الأربعاء ٢١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٩

حفـــــــلــــــة اللـــــــــــــوبيـــــــــــــــــاء

فـــــرج ياسيـــــن
أخذوني مَعهُنْ لُولادْ
وردّولي الطفولي

فيروز
كلّما سمعتُ وقع مرورها البطيء على الاسفلت المترب أمام باب الدار، يجن جنوني، فأوارب الباب خلسة، وانخرط في طقس تعرّفي يحيط بجسدها كلّه حتى يتوارى عن نظري. لستُ رجل أصوات فائرة ولست ماجناً أو شرهاً، أنا كهلٌ في الخامسة والخمسين تكبّلني واجبات ومبادئ، وكلمة شرف كنت قد أعلنتها منذ زمن طويل ؛ لكنني – مع ذلك – كلمّا رأيتُ هذهِ الصبيّة، وهي تدلّى حقيبتها المدرسيّة الملوّنة على جنبها، وتشمخ برأسها المصرور بحجاب يتوقف انسداله عند أعلى عنقها البض الطويل، يجن جنوني، فأركن إلى الصمت، وكأنني أحاول قول شيء، أو إبداء رأي أو استذكار حالة ما. إنَّ عجبي من نفسي هو ما يستوقفني في مرّات كثيرة فلماذا أنا منشغل كل هذا الانشغال، ولم أجدني مرتبكاً قلقاً مع أنني لا أضمر أي ميل شهواني نحوها. إنه أمر محيّر مجنون، ولاسيما حين أسمع وقع خطواتها وهي تأخذني إلى باب الدار في اللحظة التي تقترحها دخيلتي لمرورها اليومي.

كُنت مثل مراهق خفر، أتسقط حركات جسدها مراقباً، ومفتقداً وازع الموازنة التي يبثها الضمير، وحين أمدّ بصري إلى التفاصيل الراقصة في جسدها يردعني التبكيت والوقار والخجل، فأنقلب راجعاً إلى حجرتي في الدار، وأنا أنصت إلى وساوسي شاحذاً إياها بمواثيق التوبة، ثم منصتاً إلى فمي وهو يقرأ المعوذات والأدعيّة الحافظة من الشطط.
بعد حين تكلفت الأحلام بمحنتي، فأخذت أرى أضغاثاً عجيبة تلوح فيها صورة الصبيّة إطاراً غائماً لأحوال جلّها يردني إلى عالم الطفولة النائي.. ها أنا ذا بين الأقران، بدشداشتي البازا المخططّة، وشعري الهاطل على عينيّ، أعبث بجراء أو قطط حديثة الولادة، أو اضطهد عصفوراً مهيض الجناح، أو أقفز من مكان مرتفع إلى كومة رماد أمام فتيات صغيرات ضاحكات.

بعد بضعة أسابيع عرفتُ أنها من عائلة مهجّرة، وأن ذويها من أبناء المدينة القدامى ؛ لأن جاراً صديقاً زارني في اللحظة التي كنت فيها أتوارى خلف الباب مُنتظراً مرورها اليومي، وبما أنه صفيٌّ لا تخجلني مصارحته، فقد سألته إن كان يعرفها، فذهب إلى أنها تسكن في الجوار، وتدرس في المدرسة الثانوية القريبة من داري. وهو يعرف والدها، ويفترض أن أعرفه أنا أيضاً، ثم رحنا نستذكر أشخاصاً وأماكن ومعالم وقرائن وموتى، حتى توصلت إلى معرفة جذرها العائلي وزعمت أنني – ربما – أعرف والدها منذ الطفولة، فوعد الجار بأنه سوف يوحي إليه بمضامين هذا الحوار فيما بعد.

في الأحلام اللاحقة، رأيتني ألعب في الزقاق مع ثلّة من الأطفال – بنين وبنات– في سن السابعة أو دون ذلك بقليل، نطارد بعضنا بعضاً وندخل بيتاً خرباً مهجوراً في الجوار، فتظهر فتاة صغيرة وتشرع بمعابثتي، تزج جسدي إلى كومة حجارة وتجر شعري محاولةً إجباري على التدلي من حائط أكثر ارتفاعاً من قامتي.

وفي كرّة حلميّة أخرى، أقبلت الفتاة الصغيرة ذاتها وجلست قبالتي، بيننا نار مشتعلة، تنتصب فوقها صفيحة مقصوصة إلى النصف، من تلك الصفائح التي يعلّب فيها السمن. وكأننا نغلي ماءً أو تنضجُ شيئاً.

حين أفقت من ذلك الحلم. نهضتُ فزعاً، وجلتُ في أركان الدار دون هدى، يضج في رأسي فراغ مُرَقَّش بموجات من الصحو ما تلبث أن تنمحي، بعضها يقرّب من ذاكرتي صوراً بالأسود والأبيض، تغيم حيناً وتنجلي حيناً آخر، لكنني ذهبت إلى المطبخ وتشاغلت بإعداد الشاي، ومع الأزير والبخار المتصاعد تلامحت أمامي صورة مارد ثلجي، أشار عليّ بالقدوم والدخول في مملكة النسيان، فرأيت وجه الفتاة الصغيرة ليس كما هو في الحلم بل كما هو في ذاكرتي.. كيف فاتني ذلك، ها هي الحادثة القديمة تلوح من جديد، كما دأبت على استعادتها مئات المرات في حياتي :

كُنّا ستة أطفال أو سبعة، أكبرنا فتاة في
العاشرة، أخبرتنا بعد الغروب بقليل، بأننا سوف
نقيم حفلة لمناسبة العيد، فاختارت الذكوّر
مِنّا وأمرتنا بالذهاب إلى إحدى مزارع الخضراوات
التي اعتاد الأهالي زراعتها حول شواطئ الصراة
القريبة من حيّنا. وقطف كميّة مناسبة من ثمار اللوبيا،
لم يكن الطريق طويلاً، بيد أن شقّاً صخرياً مظلماً
صار إحدى العقبات المرعبة التي واجهتنا، فجعلنا
نشجّع بعضنا بعضاً راجعين. لكننا عدنا بثمار اللوبياء
فأمرت الطفلة الكبيرة ؛ بأن نذهب إلى منازلنا ونحضر
قدراً وحطباً وماءً وملحاً، ثم أوقدنا النار
وجلسنا حولها نغني ونمرح ونتجاذب الأحاديث.
وكانت تجلس قبالتي طفلة شقراء ناعمة في
مثل عمري، لفت نظري أنها تحضن وجهها
بكفيها وتنظر إلى من بين ألسنة النيران بعينين
شرهتين تبرقان رسالة غامضة إلى أعماقي، وأنا
• لشدة ولهي – جعلتُ أبادلها نظرة مماثلةً
من دون عنوان، فتحترب النظرتان فوق اللهيب
والدخان وأبخرة القدر الصاعدة إلى أسدية
الظلمة المعقودة فوقنا.

نسيتُ أمر الخروج وانتظار الصبيّة في موعدها، وبعد بضعة أيام، كنتُ عائداً عصراً إلى الدار، فوجدتني وجهاً لوجه معها، تظاهرت بعدم الاكتراث، لكن ما حصل أحدث دوّياً هائلاً في قلبي، إذ رأيتها وهي ترنو إليَّ مبتسمة، فتوقفت، وتلقيت منها تحية المساء، وأنا فاغرُ الفم، وقبل أن أنطق كلمة واحدة سمعتها وهي تقول:
  هل أنت السيد جميل عايد؟

أجبت: نعم أنا هو.

فرَدّت قائلة: أمي تسلم عليك وتقول لك هل تذكر حفلة اللوبياء!؟

فـــــرج ياسيـــــن

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى