأزقة، بقدمين ثقيلتين تجره كأنما تحملان خطاياه كلها.
مرّ على قرى كان يومًا سيدها، حيث أذلّ رجالها، وأسر نساءها.. لكنه لم يجرؤ أن يدخل. كان يشكّ أنهم ما عادوا يخافونه.. بل ينتظرونه أن يخرّ.

استمر الحال.. ومع مرور السنوات لم يعد الناس يخشونه، بل صاروا يشفقون عليه، يبصقون عليه.. أي شيء إلا إجلاله. لم يعُد مُهابًا، بل تائهًا، وعاجزًا بجسد هزيل، فاقدًا لهويةٍ طمسها خوفه من عذابٍ لا خلاص منه. حاول أن يُغري نفسه بكذبةٍ جديدة: أن هناك نبعًا آخر، أن هناك توبة جديدة. لكنه لم يجد غير صدى الصوت: لن يُغفر لك.

لم تمتدّ به الأرض إلا إلى أولها؛ الصحراء التي لفظته وكانت نفسها أول ما عرفه حين كان عبدًا. وسار فيها يومًا مكبَّل القدمين، يطارد ظلّ سيّده تحت الشمس. اليوم يعود إليها، لا عبدًا بل منبوذًا. لا أحد يقوده، فقط لعنة تجره حيث بدأ!
ذات فجر شارف على الزوال، بينما يتلوّى تحت نخلةٍ عجفاء وحيدة، تقيه لهيب الشمس وتمنحه تمرًا يسدّ به رمقه، وبجوارها بئر شحيحة الماء يتقوّت منها، سمع وقع خطواتٍ خفيفة. رفع رأسه بصعوبة، فوجد الطفل -ذاك الذي رآه ذات يوم عند الشلال؛ لكنه لم يعد طفلًا؛ بل صار شابا يافعًا ممتطيا فرسًا شهباء. ترجّل من فوقه واقترب بنظرات حاقدة، وصوتٍ منخفض لكنه قاطع:
أتذكرني؟
رفع «آري» رأسه بصعوبة، جف حلقه وتلعثم:
أنت.. رافي؟
اقترب «رافي» بعينين جامدتين:
نعم.. أنا.. الطفل الذي قتلت أبيه وأذللت أمه.
حاول «آري» النهوض، لكن ركبتيه خانتاه.. تمتم:
لقد كنت ضائعًا، شابًّا أحمقًا أو قل رجلًا، كما أنني.. لم.. أكن.. في ذلك وحدي!
تعجب «رافي»:
بل كنت وحدك عندما ضحكت وسيفك يغمد في صدره؛ وكنت وحدك عندما قلت لي: إن النبع يطهر الجميع.
ألا تمل من الكذب أيها البغيض؟ إنك حقًّا لن يطهرك أي ماء!
عرف «آري» في داخله أن «رافي» لم يأتِ ليسمع ندمًا، بل ليُنزِل الحساب، لكنه رغم ذلك توسل:
أنا رجل ميت، إن كان ما يزال في قلبك مكان للرحمة.. أرجوك.. اصفح عني!
أشار «رافي» إليه بيده، ثم أعادها ببطء إلى صدره:
أجل.. أنت كذلك! فلا تطلب الصفح.. فهاهنا لا مكان للعفو ولا مقام للمغفرة.
ارتسمت على وجه «رافي» بسمة خاطفة لكن عينيه ظلّتا تحدّقان بجمود. ثم تقدم بخطًى ثقيلة نحو النخلة الوحيدة في المكان كله، وانحنى يجمع الأعواد اليابسة المبعثرة حول جذعها. أخرج من حقيبته زجاجة زيت.. وسكبها بصمت، ثم بخفة أشعلها.
وسط ارتعاب «آري» ارتفعت ألسنة اللهب، ولما رآها ازداد هذيانه، وتعالى صوته المتهدّج:
لا.. لا.. لا تفعل.. إنها ظلي وطعامي. توقف؛ وسأخبرك أين النبع!
لكن «رافي» لم يتوقف إلا ليراقب اللهب وهو يزحف إلى الأعلى، يلتهم السعف، ويمحو الظلّ.
الطفل الذي علمته الخداع تفوق عليك.. لا أريد النبع.. لا، بل أريد العذاب لروحك وجسدك.
صرخ «آري»، زاحفًا على مرفقيه:
أرجوك توقف، اغفر لي.. اغفر لي؟!
وقف «رافي» برهة ينظر إليه، ثم أعرض عنه. اتجه صوب جرّة الماء، قلبها ببطء وهو يراقب لهاث لسانه وصراخ قلبه ببرودٍ قاسٍ. تابع «رافي» انتقامه مدحرجًا حجرا ثقيلا سدّ به فم البئر بإحكام -ربما إلى الأبد.
استمر «آري» صارخًا:
لااااااااااا.. أيها الوغد.. لن يُغفر لك.. لن يُغفر لك.
اقترب «رافي» منه حتى صارت قدمه تحت وجه العجوز. لاحظه «آري» يتفرّس في خصره. حيث ظهر مفتاح مخبئه السري، الذي فيه ما جمع من مال وكنوز.
وفي اللحظة التي فطن فيها وحاول إخفاءه، مال «رافي» نحوه، سحب المفتاح، وجرى كالسهم. قبل أن يختفي «رافي» في الرمال تاركًا خلفه دخان النار، وبئرا مسدودة، و«آري» تحت قيظ الشمس والعطش والجوع، التفت للحظة، وصاح بوجه «آري»: هكذا تتطهر من ذنوبك! ثم ابتلعه الأفق.
صرخ «آري» ملء ما تبقى من صوته: لن يُغفر لك.. لن يُغفر لك. لكنه عجز عن النهوض ليلحق به. صبّت الشمس لهيبها عليه، وتبخرت عيناه في وهج الرمال. حاول أن يزحف، لكن كل خطوة كانت شوكة، كل صرخة منه ارتدت عليه ساخرة؛ تذكره بأنه لم يعد أكثر من سراب مهزوم.
أدرك -أخيرًا- أنه أورث لعنة الخداع للطفل ذاته. وترك وصيته المسمومة، فانبعثت في غيره إليه. وأن آثار يده رجعت حتمًا عليه.

بقي هناك في الصحراء، لا ظلّ، لا ماء، لا شيء؛ حتى جنّ، وصار يهذي بأسماء كان يعرفها وأخرى لا يعرفها، ويرى في الأفق شلالًا من الدم، تطفو فيه وجوه تطلبه للقصاص. ضحك، ضحكة مجنونة هشة، ثم بكى.. ثم سكن للأبد. سقط في النهاية عند جذع النخلة، تحت سوط الشمس؛ حتى انتفخت جثته وذابت على مهل، دون شاهد أو دعاء.

إسلام محمد زكي زغلول

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى