الثلاثاء ١٨ آذار (مارس) ٢٠٢٥
بقلم الهادي عرجون

التذكر والاستذكار، «زمن الغبار» نموذجا

ما قبل القول: "نحن نعيش نصف حياة فقط، أما النصف الآخر فذاكرة"

ميلان كونديرا: « رواية خفة الكائن التي لا تحتمل ».

في ظل التشوهات الفكرية التي انصبغت بها تنظيرات الإسلام السياسي وأطروحاته الأيديولوجية في العالم العربي وتونس خصوصا، بتمكنهم من التحكم بدواليب السلطة واستغلال مواقعهم لترسيخ تلك تشوهات الفكر الظلامي المتشدد، في جميع مظاهره، الثقافية، والدينية، والسياسية، يولد من رحم هذا القلق الوجودي رواية «زمن الغبار» للكاتبة فاطمة بن محمود لتفكيك خطابه، وتفضح آلياته، وتنقد مبادئه التي تناقض المعطيات الدينية التاريخية، معتمدة على المنهج العقلاني في التحليل والمقاربة النقدية، بالتحليلات والتفاسير القرآنية والأحاديث النبوية والنقود الموضوعية المعززة بالأسئلة الفلسفية العقلانية العميقة.

فمن خلال هذه الرواية تنبش الكاتبة مرة أخرى في بعض المشاكل الزائفة التي أتى بها الإسلام السياسي إلى تونس، لكن بتقنية مختلفة تماما عن روايتها «الملائكة لا تطير»، حينما تجعل من الزمن والذاكرة أبطالا فعليين.

حيث يمكن تصنيف الرواية ضمن الروايات السياسية الاجتماعية الهادفة التي تعيش قلقا وجوديا وصراعا نفسيا مع الواقع المتغير إلى عرض مشاهد وأحداث واقعية عن وضعية الأسر التي عانت من تسفير أبنائها إلى بؤر التوتر ولم تجد آذان صاغية لها وكذلك وضعية المسفرين الذين غرر بهم ليكتشفوا زيف ما وجدوه رغم تعنت البعض منهم مع إضفاء بعض الجماليات السردية المتخيلة على أجواءها.

فلا تكتفي الكاتبة بتصوير ما يتعلق بعائلة (ثريا) ومن ارتبط بها من شخصيات روائية، وإنما تمتد لتحكي عن تونس في زمنين مختلفين زمن ما قبل الثورة وزمن ما بعد الثورة، كما تنقل أحداثا أخرى تتجاوز حدود تونس وتستفحل بكثير من بلدان العالم العربي، وتستثمره في إشارات فنية دالة لتجسد تحولات الحياة وتبدلات مصائر الشخصيات الروائية.

وهو ما يجعل السرد في رواية «زمن الغبار» هو التمفصل السردي المزدوج الذي يوزع الخطاب الروائي إلى مجموعة من الحالات والتحولات التي تتشاكل مع زمن الأحداث، والأنساق الاجتماعية: فالخطاب الروائي يتمفصل إلى مسارين سرديين:
ما قبل الثورة، وما سبقها من أحداث، وبالتالي بداية برنامج سردي يؤسس لواقع معيش.

ما بعد الثورة في ظل الانتقال السياسي والتحولات الاجتماعية، حيث سيبدأ برنامج سردي جديد لواقع مختلف في ظل الأحداث التي عقبت الثورة من اغتيالات و من تسفير الشباب إلى بؤر التوتر.

حيث تتقمص الكاتبة فاطمة بن محمود في رواية «زمن الغبار» دور الصحفية التي تتقصى الأحداث حين تتصل بعائلات المحتجين في الوقفات الاحتجاجية، وتطلب شهادات عن تسفير الأبناء لسوريا. وتلقى التجاوب من ثريا، والصد من عائلات أخرى على غرار أم أمل. تسجل الأحداث وتلتقط صورا لغرفة ربيع ص146. تدون كل التغيرات في حياته، مثل الحديث اليومي، تحايا الصباح، غمامة من الحزن على الوجوه. تسجل هذه المعطيات وتحاول التخفف من ثقلها وتحافظ على عائلتها من غزو أفكار دولة الخلافة لتعيش أزمة نفسية وتحاول أن تطرد الشعور بالاكتئاب والاختناق، «في جهة من المدينة، يقع بيت الكاتبة فاطمة بن محمود التي تركت مكتبها وقد تكدست عليه أوراق كثيرة وجذاذات مختلفة عليها ملاحظات تخص كل شخصية في الرواية»(ص 229)، فزمن الذاكرة أرهقها وجعلها تتـألم لأجل هذه الشخصيات فتشعر كأنها مكان (ثريا) لتجد نفسها في محاولة لسبر أغوار الذاكرة الأنثوية، من خلال الكتابة عنها. غير أنها تبدو وكأنها المرآة التي تعكس أسئلة الذات الأنثوية، من حيث إنها موضوع للحكي.

لتتجاوز الذاكرة في الرواية كونها انعكاسا لمحتوى ومضامين محددة، إلى تمثلاتها بوصفها شكلت محتوى يؤسس الخطاب الروائي وينسج بنياته السردية، وهذا ما تبين من خلال نسق اشتغال الزمن والشخصيات والفضاء ومنظورات الراوي. وهو ما يجعل من الذّاكرة أحد أهم روافد الكتابة الروائيّة، حيثُ إنّها تُسهم في فتح منافذ إلى التّخييل والعبور نحو استقصاء وسبر التّجربة وعوالم الكتابة

لتكون الرواية رواية استذكار بامتياز، نظرًا لتوقف الكاتبة عند مفهوم الذاكرة وسبر أعماقها من خلال سرد أحداث مختلفة في زمن قصير (يبدأ يوم الأحد 28 جويلية 2013 الموافق ليوم 19 من شهر رمضان 1434 هجري الساعة الرابعة مساء وينتهي يوم الاثنين 29 جويليه 2023 الموافق ليوم 20 من شهر رمضان 1434 هجري على الساعة السابعة والنصف) متنقلة بتوقيتاته الزمنية التونسية والسورية، بين مصحة الهناء غرفة رقم 216 في تونس، وعدة أمكنة داخل سوريا من بينها المستشفى الميداني لمعسكر الزرقاوي بمدينة الرقة، وتحديد طبيعتها ووظائفها عند شخصيات عايشت أحداثًا جرت في مدينتين مختلفتين وفي زمن محدد من خلال تصوير أحداث تخييلة.

وعلى الرغم من كثرة شخصيات الرواية، فقد اقتصر القص على بطلين رئيسيين فقط أثارا الكثير من الغبار في رواية «زمن الغبار» ، البطلة الأولى (ثريا) التي تلقت صفعة قوية بهراوة غليظة جعلتها ترقد في غيبوبة بإحدى المصحات الطبية التونسية ، لإسكات صوتها أثناء صراخها (أريد أن أخبر رئيس الدولة بكل شىء)، وإخفاء الحقيقة. أما البطل الثاني (ربيع) فقد تعرض للإصابة بالرصاص أثناء إحدى المعارك التي خاضها للدفاع عن ما يسمى دولة الخلافة الإسلامية بعد أن بايع خليفتها فترك دراسته وبلده وانتمى إليها، وهو يقاتل مدافعاً عنها.

وفي خضم هذه الأحداث فقد اعتمدت الروائية فاطمة بن محمود على فلسفة الذاكرة السردية والتي تعتبر واحدٌ من أهم المحاور الرئيسة، في روايتها « أنا فاطمة بن محمود، نعم أحب أن أكتب حتى لا ننسى»(ص 133)، ولكي لا ننسى كانت الذاكرة منجمًا تستمد منه الرواية مادتها بشكل أو بآخر وهو ما يجعل التقنية السردية (الاستذكار/ الاسترجاع) التي اعتمدتها في روايتها تمثل تقنية محورية، في سرد خيوط الحكاية، من حيث تذكر الساردة جلسات الحديث التي كانت تجمعها بثريا. والتي تقوم فيها بدور الحاكي. لتكون بذلك الذاكرة هي رحلة الذات في الحياة بأشكالها المتعددة، وهي الوسيط بين عالمين (الواقعي والتخييلي)، وهي تعبير صادق عـن مرجعيات الإنسان وقدرته على التواصل مع واقعه بصورة لا تهتم بالماضي فحسب، بل تتجاوزه إلى آفاق الحاضـر والمستقبل.

مع العلم أن الناظر في شخصية (ثريا) المرتبطة بالذاكرة الاسترجاعية التي جعلت من الرواية تبوح بأسرارها وتفتح شهية السرد من خلال لغة تيار الشعور، باعتمادها على تقنية التذكر التي تعتبر إحدى تقنيات السرد الحديث، وهي أن تعود الشخصية الروائية من خلال هذه التقنية إلى الوراء، لتتذكر أحداثاً ومواقفَ جرت معها قبل زمن معين، هذه العودة تجمد الحركة أو سير الأحداث المباشر، لكنها تجمدها لتضيئها أو تلقي بأضواء عليها، الأمر الذي يجعلها أكثر حيوية وخصوبة.

والمتتبع لمسامات الرواية وتفاصيل خطوطها نلاحظ بأن فعل التذكر هو العنصر الأساسي والرئيسي في بناء ديناميكية الرواية وتشكيل زخرفها اللغوي وتشكلها الجمالي في تحديد بنية الرواية باعتبارها كتلة قائمة بذاتها رغم ما فيها من عنونة لمفاصلها ولمقاطعها (يوم الأحد 28 جويلية 2013 الموافق ليوم 19 من شهر رمضان 1434 هجري الساعة الرابعة مساء)، مع تغير المكان والزمن، وهو ما يتلاءم مع قواعد الكتابة الروائية باجتماع عناصرها الفنية التي تجمع الشخصيات والمكان والزمان والأحداث التي تتأرجح بين العقدة والانفراج.

حيث اقترنت فلسفة الذاكرة السردية في الرواية، بعمليةٍ تدوين التفاصيل حيث جنحت الكاتبة لاستخدام عناصر سردية حديثة من تقطيع، وحوار درامي بنوعيه ومناجاة للنفس وتداع حر، وتذكر، ووصف للأمكنة، وبيان دلالاتها، كما تسجل الأحداث، وتلتقط الصور، تدون تحايا الصباح، الحركات والسكنات التي تتداعى في ذاكرة الكاتبة التي اضطلعت بهذه العملية. وقد استقت مادتها الرئيسة المنتمية إلى حيز زمنيٍّ أقدم من زمن التدوين، وهو الزمن الذي ظهر في عددٍ من الإحالات والأحداث (العمليات الارهابية، إغتيال شكري بلعيد، المسيرات المنددة بتسفير الشباب لبؤر التوتر ...).

فمن يتأمل رواية «زمن الغبار» يكتشف أن ثمة صلة قوية بين بنائها وتقنية التذكر، ويلحظ المتلقي حضوراً مكثفاً للذكريات بأنواعها المتعددة في الرواية. من حيث بنائها الفني على الذاكرة الاسترجاعية التي جعلت من الرواية تبوح بأسرارها وتفتح شهية السرد من خلال لغة سردية تتكئ على لغة عفوية بسيطة.

حيث ترددت في الرواية مفردات تشير إلى اهتمام الكاتبة بالذكريات لأهميتها في التداعي الحر لتفاصيل الأحداث ومن هذه المفردات: (تذكرتُ - تذكرني -أذكرُ – ذاكرتي – الذاكرة – الذكريات – ذكرى ...)، وهي تعد مجموعة من المفردات تلخص حياة (ثريا) بناء على تجربة شخصية، وأحداث وشخصيات تمر بالشخصية المركزية سواء أكانت زمنياً أم مكانياً، ومن الطبيعي أن تُعني الروائية بكل تفاصيل شخصياتها وأحداث روايتها. فالماضي على الرغم من سوداويته ودروبه المعتمة، جميل، لأنه يحمل ذلك الأمل الذي ينبض بالحياة. ولكنَّ أيام المستقبل جاءت أشد عتمة وقسوة عندما يتبخر ذلك الأمل عندما يتمسك (ربيع) بسراب دولة الخراب ولكن بعد فوات الأوان "وجد نفسه داخل قبو رطب سكنته رصاصة على ما يبدو مثل عقله الذي أصبح يفكر عائدا للماضي." (ص69).

وهكذا تظل أيام الماضي تحمل في ثناياها معاني الجمال وأحاسيس البهجة الجميلة والحلوة لتنفتح على أمل واسع، فمن لا ماضٍ له لا حاضر له، لقد كانت الذكريات هي الأمل الذي تحيا به نفوس الناس في المجتمع، كما أن استعانة الكاتب بتقنية التذكر لم يكن مصدرها الهروب من الواقع الحاضر، وإنما كان وسيلة لإصلاح الحاضر وجعله أكثر خصوبة وحياة وحيوية.
وقد جاء التذكر عند الكاتبة عفوياً، دون فواصل، وفي تداعٍ حر، ناتج عن استحضار الوعي لما مضى، في الرواية، فقد كانت الذكريات تنثال على ذهنها بعفوية وتلقائية دون تكلف أو تعمل، استدعتها الأحداث والشخصيات، والأزمنة. وتعتبر الذاكرة عند الكاتبة أيضًا وسيلة للكتابة وليست موضوعًا له. فقد تجدها تتخيل أماكن واقعية للسرد كالمستشفى الميداني لمعسكر الزرقاوي بمدينة الرققة حين تصفه، أو بعض الشخصيات كشخصية، (أبو حمزة، أبو الحكم، القائد الشيشاني، أمل السودانية... ) وأيضًا بعض الأحداث التاريخية التي تقحمها من حين لآخر خاصة والسارد لا يتذكرها كما الراوي إنما يتذكر نتفًا من اللغة والنصوص والفنون والواقع ويعيد تركيبها في الحاضر بوساطة الكتابة. ويعكس هذا المشهد الحالة النفسية للبطلة، ودور الارتداد الفني في استرجاع الماضي وربطه بحياة الشخصية النفسية؛ بهدف تعميق الإحساس بالسرور والبهجة والفرح.

تبرز الرواية كنقطة حوار وصراع بين متناقضين، لنقل أفكار ودحض أخرى للبحث عن الحقيقة ليفهم القارئ تركيبة تنظيم الدولة الإسلامية من خلال معاناة أم غرر بابنها الذي تبنى أفكارا ظلامية أدت إلى استدراجه للجهاد في سوريا. وقد مثل حضور الكاتبة فاطمة بن محمود الصوت الموضوعي والمسيطر على النص السردي من خلال امتلاكها لتفاصيل الأمكنة والمعلومات عندما تجعل الكاتبة الراوي أو شخص آخر داخل النص قريب منها لتنقل إليه الحكاية فتكون بذلك منغمسة في كتابة نصها داخل الرواية التي نقرؤها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى