الأحد ٣١ آب (أغسطس) ٢٠٢٥
بقلم رانيا مرجية

السكر الذي لا يذوب

لم يكن يوسف يتجاوز الخامسة والعشرين حين بدأ يشعر بالعطش الذي لا يروى، وجفاف الفم، وثقل الجسد. في البداية اعتقد أنّها مجرد إرهاق من العمل الليلي في المخبز، حيث كان يصنع الخبز للمدينة التي لا تنام. لكنه حين بدأ يفقد وزنه بسرعة ويستيقظ مرات عديدة في الليل ليشرب الماء، أدرك أنّ شيئًا ما يتآمر في داخله.

دخل العيادة، وهناك جاءه التشخيص الجارح: “أنت مريض سكري”.

انكمش قلبه. لم يعرف إن كان الخوف من المرض نفسه أم من الكلمة التي ظلّت ترن في أذنه كحكم مؤبد.

التعايش مع الأرقام

منذ ذلك اليوم صار يوسف أسير الأرقام: رقم السكر صباحًا، رقم السكر بعد الأكل، وحدات الأنسولين، غرامات الكربوهيدرات. كان يظن أن الحياة رحلة مليئة بالحب والقصائد والخبز الساخن، لكنها تحولت إلى آلة حسابية باردة.

كان يضحك بمرارة ويقول:

“حتى ابتسامتي باتت تحتاج إلى قياس… أضحك بعد الطعام أو قبله؟ وهل الضحكة سترفع السكر أم تُنزلُه؟”.

جسد يتحول إلى خريطة للوخز

ذراعه تحولت إلى خطوط أزرقية من كثرة الإبر. أصابعه فقدت حساسيتها من وخز جهاز القياس. ومع ذلك كان يتظاهر أمام عائلته بأن الأمر تحت السيطرة.

لم يرد أن يرى دموع أمه وهي تقول: “الله يشفيك يا ابني… صبر جميل والله المستعان”.

الحب الذي أُطفئ فجأة

وقع في حب مريم، ابنة الجيران. كانت تراه وهو عائد من المخبز منهكًا، فتمد له فنجان قهوة بيد مرتجفة. أحبها لأنه شعر أنّها تفهمه بلا كلام. لكن حين تقدّم لخطبتها، همست أمه في أذنها:

“فكّري جيدًا، يوسف مريض سكري، والمرض وراثي… قد يحرمك من الأمومة أو يعجّل برحيله”.

ترددت مريم، ثم انسحبت بصمت. لم يلومها، لكنه شعر أنّ المرض ليس في دمه فقط، بل صار وصمة تُطبع على جبينه.

النهاية الصادمة

في إحدى الليالي، بينما كان يوسف يعجن العجين ويُخرج الأرغفة الذهبية للزبائن، شعر بدوار شديد. عرق غزير سال من جبينه، وبدأ بصره يضطرب. لم يُسعفه أحد، فقد ظنه الجميع متعبًا كعادته. سقط بين الأرغفة الساخنة، ولم يستيقظ بعدها.

لكن المفاجأة لم تكن في موته… بل في التقرير الطبي:

يوسف لم يمت بسبب ارتفاع السكر… بل بسبب هبوط حاد في السكر نتيجة جرعة أنسولين زائدة.

لقد مات وهو يظن أنّه يحارب ارتفاعه، بينما كان عدوه الحقيقي في الاتجاه المعاكس.

المفارقة المريرة

تشيّع جنازته بدموع أهله وجيرانه، وقالت أمه وهي تبكي:

“قتله الدواء الذي كان يُفترض أن ينقذه!”.

وهكذا، لم يكن السكري مجرد مرض يسرق الجسد ببطء… بل كان لغزًا يقتل أحيانًا من حيث لا نتوقع


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى